نقديّة بقلم: رياض الحبيّب
خاص: موقع المفكر الحر
أنا الآن هنا في سوبر ماركت وهذا شريط دي ڤي دي مكتوب عليه: حدود العمر 13 سنة وهذا آخر مكتوب عليه 16 سنة وأنا هنا أمام التلفزيون أشاهد برنامجًا عنوانه: (للنساء فقط) وأنا هنا أمام الكومبيوتر أحاول تنزيل برنامج مكتوب عليه 18 سنة. وكنت هناك في الجامعة أحضر درسًا فيزيائيًّا في حقل الميكانيك الكمِّي؛ قال لنا الأستاذ- العراقي الحامل درجة دكتوراه من لندن المعروفة بعاصمة الضباب: أنتم ترون الآن صخرة صغيرة تتدحرج من أعلى جبل بتأثير جاذبية نيوتن، لا يخطر في بال أيّ منكم احتمال سقوط هذه الصخرة إلى أعلى! لأنكم تتعاملون مع أجسام مرئيّة. أمّا في العالم غير المرئيّ فاحتمال السقوط إلى أعلى ممكن للجسيمات الصغيرة (الدقائق) المتحرّكة حركة نسبيًّة في مستوى طاقة ما. أمّا الآن فأنا هنا لأعلن أنّ هذه المقالة موجّهة إلى الأشخاص الذين صعدوا إلى القمر
شكرًا لموقع المفكر الحر على تفضّله بنشر قطعة “السفور والحجاب” وهي من مقاطع قصيدة “ثورة أهل الجحيم” بل ملحمة من مُطوَّلات الشاعر العراقي الكبير جميل صدقي الزهاوي ومن جواهره، نظمها سنة 1929 م وسوف أقوم بتشكيل حروفها قريبًا لينشرها المفكر الحر مشكورًا. هنا بدايتها التي سخر بها شاعرنا من عذاب القبر
بعد أن مُتُّ واٌحتواني الحَفيرُ * جاءني مُنكَرٌ وجاءَ نكِيرُ
مَلَكانِ اٌسْطاعا الظُّهُورَ ولا أدري لماذا وكيف كان الظهورُ
إلى أن وصل بها الشاعر إلى مقطع “السفور والحجاب” الذي استوقفني طويلًـا في موقع المفكر الحر لأني لم أقرأه من قبل ولم أسمع عنه
قال هلْ في السّفور نفعٌ يُرَجّى؟ * قلتُ خيرٌ من الحِجاب السّفورُ
إنما في الحجاب شَلٌ لشعْبٍ * وخَفاءٌ وفي السّفور ظُهورُ
كيف يسمو إلى الحضارة شعْبٌ * مِنهُ نِصْفٌ عن نصفِهِ مستورُ؟
ليس يأتيْ شعبٌ جلائلَ ما لمْ * تتقدمْ إناثُهُ والذكورُ
إنّ في رونق النهار لناسًا * لم يَزُلْ عن عيونها الدَّيجُورُ
لذا ذهبت إلى أحد المواقع الالكترونية المهتمّة بالشعر والشعراء، هذه المَرَّة “بوّابة الشعراء” للبحث في ديوان الزهاوي عن قصيدة “ثورة أهل الجحيم” إذ ذكرتُ في معرض حلقة بحر الخفيف قِطعة ونُتفة للزهاوي عن موضوع السفور والحجاب كانتا ممّا قرأت في أحد مناهج المدرسة الثانوية في العراق ولم أعثر على ديوانه إلّـا قبل بضعة أيّام. فبحثت لكني لم أعثر على “ثورة أهل الجحيم” في البوّابة! إنما عثرت عليها في “إجابات غوغل” وقد تفضل بتدوينها كاملة أحد الإخوة العراقيين من البصرة. فآمُلُ في أن يُتقِن أصحاب المواقع الالكترونية المعنية بالشِّعْر عملهم في المستقبل مع مزيد من البحث والأمانة العلميّة والدقّة الممكنة
