عبد القادر أنيس
أواصل هذا الحوار مع الشيخ القرضاوي من خلال كتابه “الإسلام والعلمانية، وجها لوجه”. مقالة اليوم هي قراءة في فصل تحت عنوان: “العلمانية والإلحاد”، ص 66-67.
العلمانية والإلحاد
يقول القرضاوي في مستهل هذا الفصل: “إذا كان مفهوم “الإلحاد” هو إنكار وجود الله سبحانه، كما هو مذهب الماديين قديما وحديثا، ومنهم الشيوعيون دعاة المادية التاريخية، فإن العلمانية ـ حسب مفهومها ـ لا تعني بالضرورة الإلحاد”.
فما ما دخل الإلحاد والشيوعيين دعاة المادية التاريخية هنا، يا شيخ، في حديث عن العلمانية ما دام الإلحاد ليس “من اللوازم الذاتية لفكرة العلمانية، كما نشأت في الغرب ؟”، وكما خطت يمينك:
“قد يوجد من “العلمانيين” من يجحد وجود الله تعالى، أو يجحد رسالاته ووحيه، أو يجحد لقاءه وحسابه في الآخرة، ولكن هذا ليس من اللوازم الذاتية لفكرة العلمانية، كما نشأت في الغرب، فإن الذين نادوا بها، لم يكونوا ملاحدة ينكرون وجود الله، بل هم ينكرون تسلط الكنيسة على شئون العلم والحياة فحسب، فكل ما يعنيهم هو عزل الدين ـ ممثلا في رجاله وكنيسته ـ عن سياسة الدولة، وتوجيه أمورها، سياسية كانت، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو تربوية”.
لا بد أن يتذكر قارئ اليوم أن لجوء القرضاوي لحشر الشيوعيين والمادية التاريخية في خضم الحديث عن العلمانية يرجع إلى فترة الثمانينات من القرن العشرين (1985) تاريخ المحاورة وتأليف الكتاب (المحاورة مع الدكتور فؤاد زكريا). لعلي لا أجانب الصواب إذا قلت إن الإسلاميين والقوميين وكل الاستبداديين العرب يتأسفون الآن لسقوط الشيوعية في الاتحاد السوفييتي رغم ما كانوا يكنون لها من عداء، لأنها كانت بمثابة العكاز الذي يتكئون عليه وهم يغازلون أمريكا وحليفاتها من الحكومات العربية المتخلفة. حينها كانت حركة الأخوان المسلمين في تحالف بغيض، داخليا في الأوطان العربية والإسلامية مع الأنظمة السياسية التي ورثت الحركة التقدمية المناهضة للاستعمار التي حولت نهجها من الاقتصاد الموجه الذي كان تحت هيمنة الدولة إلى رأسمالية منفلتة العقال باسم الانفتاح، واستخدمت جماعات الإسلام السياسي لتنقية كل الساحات والميادين والمؤسسات، خاصة الجامعات ومختلف النقابات العمالية والمهنية ومختلف المواقع من العناصر الوطنية واليسارية التي كانت بمثابة الغصة في حلق الأنظمة والتخلص نهائيا من تركة الحقبة الوطنية ذات التوجهات المحسوبة على التقدمية والاشتراكية والمناهضة للإمبريالية، وخارجيا مع أمريكا وحلفائها حين بلغ هذا التحالف أوجه في تعبئة الشباب العربي للجهاد في أفغانستان ضد التواجد السوفييتي.
القرضاوي والغزالي وغيرهما من قادة الحركة الإسلامية لعبوا أدوارا كبيرة بمباركة السلطات العربية التي كانت تغمض عيونها على تجاوزتهم الفاشية ولقد أدوا هذه المهمة على أكمل وجه حتى لم يبق إلا هم في الجامعة والشارع وجها لوجه أمام حلفاء الأمس المتمثلين في الأنظمة الحاكمة، فراحوا ينتشون بهذا الانتصار ويتطلعون للاستيلاء على السلطة في مختلف الأقطار العربية، وكانت المواجهات الدامية في أكثر من قطر، وكانت الهزيمة في أكثر من قطر.
