سامر فرنجيّة : الحياة
ربمّا لم ينتبه الكاردينال بطرس الراعي خلال زيارته القصيرة لدمشق إلى مئات الشهداء الذين سقطوا خلال يومي زيارته. وقد يكون محقاً بأن لا يعير الموضوع «السياسي» أهمية، فهو في مهمة دينية تتعدّى السياسة وقتلاها. وربّما لم يستطع أن يرى خلف المواكبة الأمنية التي أمّنها له النظام، المدن والقرى المُهدّمة على رؤوس سكانها. ذاك أن «الإصلاحات لا تفرض فرضاً من الخارج بل تنبع من الداخل»، والدمار، تالياً، آتٍ من الخارج. والمؤكد أن تصفيق فيصل المقداد والرسميين غطّى على صراخ من يعذّبهم أصدقاء المقداد في السجون. غير أن «كل ما يقال ويطلب من أجل ما يسمى إصلاحات وحقوق إنسان وديموقراطيات، لا يساوي دم إنسان واحد بريء يراق». وعندما يفهم الثوار هذه الحقيقة البسيطة، ويركزون على حرية الاعتقاد الديني فقط، لا تعود هناك حاجة لإراقة المزيد من الدماء البريئة.
لم ينتبه البطريرك ولم يرَ لأنه لم يذهب إلى سورية. فمشروع الكنيسة المشرقية الجديدة جغرافياً مختلفة عن التي نعرفها، لا تحدّدها حدود الماضي أو قوانين السياسة. هكذا، لم تكن هذه الزيارة الأولى لبطريرك ماروني إلى سورية منذ الاستقلال، بل كانت افتتاحاً لخريطة جديدة، تذوب فيها الحدود السياسية الموروثة، ويحدد إيقاعها منطق جديد، يعتبر السياسة والثورة والحدود والأكثريات مجرّد عارض، يمكن تجاهله باسم صراع الأقليات المشرقية الجديد. هكذا لم يأخذ البطريرك موقفاً من النظام أو المعارضة، بل كان في مكان آخر لا تطاله تلك التفاصيل، مهما كانت دامية.
لن نجد تاريخ هذه الخريطة الجديدة في توصيات الفاتيكان أو الإيحاءات البابوية، التي قد تُفسّر وتُحلل وتُقرأ بطرق مختلفة. ولن نجدها أيضاً في مآسي مسيحيي العراق أو صراع الحضارات المتجدد في المنطقة. فالخريطة تنطلق من تلك الحوادث لتقدّم رواية محدّدة لحاضر مسيحيي الشرق ومستقبلهم. غيرّ أن تاريخها في مكان آخر، نجد بعض صداه في عملية الاختزال المعمّمة التي بدأت منذ بضع سنوات، ومهدّت الطريق لهذه الخريطة عبر تسطيح الماضي والحاضر وكثافتهما.
ما سمح للبطريرك بتجاهل ما اضــطرّ لتجاهله هو تلك الحملة التي قامت على تلخيص الإسلام بالسنّة، والسنّة بالإسلاميين، والإسلاميين بالســـلفيين، والسلفيين بالقاعدة، ليتمّ تسطيح الجغرافيا والتاريخ، تمهيداً لإعادة رسمهما. فالمواقف البطــريركية من الربيع العربي لم تكن هفوة، والخوف من الثورة السورية ليـــس مجردّ عــنصرية متجددة، بل هما بداية تسطيح السياسة لإظهار معالم الخريطة الجديدة. فقد أعيدت قراءة النصوص والتوصـــيات البابوية بنفَسٍ إلغائي وتسطيحي، لتتحول العلاقات الإنسانية مجرّد عملية إلغاء. فأصبحت العلاقات الاقتصادية مجرّد شراء مذهبي للآراء والتنافس السياسي إلغاء دينياً. أمّا كل ما يمكن أن يعكّر هذا التسلسل المنطقي والدموي، فتمّ تجاهله كعارض يزول عاجلاً أم آجلاً.
ويمكن لجورج صبرا أن يصرح بما يشاء، أو لسعد الحريري أن يبرر الكازينو، لكنهما في آخر المطاف «سلفيان» في طور التكوين، وفق هذه الخريطة المسطّحة. وجاء الكره يملأ هذا التسطيح ويعطيه أبعاداً سياسية. فحفلات العنصرية المتتالية التي انضمت إليها القوى المسيحية اللبنانية بتذاكٍ يدل على غباء سياسي، مهّدت الطريق لهذه الخريطة الجديدة، وتوّجتها باسترجاع أول ذكرى لها، وهي ذكرى «غزوة الأشرفية». تسطيح سني تواجهه قلاع لم تتصل واحدتها بالأخرى، ووظيفة الخريطة الجديدة بناء تلك الجسور.