وفي خلال البحث في قائمة ديوان الزهاوي الطويلة عثرت على قنبلة أدبيّة، رأيت أنها تحتاج إلى إثارة وتفجير. والقنبلة هي في عثوري على قصيدة “خدَعُوها بقولِهِمْ حَسْناءُ” المشهورة للشاعر المصري الكبير أحمد شوقي والتي تغنّى بها الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب في ديوان الزهاوي! وقد مضى يوم واحد فقط على ذكرها مثالًـا على بحر الخفيف في سلسلة حلقات تعليم بحور الشعر، منقولة عن ديوان أحمد شوقي الذي في “بوّابة الشعراء” فالقصيدة “الحسناء” مدوّنة في كلا الديوانين، من تسعة أبيات في ديوان شوقي ومن ستّة عشر بيتًا في ديوان الزهاوي. ويبدو للقارئ البسيط أنّ الزهاوي قام بتشطير قصيدة شوقي. وقد سبق لي إيضاح معنى التشطير في حلقة بحر الرّمل إذ ذكرت مثالًـا عليه من محاولتي تشطير بيت امرئ القيس المشهور (دنتِ السّاعة واٌنشقّ القمَرْ * عـن غـزالٍ صادَ قلبي ونفرْ) إلى التالي
دنتِ السّاعة واٌنشقّ القمَرْ * وَصَلتْ سارةُ ما أحلى الخبَرْ
قمَرٌ أفصَحَ في رَوعَـتِهِ * عـن غـزالٍ صادَ قلبي ونفرْ
فهل يجوز القول يومًا ما أنَّ اٌمرأ القيس مرّ على عصرنا مرور الكرام فاقتطع من هذين البيتين بيته (دنتِ السّاعة…) ثم عاد إلى عصره ليكمل مشواره ويموت؟ لا، بل ضرب من خيال ساذج. وهل يأتي متشاعر، يومًا ما خلال وجودي أو بعد موتي، لينسب إلى نفسه التالي (قمَرٌ أفصَحَ في رَوعَـتِهِ * وَصَلتْ سارةُ ما أحلى الخبَرْ) واضعًا اسم محبوبته (غادة، عبلة، خولة…) عوض اسم محبوبتي سارة؟ بل خيال أقلّ سذاجة لكنه غير مُستبعَد في زمن التبست فيه معاني الخُلُق والمروءة والشرف
فـ “حسناء” شوقي تسعة أبيات لكن الزهاوي الذي قام بتشطيرها، كما يبدو، أهمل بيتًا واحدًا، لذا أصبح عدد أبيات قصيدته “الحَسْناء” أيضًا ستة عشر بيتًا. هنا أوّلًـا قصيدة شوقي كاملة والتي لها مقطع على يوتيوب بأداء الموسيقار عبد الوهاب، عبر الرابط التالي، مذكور في هامشه أن الأغنية مسجّلة سنة 1926 فكيف سجّلها عبد الوهاب وأين؟ إذ بدأ عمله في السينما عام 1933 بـفيلم (الوردة البيضاء) وفي الإذاعة عام 1934؟ وهذا ما يدعو إلى تساؤلات أخرى؛ كم كان عمر شوقي (1868 – 1932 م) يوم نظم قصيدته الحسناء حتى قرأها عبد الوهاب (1902– 1991 م) فأعجب بها وغنّاها فوصلت إلى مسمع الزهاوي (1863 – 1936 م) فقام بتشطيرها؟ أو متى نشر شوقي قصيدته حتى عثر عليها الزهاوي منشورة في صحيفة ما أو مجلّة فشدّته فترك عمله وكل اهتمام له جانبًا وعزم على تشطير قصيدة شوقي؟