هنا أيضا لا بد من التذكير بالدور السعودي الكبير في هذه المسيرة بوصفه كان الحليف والمصرفي الرئيسي لحركات وأحزاب الإخوان المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى غاية 11 سبتمبر 2010 حين انقلب السحر على الساحر.
كذلك يجب التذكير أن الأحزاب الشيوعية والاشتراكية واليسارية عموما لم تكن تضع العلمانية ضمن أجندتها السياسية أو الثقافية ولا كانت تحارب الدين ولا حتى تنتهج سياسات تنويرية حداثية لها علاقة بنقد الدين كما فعلت الحداثة الغربية، ولقد ساهم هذا في عرقلة جهود التنوير، في رأيي. قد نجد العكس تماما في أدبيات هذه الحركات حين كان يلجأ البعض إلى توظيف الدين في برامجه والعمل على إبراز ما كانوا يرونه جوانب طبقية ومادية وتقدمية ويسارية في في الكتاب والسنة ومختلف نصوص وتاريخ الإسلام.
الصحيح أن أغلب دعاة العلمانية كانوا مناضلين ومفكرين من أجل الديمقراطية واللبرالية بخاصة. يصدق هذا الكلام على العلمانيين في البلاد الغربية كما يصدق عليهم في البلاد العربية. وهي حقيقة كان يعرفها القرضاوي وصحبه، وهو ما صعب من مهمتهم نوعا ما بحيث فشلوا في استعداء الحكومات ضدهم لأنها لم تكن ترى فيهم خصوما يهددون استقرارها مثل اليساريين والوطنيين، ولم يبق أمامهم سوى تشويه المطالب العلمانية عبر توظيف فزاعة الإلحاد.
هذا السعي نحو التشويه هو الذي قاد القرضاوي ليقول: “ولكن يجب أن نعترف بأن ثمة فرقا واضحا بين الإسلام، والمسيحية في هذا الموضوع. فالمسيحي يمكن أن يقبل العلمانية، حاكما أو محكوما، ويبقى مع هذا مسيحيا، غير مخدوش ولا مقهور في عقيدته ولا شريعته. فالعلمانية لا تمنعه أن يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد من كل أسبوع، وأن يحتفل بأعياد ميلاد المسيح من كل عام، وأن يمارس شعائره الدينية الشخصية متى شاء. والمسيحية نفسها لا تطالبه بشيء أكثر من ذلك، فليس فيها شريعة تلزمه الحكم بها أو الاحتكام إليها، وتصف بالكفر والظلم والفسق من أعرض عنها. ولم تجئ المسيحية نظاما كاملا للحياة، يصبغها بصبغته، ويقودها بتشريعاته ووصاياه، وأوامره ونواهيه، في مختلف شئون الفرد والأسرة، والمجتمع والدولة والعلاقات الدولية”.
قبل أن نواصل مع القرضاوي بوسعنا أن نكشف في هذا الكلام عن قدر كبير من المغالطات المنطقية والتاريخية في هذا الكلام:
فعندما يقول القرضاوي: ” فالمسيحي يمكن أن يقبل العلمانية، حاكما أو محكوما، ويبقى مع هذا مسيحيا، غير مخدوش ولا مقهور في عقيدته ولا شريعته”، فهو يحكم من جهة على أن المسلم الذي يعيش العلمانية لابد أن يكون مخدوشا ومقهورا في عقيدته، ومن جهة ثانية القرضاوي يبين عن جهل بالتاريخ أو تزوير مقصود له. تاريخيا كان للمؤسسات الدينية المسيحية شرائع تشمل مختلف جوانب الحياة، أغلبها كانت مستوحاة من كتب العهد القديم التي نقل عنها الإسلام شرائعه، أو هي شرائع أسبغت عليها ثوب القداسة أوهي تعاليم يهودية لم تلغها كتب العهد الجديد، بل حتى المسيح لم يأت ليغير الناموس كما قال. وعلى ضوء هذه الشرائع والتعاليم كانت المسيحية ترى العالم وتقيّم أعمال العامة والخاصة والحاكمين والمحكومين وحتى أعمال العلماء فتجازيهم أو تقمعهم.