المنطق الاختزالي ليس حكراً على داعمي هذا الاتجاه المشرقي الجديد، بل له تاريخ طويل، توحِّده مقولة أنّ مرحلةً أو مجموعةً أو حدثاً ما يُعبِّر عنها مُكّونها الأكثر هامشية وتطرفاً. ففي هذا التطرف طهارة ووضوح يسمحان للحقيقة بأن تبرز خالية من أي عارض أو تعقيد قد يشوّشان شفافية تمثيل الجوهر.
هكذا انضم إلى كورس التسطيح مثقفون من الطرف المقابل رأوا في الثورات مجرّد عودة المكبوت الديني. وانتعش هذا المنطق مع تطور الثورة السورية، ووجد عنوانه في «جبهة النصرة» التي أصبحت الحقيقة الوحيدة لهذا التحرك الواسع والفضفاض، وشُخِّصت مشكلات المجتمع السوري في «الرؤوس» لا «الكراسي»، وفق ياسين الحاج صالح، ليتحوّل السوريون إلى «نوع بشري خاص، ميؤوس من صلاحه، إن لم يكن التخلص منه مرغوباً» (الحياة، ٣-٢-٢٠١٣). وربمّا كان هذا ما يدور في رأس البطريرك وهو يدخل الخريطة الجديدة بحماية النظام.
شكّلت الثورة السورية وانهيار منظومة الأسد دفعاً قوياً لهذا المنطق، التقت حوله تيارات مختلفة. ففي اختزال السنة بالقاعدة والثورة بالنصرة والربيع العربي بالسلفيين وتيار المستقبل بفتح الإسلام، منطق واحد يردده منظرو حلف الأقليات الجديد، وسياسيون غربيون لم يتعافوا من أزمتهم العراقية وممانعون في آخر أيامهم يفضلون تدمير المستقبل كـــــي لا يُمسّ تاريخهم الفاشل، ومثقفون حداثويون يحاولون المحافظـــــة على ما تبقى من منظوماتهــــم المفاهيمـــية ولو كان ثمــــن ذلك قتــــل نصــــف الشعب السوري «السلفي». ولجوقة الاختــــزال، شكّل الطاغي شرط المجتمع السياسي وخطاباته. أمّـــا الثورة، فانحلال العقد الذي أبرموه مع الأسد والعودة إلى «حالة الطبيعة» والحرب المفتوحة والبحث عن خريطة جديدة.
يمكن دحض هذا المنطق بسهولة، والبحث عن قراءة مختلفة لدور الكنيسة. غير أن هذا لم يعد ينفع. فجوهرة السياسة قتلها عبر تذويب العارض، الممتد من «التنسيقيات» غير الإسلامية إلى نصف المجتمعات العربية التي عارضت وما زالت تعارض حكم «الإخوان». والاختزال يرفض السياسة، كعملية إدارة العارض وتطبيع الممكن، ليستبدلها بمواجهة الجوهر في صراع مفتوح وأزلي. هنا لا مكان للغة: فإما التطابق ما قبل اللغوي وإما الصراع المفتوح الذي لا يحتاج إلى كلام. وفي خريطة البطريرك، لا كلام ولا سياسة، مجرّد وجود من جهة وأمور غير مهمة من جهة أخرى.
غير أنّ الاختزال خطر على أصحابه أولاً. فقرار بعضهم وضع طوائفهم في خطوط الدفاع الأولى عن النظام السوري انتحاري، مهما حاولنا تبريره. فسياسة الاختزال إجرامية في طورها الأوّلي، لكنها سرعان ما تتحوّل سياسةً انتحارية مع استكمال الاختزال باختزال مضاد. فلمنظّري تحالف الأقليات أن يختزلوا خصمهم ويؤبلسوه في مهرجانات الكره ويتجاهلوه في احتفالاتهم التنصيبية، طالما أنه يمتنع عن الخطوة المضادة. ولكنْ في تذاكي المختزلين تكمن استحالة، هي أن الاختزال فعّال طالما لم يُستكمل.