خَدَعوها بقولِهِم حَسناءُ * والغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَناءُ
أَتُراها تَناسَتِ اٌسمِيَ لَمّا * كَثُرَت في غرامِها الأَسماءُ
إِنْ رَأَتني تَميلُ عَنّي كَأَنْ لَم * تَكُ بَيني وبَينَها أَشياءُ
نَظرَةٌ فابتِسامَةٌ فسَلامٌ * فكَلامٌ فَمَوعِدٌ فَلِقاءُ
ففِراقٌ يَكونُ فيهِ دَواءُ * أو فِراقٌ يَكونُ مِنهُ الداءُ
يَومَ كُنّا ولا تَسَل كيفَ كُنّا * نَتَهادى مِن الهَوى ما نَشاءُ
وعَلَينا مِن العَفافِ رَقيبٌ * تَعِبَت في مِراسِهِ الأَهواءُ
جاذَبَتني ثَوبي العصِيَّ وقالَتْ * أنتُمُ الناسُ أَيُّها الشُعَراءُ
فاتَّقوا اللَهَ في قُلوبِ العَذارى * فالعَذارى قُلوبُهُنَّ هَواءُ
وهنا قصيدة الزهاوي التي قمت بتضمين أشطر شوقي فيها، ما كان واجبًا على الموقع الالكتروني أن يفعـل (إذا ما رآى التشطير بأمّ عينه وإلّـا فألتمس له العذر) لكنّ الإحتمال الآخر هو أن حسناء شوقي وصلت إلى شهرة كافية ليكتشف قارئ حسناء الزهاوي أنّها مُشَطَّرة من حسناء شوقي، هذا الاحتمال ممكن في حال غياب إشارة ديوان الزهاوي إلى حسناء شوقي، أو غياب الأقواس التي تقتضي أخلاق الشعر وضع أشطر شوقي المُشَطَّرة في ما بينها. فهل افتقر الزهاوي إلى أخلاق هو من أكثر الدّعاة إليها؟ بل هو أكثرهم إشارة إلى الشعر وأخلاقه عبر تاريخ الأدب العربي كلِّه وأكثر الشعراء إشارة إلى الشعراء والمتشاعرين وإلى النقد وإلى الفنّ كالغناء والموسيقى وإلى العِلم والفلسفة. فانظر-ي في ديوانه واحكم-ي بنفسك
؟(خدعوها بقولهمْ: حسناءُ) * شَعْرُها الليلُ والجَبينُ ذُكاءُ
غرَّها ذلك الثناء فلانتْ * (والغوانيْ يَغرُّهُنّ الثناءُ)؟
؟(ما تراها تناستِ اٌسْميَ لمّا) * ذكرتْ نسْبَتي لها العُـشَراءُ
ما تناستْ لشيءٍ اٌسمِيْ ولكنْ * (كثُرَتْ في غرامِها الأسماءُ)؟
؟(إنْ رأتني تمِيلُ عنّيْ كأنْ لمْ) * يجتذبْها يومًا إليَّ الولاءُ
وكأنْ لمْ أوافِها وكأنْ لمْ * (تكُ بيني وبينها أشياءُ)؟
؟(نظرة فاٌبتسامة فسلامٌ) * مِنْ بَعيدٍ يُوحى بهِ فرجاءُ
فاٌقترابٌ فوقـفة فاٌستلامٌ * (فكلامٌ فـموعِـدٌ فلِقاءُ)؟
؟(يومَ كُنا ولا تسلْ كيف كُنّا) * نتلاقى والعَيشُ رَغْـدٌ رَخاءُ
نتلاقى وعِندَ ما نتلاقى * (نتهادى مِن الهوى ما نشاءُ)؟
؟(وعلينا من العفاف رقيبٌ) * دونهُ في التيقظ الرُّقباءُ
مارَسَتهُ الأهواء مِنّا إلى أنْ * (تعِبَتْ في مراسِهِ الأهواء)؟