التزوير الآخر نلمسه من محاولة الشيخ تمرير أغلوطة كبيرة مفادها أن العلمانية بحجة أنها تتناغم مع المسيحية فقد انتشرت في البلاد المسيحية بسهولة وبدون معارضة حتى ليتخيل من يسمعه أن الكنيسة هي التي قدمت العلمانية على طبق من ذهب وعن طيب خاطر وقبلت بسلطة المجتمع المدني بسهولة ويسر.
هل فعلا يجهل القرضاوي أن المجتمعات الغربية قبل أن تستقر على ما هي عليه من علمانية وديمقراطية وحريات دينية ودنيوية كانت قد خاضت، وعلى مدى قرون، حروبا طويلة ومريرة ودموية ضد المؤسسات والبنى الدينية والأنظمة السياسية المتحالفة معها ، وأن هذه المكاسب الكبيرة انتزعت منها انتزاعا وعلى مراحل تخللها مد وجز وتقدم وتقهقر، وحتى في فرنسا البلد الرائد في العلمانية بامتياز، عادت المؤسسات الملكية والكنسية بعد الثورة وتم التراجع عن مكاسب كثيرة، قبل أن يعاود المجتمع الفرنسي الكرة ويرسخ العلمانية نهائيا سنة 1905 في المدرسة مثلا، أي بعد أكثر من قرنين من قيام الثورة سنة 1789، لكن هذا لم يظل كافيا، فقد عادت قوى الماضي البغيض في فرنسا أيضا تحت الاحتلال النازي، وراح الحكم العميل يحيي من جديد القيم المعادية للعلمانية مرتكزا على المؤسسات الكاثوليكية. بل بوسعنا التأكيد على أن العلمانية والديمقراطية وغيرهما ليسا مكتسبات نهائية لا يمكن التراجع عنها في أي بلد. يكفي أن نلاحظ أن قوى الماضي والعنصرية والشوفينية سرعان ما تطفو إلى سطح الأحداث كلما خفض المجتمع من يقظته حتى في تلك البلاد العلمانية العريقة.
لهذا فليس هناك ما أكذب من قول الشيخ: “بل إن المسيحية في إنجيلها نفسه، كما أشرنا من قبل، تقبل ترك شئون السياسة للحاكمين الدنيويين، بعيدا عن توجيه الدين وهداية الله، كما هو ظاهر المقولة، التي ذكرها الإنجيل عن المسيح (عليه السلام): “دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”!
هنا أيضا يتجاهل القرضاوي بل لعله يجهل فعلا أن هذا القول يوجد مثله في الإسلام، وأنه قول يرجع الفضل للعلمانيين المسيحيين الغربيين في إخراجه للوجود في محاججاتهم ضد الكنيسة مثلما يفعل العلمانيون المسلمون وهم يبرزون أقوالا إسلامية من قبيل ما أخرجه مسلم في صحيحه عن موسى بن طلحة عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: “ما يصنع هؤلاء”؟ فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أظن يغني ذلك شيئا” قال: فأُخْبِرُوا بذلك، فتركوا النخل بدون تلقيح، ففسد النخل، وخرج البلح شيصاً، فجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله: فسد النخل، فقال لهم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم” وفي رواية: ” فأُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: “إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل” ورواه مسلم أيضاً من حديث رافع بن خديج، وفيه زيادة: فقال إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر”، وفيه أيضاً من حديث عائشة الزيادة المشهورة: (قال أنتم أعلم بأمر دنياكم”، وفي رواية: “أنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ فَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ”.
ومن العلمانية في الإسلام ما جرى تخريجه من أقوال مثل: “لا إكراه في الدين” ومثل: “وأمرهم شورى بينهم” ومثل قول الإمام علي “القرآن كلام مسطور بين دفتين لا ينطق وإنما ينطق به الرجال” وقوله “القرآن حمال أوجه”، وغير ذلك مما رأى فيه بعض دهاة العلمانية عندنا تأصيلا علمانيا في تاريخ الإسلام.
ويمكن للعلماني المسلم أن يستنتج ما استنتجه العلماني المسيحي أن الفلاحة مثل التجارة مثل الإدارة مثل السياسة تتطلب دربة وخبرة وتجربة ويجوز فيها الخطأ والصواب، ومعرفتها ليس حكرا على رجال الدين فقط، خاصة وقد صارت اليوم علوما قائمة بذاتها ولا يمكن لرجل الدين غير المتخصص فيها أن يصيب لو تدخل فيها وهو أبعد من أن يدعي لنفسه أحقية الإشراف عليها محللا ومحرما.