؟(جاذبَتْني ثوبيْ العَصِيَّ وقالتْ) * ببُكاءٍ وهلْ يفيد البكاءُ
كيف ترضون بالخداع وأنتمْ * (أنتُمُ الناسُ أيّها الشعـراءُ)؟
؟(فاٌتَّقوا اللَهَ في خداع العَـذارى) * فهْوَ إثمٌ تهتزّ منهُ السَّماءُ
لا تدسّوا الهوى لهنّ غُرورًا * (فالعـذارى قلوبُهُنّ هواءُ)؟
عِلمًا أن الزهاوي قد رثى شوقي بقصيدتين إذ توفّي شوقي قبله بحوالي أربع سنين؛ إحداهما من الخفيف وقعت في سبعين بيتًا فاقتطفت منها التالي
فقدَتْ مِصْرُ فهْيَ سكرى المآقي * كوكبًا في سمائها ذا اٌئتلاقِ
كوكبًا كان يُرسِلُ الشِّعْرَ نورًا * ثمّ يرمي به على الآفاقِ
فُجِعَتْ مِصْرُ باٌبنها البِرِّ شوقي * فهي ثكلى كثيرةُ التشهاقِ
صبّ يشوي على العراق شواظًا * رزء مِصْرٍ ومِصرُ أختُ العراقِ
– – –
بعد شوقي يا لهْفَ نفسي عليهِ * أخفق الشِّعْرُ أيَّما إخفاقِ
* * *
وهنا المرثيّة الثانية- من الكامل- وقد اقتطفت منها النتفة التالية
عَجَّلتَ في الترحال يا شوقي وقدْ * بقِيتْ هنالك لمْ تُقَلْ أشياءُ
قالوا سينبغُ عـبقريٌّ مِثلهُ * قلنا بلى لو أنجَبَ الآباءُ
* * *
والزهاوي مدح السيدة أم كلثوم بقصيدة مطوّلة- من البسيط- متعددة القوافي، منها
يا أمّ كُلثومَ غنِّي فالهوى نَغَمُ * تلذّهُ الشِّيبُ والشبان كلُّهُمُ
غني وغني على الأوتار صادحةً * فإنما بالأغاني تنهضُ الأممُ
من أجل صوتٍ رخيمٍ منكِ يسمعُهُ * يا أمّ كلثوم جاء الجَمْعُ يزدحمُ-
* * *
ويبدو أن شوقي زار العراق فتغزّل بدجلة والفرات والنُؤاسِيّ والنّدامى، مادِحًا ملك العراق فيصل الأوّل، بقصيدة- من الخفيف- ذكر في بدايتها معجزة للسيد المسيح (السّير على الماء) وقد تغنّى بها أيضًا الموسيقار عبد الوهاب في بغداد في أوائل الثلاثينيّات ولها أزيد من مقطع على يوتيوب
يا شِراعًا وراءَ دِجلَةَ يَجري * في دُموعي تَجَنَّبَتكَ العَوادي
سِرْ عَلى الماءِ كالمَسيحِ رُوَيدًا * واٌجْرِ في اليَمِّ كالشُعاعِ الهادي
– – –
والنُواسِيُّ والنَدامـى أَمنِهِـم * سامِرٌ يَمـلَأُ الدُجى أو نادِ
– – –
مَلِك الشَطِّ والفُراتَينِ والبَطحاءِ أَعظِمْ بفيصَلٍ والبلادِ
كذلك رثى الشاعر الكبير الرصافي (1877 – 1945 م) شوقي بقصيدة- من الكامل
الشِّعْـرُ بعد مصابهِ بكبيرهِ * في مصر جلَّ مصابُهُ بأميرِهِ
بيناهُ يبكي حافظًا بشهيقِهِ * إذ قام يبكي أحمدًا بزفيرِهِ… إلخ
* * *
ويبدو لي ممّا قرأت أن الزهاوي والرصافي معًا كانا راضيَين عن تنصيب شوقي أميرًا للشعراء في القرن الماضي، إلّـا أن خصومة ما استمرّت بينهما طويلًـا، أظنّها على إمارة الشعر في العراق. ومن الطرائف المعروفة عنهما أنّهما جلسا مرّة يأكلان ثريدًا عليهِ دجاجة مشويّة فجعل الزهاوي يأكل من تحتها حتى سقطت أمامه فأنشد- من الخفيف: (عَرَفَ الخيرُ أهْلَهُ فتقدَّمْ) فرَّد عليه الرصافي المعروف بسرعة البديهة: (كَثُرَ النَّبْشُ تحتَهُ فتهَدَّمْ) ما يُسمّى بالإجازة وهي من فنون الشعر المُلحقة ببحوره، سبق لي ذكرها. ومثلما خطف المتنبي الأضواء التي كانت مركّزة على البحتري، خطف الرصافي الأضواء من الزهاوي في وقتٍ عانى الزهاوي من ملاحقات لمواقفه ضد الإستبداد ومن مضايقات كالإتهام بالزندقة، من جرّاء مجاهرته بآرائه الفلسفيّة. فتنقل كثيرًا بين بغداد وغيرها وبين المناصب الوظيفية حتى خفت ضوءُه
وخلاصة ما تقدّم حول القصيدة الحسناء احتمالان؛ الأوّل هو قيام الزهاوي بتشطير قصيدة شوقي- كما أسلفت- وهذا فن شِعري جائز ومستحَبّ ومشروع، بشرط قيام الشاعر بالإشارة في هامش قصيدته إلى قصيدة الشاعر الآخر، أو بتضمين كل شطر من قصيدة الشاعر الآخر (أي وضعه بين قوسين) مع ذكر اسمه واسم قصيدته
أمّا الثاني فهو يُشبه الصخرة الساقطة إلى أعلى؛ أي قيام شوقي باقتطاع حسنائِهِ من حسناء الزهاوي نظرًا إلى إعجابه بها، مستغِلًّـا أفول نجم الزهاوي في العراق، بطريقة تجعل القارئ يبني ظنّه على فنّ التشطير وعلى شهرة شوقي وموهبته الشعريّة الفذّة اللتين كانتا فوق شبهة من هذا النوع. ولهذا الإحتمال ثلاث دعامات
الأُولى: من يرجع إلى حلقة بحر الخفيف المذكورة يجد أني غضضت بالطَّرْف عن البيت التالي، أي لم أذكره ضمن قصيدة شوقي “الحسناء” التي اتخذت منها أحد الأمثلة على بحر الخفيف
إِنْ رَأَتنيْ تَميلُ عَنّيْ كَأَنْ لَمْ * تَكُ بَيْنيْ وبينها أَشياءُ
والسبب يكمن في غلط نحوي، موجود في “حسناء” شوقي وفي “حسناء” الزهاوي أيضًا. والغلط هو في قولهما “تميل” الفعل الذي من الواجب عليهما جزمه “تمِلْ” لأنه جواب شرط لأداة الشرط “إنْ” الجازمة (إنْ تزرَعْ تحصدْ) فمن الصعب على شوقي الوقوع بغلط مثل هذا- في رأيي وبحسب اطِّلاعي على قصائد عِدّة من شعره- لكنّ شوقي في المقابل أبعَـدُ عن النحو من أهل المدرسة البصريّة الكائنة في العراق! فمِن المحتمل أنّه توصّل إلى قناعة بأنّ الزهاوي وَجَدَ مخرجًا ما التفّ به على قواعد اللغة. أي ظنّ شوقي بأنّ الزهاوي وجد استعمالًـا مُعَـيّنًا لـ “إنْ” في كتب التراث أبطل عملها الجازم؛ إمّا لتقدّمها أمام فعـل ماضٍ “رأت” الذي في “رأتني” لكنّ هذا لا يُبطل عملَها، إذْ وقع في محل جزم لأنه فعل الشرط، أو لسبب آخر. عِلمًا أنّ “إنْ” في هذا البيت لا يمكن اعتبار معناها “لستُ” بعد تخفيف “إنَّ” في المثال القائل “إنْ أدري أقريبٌ ما تأمُلون أم بعيد” أي لستُ أدري. بينما وقع الزهاوي في مثل ذلك الغلط في مكان آخر من ديوانه بقوله “تعيش” والصّواب: تعِشْ، في التالي- من مجزوء الرَّمَل