ثم يقول القرضاوي: “فإذا نظرنا إلى العلمانية مع الإسلام وجدنا الأمر يختلف تمام الاختلاف، ذلك لأن الإسلام جاء نظاما كاملا للحياة، لا يقبل أن تشاركه أية “أيديولوجية” أخرى، في توجيهها، فهو الذي يحدد أهدافها، ويضع أصول مناهجها، ويعد بالثواب أو العقاب، لمن عمل بها، أو انحرف عنها”.
“ثم يقول: “جاء الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة هي الأساس، والشريعة المنهاج، فهو عقيدة، تنبثق منها شريعة يقوم عليها مجتمع… وهي شريعة ربانية المصدر، منزلة في أصولها من عند الله، والحكم بها والاحتكام إليها، من لوازم الإيمان، ودلائل الالتزام بالإسلام”.
طبعا لا بد لكل من يستخدم عقله بقدر من الموضوعية والأمانة أن يلاحظ قدرا كبيرا من الاحتيال والمغالطة في هذا الكلام. فنحن لو ابتعدنا قليلا عن شؤون العبادات مثل نواقض الوضوء ومبطلات الصوم والحج، وهي رغم لاعقلانيتها الواضحة، فلا مجال للاحتجاج عليها مادامت عبادات شخصية، لكننا عندما ندخل عالم الاقتصاد والسياسة والإدارة والعلوم الحديثة المختلفة، فلن نجد في الإسلام ولا في تاريخه ما رآه القرضاوي نظاما كاملا للحياة، فلا وجود لنظام واضح المعالم في السياسة الإسلامية وهي أهم شيء لإدارة حياة الناس. ولو كان ما يعتقده الشيخ صحيحا لما ظل المسلمون طوال تاريخهم يتخبطون في أزمات سياسية عويصة بدأت حتى قبل دفن مؤسس دولتهم، يلخصه قول معاوية: “أيها الناس قد علمتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِضَ (توفي) ولم يستخلف أحدا فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبابكر، وكانت بيعته بيعة هدى، فعمل بكتاب الله وسنة رسوله، فلما حضرته الوفاة رأى أن يستخلف عمر، فعمل عمر بكتاب الله وسنة رسوله، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفر اختارهم من المسلمين. فصنع أبوبكر ما لم يصنعه رسول الله وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعونه نظرا للمسلمين. فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ونظرا لهم بعين الإنصاف”. وحتى فترة الخلفاء الراشدين لا يكاد يتفق الفقهاء حول رشادها، أما ما عداها فهو ملك عضوض إلى يوم الناس هذا.
ومع هذا يقول القرضاوي: “ولهذا يكون المسلم، الذي يقبل العلمانية ـ مهما تكن علمانية معتدلة متساهلة ـ في جبهة المعارضة للإسلام، وخصوصا فيما يتعلق بتحكيم الشريعة التي جاء بها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”. فأي إسلام تقصد يا مولانا؟
ويجيب: “إن هذا المسلم، الذي يقبل العلمانية، أو يدعو إليها ـ وإن لم يكن ملحدا، يجحد وجود الله، وينكر الوحي، والدار الآخرة ـ قد تنتهي به علمانيته إلى الكفر البواح والعياذ بالله، إذا أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، مثل تحريم الربا ، أو الزنى و شرب الخمر، أو فريضة الزكاة أو إقامة الحدود أو غير ذلك من القطعيات التي أجمعت عليها الأمة وثبتت بالتواتر اليقيني، الذي لا ريب فيه”.
قبل أن نحاور القرضاوي في معلومه القروسطي من الدين بودي أن أطرح عليه أسئلة عصرية: هل المواطنة التامة بين جميع المواطنين في بلد واحد مهما اختلفوا من حيث المعتقد والجنس والطائفة وغير ذلك من الاختلافات الموجودة في أوطاننا، هل هذا يدخل ضمن المعلوم من الدين؟ أو بالأحرى هل عندك في معلومك من الدين حلا لهذه المطالب الملحة اليوم؟ أي هل المساواة بين جميع المواطنين مهما اختلفوا هي ضمن معلومك من الدين ونحن نعرف أن الدين الإسلامي قد أباح التفاوت الجنسي بين الرجل والمرأة والتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء والتفاوت بين العبيد والأحرار وغير ذلك؟ هل الديمقراطية والانتخابات والبرلمانات والتعددية الحزبية وحرية التعبير والإعلام والاعتقاد تدخل في معلومك من الدين وهي، كما تعلم، بدع غربية ما أنزل الله بها من سلطان؟
والآن لنأخذ أمثلة تطبيقية عن معلوم القرضاوي من الدين ولنبدأ بالربا مثلا: (هل الربا يعني الفائدة التي تتعامل بها البنوك وصناديق التوفير اليوم وبالتالي فهي حرام؟ هل يشبه ما تقوم به المؤسسات المالية العصرية اليوم ما كان يقوم به المرابون من الأغنياء في عهد محمد. ما جدوى معارضة الإسلاميين باسم الربا لسعر الفائدة الذي يأخذه المواطن البسيط عندما يودع بعض ماله في صندوق الادخار، وهو تعويض قد لا يكفي لتعويض ما يخسره بسبب التضخم، بينما الصناديق والبنوك التي تستقبل أموال الناس تستفيد وتفيد بفضل إعادة توظيف هذه الأموال في مشاريع مفيدة، كذلك ما الضير في تقديم البنوك لقروض بفائدة للمواطنين وللمستثمرين وشتان بين هذا وبين مفهوم الربا الذي كان شائعا أيام محمد يمارسه الأغنياء المرابون مبتزين مستغلين حاجة المحتاجين في أصعب الظروف؟ هذه الطرق المالية العصرية أفضل بكثير مما يقترحه الإسلاميون من طرق مالية عتيقة مثل المرابحة والمشاركة والمضاربة التي لا تخلو من الاحتيال والافتقار إلى ضمانات حقيقية مثلما هي لدى البنوك “الربوية” كما يسميها الإسلاميون رغم إمكانية إفلاسها، خاصة البنوك الخاصة منها، لكنها على الأقل، لا تخدع الناس باسم المقدس والحلال والحرام ولا تدعي أنها تستمد إدارتها من شريعة ربانية معصومة كما قال القرضاوي، بحيث ينخدع الناس فيضعون ثقة عمياء في القائمين عليها بحجة أنهم يخافون الله، مثل فضائح البنوك الإسلامية التي انتشرت في مصر في السبعينات والثمانينات وكثيرا ما خسر معها المخدوعون من العمال والفلاحين والموظفين وصغار التجار تحويشة العمر كما يقال في مصر، وحتى القرضاوي نفسه يعترف في مذكراته أنه فقد تحويشته وتحويشة أبنائه في بنك إسلامي يسمى التقوى (وما أدراك) تعرض للإفلاس بسبب سوء التسيير والتدبير، يقول:” ولي تجارب شتى لا داعي لذكرها في قطر، وفي مصر في شركات توظيف الأموال، وفي السودان وفي غيرها، آخرها، بنك التقوى الذي وضعت فيه جل مدخراتي، في أسهمه ومضارباته، وحرضت أولادي أن يشتركوا فيه، وقد كان أحسن البنوك الإسلامية ربحا، وأسلمها معاملة، حتى إنه لم يعمل في المرابحة قط، ولم يدخل أسواق السلع والمقاولة، ثم دارت عليه الدوائر، فإذا هو يصفى الآن، ولا ندري: أنحصل على 10% من رأسمالنا أم لا؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله. لقد قال الأخ يوسف ندا رئيس البنك ما قالته جدتي منذ نحو سبعين عاما: إنها أرزاق!. وبعض شركات التوظيف في مصر، مثل (شركة الحجاز) لم أحصل أنا ولا أولادي على فلس واحد من أموالنا فيها إلى اليوم”.