قلتُ للشاعر والشاعرُ ذو سَهْم يطيش
أنتَ إنْ عِشْتَ تمُتْ جوعًا وإنْ مُتَّ تعيش
فلاحِظ-ي في البيت الثاني كيف جزم الزهاوي جواب الشرط “تمُوت” ولم يجزم “تعيش” الذي قصد به “ستعيش” التي تخلّ بالوزن الشِّعْري! والضرورة الشعرية لا تُبيح الغلط النحوي إطلاقًـا. هنا بيت زهير بن أبي سُلمى من معلّقتِه (أمِنْ أمِّ أوفى…) وقد دخلت أداة الشَّرط “مَنْ” الجازمة على فعـل ماضٍ “هابَ” فجُزِمَ جواب الشرط ”ينال” في “ يَنَلْنَهُ” والبيت- من الطويل
ومَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ * وإِنْ يَرْقَ أسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
أمّا شوقي فما وَجَدْتُ في ديوانه مِثل ما تقدّم في شعر الزهاوي. وقد بحثت في شعر شوقي كثيرًا وطويلًـا فعثرت على أمثلة عدّة، منها التالي وكلّهُ سليم نحويًّا
إذا زُلزِلَتْ مِن حَولِكَ الأرضُ رادَها * وَقارُكَ حَتّى تَسكُنَ الجَنَباتُ
وإِنْ خَرَجَت نارٌ فكانت جَهَنَّمًا * تُغَذّى بأجسادِ الوَرى وتُـقاتُ
ومَنْ يَسُـسِ الدُنيا ثَلاثين حِجَّةً * تُعِنْهُ عَلَيها حِكْمَةٌ وأناةُ- مِن الطويل
* *
كَمْ ضَلَّلَتْكَ ومَنْ تُحْجَبْ بَصيرَتُهُ * إِن يَلقَ صابًا يَرِدْ أَو عَلقَمًا يَسُمِ
والشَرُّ إِن تَلقَهُ بالخَيرِ ضِقتَ بِهِ * ذَرعًا وإِنْ تَلقَهُ بالشَرِّ يَنحَسِمِ- من البسيط
* *
إِنْ تَكُنْ سِلمًا لَهُ لَم يَنتَفِعْ * أَو تَكُنْ حَربًا فقد فاتَ الضَرَرْ
لا تقولوا شاعِرُ الوادي غَوى * مَنْ يُغالِطْ نَفسَهُ لا يُعتَبَرْ- من الرَّمَل
* *
وأنا المُحتَفي بتاريخِ مِصْرٍ * مَنْ يَصُنْ مَجْدَ قومِهِ صان عِرْضا- من الخفيف
* * *
والثانية هو أنّ شوقي عاش حياة الترف بعيدًا عن قساوة الزّهد والتعفّف، ما لا يُؤهِّلُهُ إلى قول التالي: (جاذبَتني ثَوبي العَصِيَّ وقالَتْ * أنتُمُ الناسُ أَيُّها الشُعَراءُ) لأنّ في قوله “ثَوبي العَصِيّ” نزعة قويّة إلى التعفّف
أمّا الثالثة: ليس في ثقافة شوقي، كما بدا لي، نظرة مُفرَطة إلى الإنسانيّة التي تقتضي تحلِّي الشعراء بها ليقول (أنتُمُ الناسُ أَيُّها الشُعَراءُ) بل هذه ثقافة الزهاوي التي يستطيع أن يتبيَّنها دارس ديوانه. أمّا الزهاوي فقد عاش فقيرًا وعانى من بؤس حاله وقد تفلسف ورُبّما اعتكف أيضًا لكنّ الشِّعْر كان مِحْوَرَ اهتماماته الأدبية والفلسفيّة والعلميّة
الفَيلَسوفُ الفَيلسوفُ * هُوَ مَنْ ترَبَّـتْهُ الصروفُ
هُوَ مَن سَمَتْ فيه الحَياة فلا يَخاف ولا يُخيفُ
– – –
ولقد تعسَّفت الحَياة فما أذلّتْني الصروفُ
ولقد أكون مُصارعًا * لخطوبها وأنا الضَعيفُ
أَلِـأجْل أنْ يَلقى السَعادة واحدٌ يَشقى ألوفُ
ما أَكثر الإنسان حِرْصًا وهْوَ يُشْبِعُهُ الرَغيفُ
عبء الحَياة ولا تظنَّ بأنه عبءٌ خَفيف
ما زلتُ أحْمِلُهُ وإني ذلك الجسدُ النحيفُ
– – –
ما أَتعَس الحسناءَ يمْلِكُ أَمْرَها الزوجُ العَنيفُ
فهُناك جُرْحٌ مُهلِكٌ * إلّـا إذا اٌنقطعَ النَزيفُ
إلى آخرها- من مجزوء الكامل
* * *
يا شِعْرُ أَنتَ سماءٌ * أطيرُ فيها بفكري
طَورًا أَسفّ وطورًا * أعلو كتَحليق نسْرِ
إنْ لم تصوِّرْ شعوري* فلستَ يا شعرُ شعري
من بعد موتي بحِين* سيعْـلَمُ القومُ قدري
فقد وقفتُ حَياتي * لهم وأَفنيتُ عُمري
أودّ أن تحفروا في * جنب النؤاسيِّ قبري
إني أمتّ اليه * وإن تأخَّر عَصْري- من المجتثّ
* * *
كنت مثل الهَـزار أَشدو بشِعْري * كل يوم في نبعة ذات ساقِ
ولقد كنت قد بَنيتُ بجهد * لِيَ عُشًّا في مَجْمَع الأوراقِ
فأحال الغربان تهْدِم منه * ما بَنَتْهُ يَدِيْ بلا إشفاق
رَخُصَ الشِّعْرُ في بلاد قد اِنحطّتْ كما قد غلا بقطرٍ راقِ
رُبَّ شِعْر أَنفقتُهُ في سبيل الحقّ حتى أَضرّ بي إنفاقي
لست بالشعر أَبتَغي لِيَ كسْبًا * أَو أداوي يومًا به إملاقي
أَيُّها الشعر أنتَ لسْتَ مَتاعًا * يُشتَرى أو يُباعُ في الأسواق- من الخفيف
* * *
خدَعُوها بقولِهِمْ حَسْناءُ- رياض الحبيّب
نُظِمَت الأربعاء 25.07.2012
؟(خدَعُوها بقولِهِمْ حَسْناءُ) * للزَّهاويِّ أمْ لشَوقيْ الرِّداءُ؟
قِيلَ هذي حَسْناءُ شوقي بجَزْمٍ * ثمَّ نادى عَـبْدَ الوهاب نِداءُ
فتغـنّى بها فأحْسَنَ بالصَّوتِ وباللحْنِ والبديعُ الـأَداءُ
غيْرَ أنّ الحُروف في مَوضِعِ الشَّكِّ وظنِّي بأنها صَفراءُ
وَرَدَتْ في ديوان شوقي اٌختصارًا * لحُروفٍ أخرى لها أصداءُ
سُمِعَتْ في مِصْرَ التي قِيلَ فيها * يَرتقي أهلُ الفنِّ والشّعَراءُ
والزَّهَاويُّ نائمٌ حُلْمُهُ بالشِّعْـرِ: راقٍ ما باركتْهُ السَّماءُ
كيف يدري بما جرى ذاتَ يومٍ؟ * لمْ تصِلْهُ الأضواءُ والأنباءُ
مُطمَـئِـنًّا إلى سلامةِ حَسناءَ لهُ في غرامِها أهـواءُ
لو سَباها مِنْ حِضْنِ شوقي لثارَ النقدُ في وجهِهِ وعَـزّ اٌتّـقاءُ