يوسف القرضاوي
هذا حول الربا، فماذا عن الزنا؟ كيف نفهم ما كان يمارسه المسلمون في مدينتهم (الفاضلة) مع سبايا غزواتهم وجواريهم ومع حتى المحصنات من النساء ممن وقعن في الأسر؟ ألم يبح الإسلام الاستمتاع خارج الزواج بهذا الصنف من النساء سيئات الحظ؟ أما الغرب الذي يتهمه الشيخ بإباحة الزنا فهو يحرم حتى المضايقات الجنسية التي تتم بغير رضا المرأة، (للعلم فقد أقيل رئيس إسرائيلي وحوكم لأنه ضايق موظفات وسبق أن تعرض رئيس أمريكي للمحاسبة والبهدلة رغم شعبيته في ظروف مشابهة) كما يحرم الدعارة السرية التي تستغل فيها النساء كرقيق أبيض، أما عدا ذلك من العلاقات الجنسية بين النساء والرجال فهي تدخل ضمن الحريات الشخصية ما لم يكن فيها إكراه واستغلال.
أما الزكاة فهي لن ترقى بوصفها أداة مالية إلى مستوى نظام الضرائب الحديث بسبب جمودها وما يعتورها من تناقضات وعيوب. مثال ذلك ما جاء في زكاة البقر: من 1 إلى 29 بقرة لا زكاة فيها. من 30 إلى 39 تَبِيعٌ ذكر واحد (عجل عمره سنتان). من 40 إلى 59 مسنة واحد (بلغت ثلاث سنوات). من 60 إلى 69 تبيعان. وفي زكاة الأغنام: من 1 إلى 39 لا زكاة فيها. من 40 إلى 120: شاة واحدة الخ. …..
فلو قارنا مثلا ثمن 29 بقرة حلوب من أصناف البقر الهولندية غزيرة الإنتاج (لا يزكى فيها) بعدد 40 نعجة (يزكى فيها). فثمن 29 بقرة هولندية يعادل ثمن أكثر من 500 نعجة عندنا. وهو ظلم واضح في حق مربي الأغنام.
وعن الحدود مثل حد السرقة وقطع اليد فأي مهزلة هذه التي تدفع الدولة الإسلامية اليوم لو طبقت حد القطع كما طاب القرضاوي إلى إيقاع إعاقة بمواطن بينما قوانين الدولة الحديثة تلزم الحكومات بتقديم إعانات مالية على الإعاقة مهما كانت. وهكذا باقي شرائع الإسلام التي لم تعد مستساغة اليوم، بل همجية.
وأخيرا يقول الشيخ (العلامة) الذي يعتبر نفسه مثالا للاعتدال والوسطية وكما يتوهم الكثير من المخدوعين بخطابه الحرباوي: “بل إن العلماني الذي يرفض “مبدأ” تحكيم الشريعة من الأساس، ليس له من الإسلام إلا اسمه، وهو مرتد عن الإسلام بيقين، يجب أن يستتاب، وتزاح عنه الشبهة، وتقام عليه الحجة، وإلا حكم القضاء عليه بالردة، وجرد من انتمائه إلى الإسلام، أو سحبت منه “الجنسية الإسلامية” وفرق بينه وبين زوجه وولده، وجرت عليه أحكام المرتدين المارقين، في الحياة وبعد الوفاة”.
فهل نصدق القرضاوي قائل الكلام الفاشي السالف الذكر أم نصدق القرضاوي قائل هذا الكلام؟: “ماذا نفعل يعني أمام هؤلاء يعني كيف يهاجمون شخصا (يقصد نفسه) لا يعرفونه؟ كيف يتهمونه بتهم هو بريء منها؟ هم يعتبرونني من أهل التطرف ودعاة العنف ومؤيدي الإرهاب وأنا ضد العنف وضد الإرهاب وضد التطرف وكتبت في هذا كتبا عدة، كتب يعني لعل من أشهرها كتابي الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف”.
الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف
الشيخ له لكل مقام مقال، لكن الراجح أن القرضاوي الحقيقي هو من قال: “حين يكون المسلمون مستضعفين ولا قدرة لهم على مقاومة عدوهم، فعليهم أن يصبروا ويقولوا التي هي أحسن، ويدعوا بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا أصبحوا أقوياء كان لهم شأن آخر”.
القرضاوي الحقيقي
يتبع