أو سَباها شوقي فصارتْ إليهِ * لاٌنجلى ليلُ سَبْيِها والرِّياءُ
ليت شِعْـري ماذا أقول وفي مِيزان حُكْمي عدالةٌ وجَزاءُ
أنْ كِلا الشاعِرَين فيه ثقيلٌ * حاز منهُ ما حازتِ الخنساءُ
وكِلا الشّاعِرَينِ أكْبَرُ مِن أنْ * يتعدّى عليهِما فُصَحاءُ
هِيَ “حسناءُ” بَيْدَ أنّهُما أحْسَنُ مِنها والأحْسَنُ العَصْماءُ
أخْجَلَتْ نظْرتي إليها فإمّا * سَقطَتْ حُجَّتي فقُلْ ما تشاءُ
إنني مؤمِنٌ بحُرِّيَّة النَّـقـدِ ولكنْ يَسُوءُني الإفتراءُ
خيرُ نقدٍ هـذا المُعَـزّز بالبرهانِ والنقدُ للأديب غِـذاءُ
فشُجاعٌ مَنْ واجَهَ النَّـقْـدَ بالحُجَّة أمّا الضَّـعـيـفُ مَن يَستاءُ
هذهِ “حَسْنائي” إذًا عارِضوها * ما اٌسْتطعْتُمْ وعِندَكُمْ أكْـفاءُ
هذهِ “حَسْنائي” وأحْسَنُ منها * ما تُزَكِّيهِ سارةُ الحَسناءُ
هذهِ “حَسْنائي” وأحسَنُ ما في الحُسْنِ عندي المسيحُ والعـذراءُ
¤ ¤ ¤ ¤ ¤
أشكر الأديب الباحث رياض الحبيب على هذا البحث الاصيل والقيم والموضوعي
واشكره على انه خص نشره بمقع مفكر حر
وبعد….
انا اميل الى وجهة نظر الكاتب بان القصيدة هي اقرب لان تكون للشاعر العراقي الزهاوي
حيث ان فقر حال وزهد كاتب القصيدة لا تناسب شوقي
بالاضافة الى ذلك بان شوقي لم يرتكب قط خطأ نحوي بجزم المضارع وحذف حرف العلة على عكس الزهاوي والذي اثبت ان له سوابق بارتكاب مثل هذا الخطأ
بورك قلمكم المبدع
ماقل ودل … بين الشد والحل ؟
١ : بصراحة ياعزيزي رياض أنت دائما تبدع في الطرح والنقد والإيثار ؟
٢ : إن أخطأ شوقي فذاك ليس بكفر وحتى الزهاوي ، لأن أصلهما أكراد وإن كتبا بلغة الضاد ، وهذا ما لاتعرفه الكثير من العباد ، وحتى إن أخطأت أنا أو أزاد وفرهاد ، ولكن العيب والعار لمن غزا الكثير من البلدان المتحرة فزادها رمادا وبقى جراد ؟
تحياتي لك استاذ رياض املا ان تكون بخير .اطلب منك ايميلك الخاص ان كان بالمستطاع ارساله لي ) ولك مني خالص التحايا. (فائز النبهان
سلامًا ونعمة
الأخ د. طلال الخوري: ما تفضلت به هو بيت القصيد
الأخ السندي: ما تفضلت به صحيح؛ قال شوقي: (سمعت أبي يردّ أصلنا إلى الأكراد فالعرب) أما الزهاوي فمعروف أصله الكردي وثابت. حتى الرصافي من أصل تركماني- تمّ رفع هذه المعلومة من ويكيبيديا كما يبدو- حتى كاتب هذه السطور من أصل غير عربي. لكني ما رغبت في إثارة موضوع الجذور لأن الثلاثة أبدعوا بالعربية وبالشعر وغيره أكثر من معاصريهم الذين من العرب
الأخ فائز النبهان: لقد كتبت لك عنوان بريدي في حينه وفي محلّ مداخلتك السابقة
شكرًا وتحية للجميع مع أطيب التمنيات