عبد القادر أنيس
يستهل القرضاوي هذا الفصل المقتضب بقوله: “والعلمانية من ناحية أخرى، ضد أصالتنا وسيادتنا، لأنها مبدأ مستورد من خارج أرضنا، ومن قوم غير قومنا، لهم تاريخ غير تاريخنا، ومفاهيم غير مفاهيمنا، وقيم غير قيمنا، وعقائد غير عقيدتنا، وقوانين غير شريعتنا، وأوضاع غير أوضاعنا”. قبل مناقشة القرضاوي في هذه المواقف بودي أن أقدم، من أجل ضبط المفاهيم كمعيار ضروري لأي حوار، تعريفا للعلمانية يحظى، اليوم، بالموافقة الواسعة، في البلدان التي تبنت العلمانية خاصة فرنسا التي كانت سباقة في هذا المجال والتي تعتبر علمانيتها متشددة مناضلة مقارنة بغيرها ومع ذلك نقرأ: “العلمانية في فرنسا هي مبدأ يفصل بين السلطة السياسية وبين التنظيمات الدينية –على الدولة أن تبقى على الحياد- كما يضمن هذا المبدأ حرية العبادة (وعلى التظاهرات الدينية احترام النظام العام)؛ وبالتالي يؤكد هذا المبدأ على حرية الاعتقاد ولا يضع أي رأي فوق غيره من الآراء (دين، إلحاد، لاأدرية، أو فكر حر)، محققا بذلك المساواة الجمهورية”. ” علمنة المجتمع، لا تقتضي من الجمهورية أن تحارب الأديان، بل الوقوف ضد تأثيرها على ممارسة السلطة السياسية والإدارية، وبالتالي، حصر الأفكار الروحية والفلسفية ضمن مجال الاعتقاد الفردي وحرية الرأي”.
فهل هذه العلمانية تهدد الأصالة التي يتحدث عنها القرضاوي حتى يجعل بيننا وبين بشر مثلنا سبقونا إلى الأخذ ب بهذه الرؤية، حدودا مفزعة يستحيل تجاوزها والتواصل الإنساني المثمر مع أهلها؟ ثم هل هناك أصالة في تاريخ أي أمة بقيت جامدة لم يطرأ عليها أي تغيير، ولم تتأثر ولم تؤثر ولم تحتك ولم تأخذ ولم تعط؟ بل هل هناك أصل ثابت لأية أمة بقي على مر الأزمان في منأى عن أي تغيير أو تلاقح؟ عندنا ترفع القوى المحافظة والتقليدية شعارات تحولت إلى طابوهات تسميها ثوابت الأمة التي لا يُسْمَح بالمساس بنقدها أو التشكيك في دورها المزعوم في حفظ مقومات الأمة من خطر الذوبان في غيرها. يحصرها الإسلاميون في الإسلام فقط، ويحصرها القوميون عندنا في الإسلام واللغة العربية والوحدة الوطنية وحتى تاريخ ثورة التحرير. وبما أن الإسلاميين يحصرون الأصالة في الدين الإسلامي، فنحن نتساءل: هل بقي هذا الدين هو هو في منأى عن التأثر برياح التغيير القادمة من جميع الجهات؟ رجال الدين عموما ينفون أن يكون دينهم قد تعرض لأي تغيير أو تعديل ولهذا عارضوا قديما ومازالوا يعارضون كل جديد بحجة أنه يهدد أصالتنا. لكن التجربة بينت أن هذا الجديد الذي ظلوا يوصدون في وجهه كل الأبواب والنوافذ سرعان ما كان يتسلل إلى ديارنا من حيث لا نحتسب. ماذا يفعل رجال الدين حيال هذا الأمر الواقع؟ نراهم يخرجون من تخندقهم وراء أصالتهم وثوابتهم ثم يلتفون على هذا الجديد في حالة فشلهم في طرده أو وقفه، ويبحثون له في مخزونهم التراثي عن مقابل ثم يؤصّلونه ويعيدون إخراجه في ثوب يوهم الناس أنه من صميم أصالتهم ثم يعودون إلى التخندق وراءه، وفي أحسن الأحوال يقبلون هذا الجديد بوصفه حكمة طولب المؤمن بالبحث عنها ولو بالصين ولكن بعد أن يلحقوا به تشوهات قبيحة كما رأينا ذلك في ممارساتنا الديمقراطية والعلمانية وفي مناهجنا التربوية ومذاهبنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى في ملبسنا ومركبنا. تكفي نظرة واحدة لأي شارع عربي ليرى الرائي تعايش أنماط من السلوك واللباس والمواقف والأحكام تنتمي إلى عصور متباعدة جدا. هذا نموذج لهذا التشويه الذي يتسبب فيه رجال الدين، مثل القرضاوي الذي قال هنا عن الديمقراطية: “وما قيل: إنه مبدأ مستورد، فالاستيراد في ذاته ليس محظورا، إنما المحظور أن تستورد ما يضرك ولا ينفعك، وأن تستورد بضاعة عندك مثلها أو خير منها، ونحن نستورد من الديمقراطية: آلياتها وضماناتها، ولا نأخذ كل فلسفتها التي تغلو في تضخيم الفرد على حساب الجماعة، وتبالغ في تقرير الحرية ولو على حساب القِيَم والأخلاق، وتعطي الأكثرية الحق في تغيير كل شيء، حتى الديمقراطية ذاتها!!”. فهل فلسفة الديمقراطية، كما قال، تقوم على ” تضخيم الفرد على حساب الجماعة، وتبالغ في تقرير الحرية ولو على حساب القِيَم والأخلاق، وتعطي الأكثرية الحق في تغيير كل شيء، حتى الديمقراطية ذاتها!!”؟ وحدها القوى الفاشية، بما فيها إسلاميونا، استغلت تسامح وغفلة الديمقراطيين والعلمانيين بنية القضاء عليها وعليهم بعد الفوز في الانتخابات. ديمقراطية القرضاوي المشوهة هي على مقاس دولة غريبة لا تنتمي إلا إلى عالمنا الإسلامي البائس كونها حكرا على ساكنيها من المسلمين فقط. أليس هذا ما يقوله القرضاوي بعظمة لسانه؟ “نحن نريد ديمقراطية المجتمع المسلم، والأمة المسلمة، بحيث تراعي هذه الديمقراطية عقائد هذا المجتمع وقِيمه وأسسه الدِّينية والثقافية والأخلاقية، فهي من الثوابت التي لا تقبل التطور ولا التغيير بالتصويت عليها”.
القرضاوي: الدولة الاسلامية تتوافق في جوهرها مع الديمقراطية
مثل هذه المهازل لم تتوقف أبدا في تاريخنا المعاصر منذ بداية احتكاكنا بالحضارة الغربية، وكل مرة كان الأصوليون يعارضون التجديد باسم الأصالة: عارضوا باسم الأصالة الأخذ بالنظم السياسية الحديثة بحجة أن عندنا أنظمتنا الأصيلة: الشورى والحسبة والولاية والخلافة والأسرة السعيدة، ثم سطوا على مبادئ هذه النظم الحديثة ونسبوها لموروثهم الديني ثم هاهم ينادون اليوم بالديمقراطية مثلا ولكن في جانبها الانتخابي فقط، دون سائر الحريات التي لا تقوم للديمقراطية قائمة بدونها مثل حرية التعبير والاعتقاد والإعلام والمواطنة التامة والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات. عارضوا باسم الأصالة دخول وسائل الإعلام الحديثة بحجة أنها ذريعة للفساد ابتداء من الجريدة والسينما والمذياع والتلفزة ثم استحسنوها واستغلوها وهاهم اليوم يعرضون ويروجون فيها كل مخزونهم الديني. كل هذه الإبداعات البشرية الوافدة بَدَّعوها وعارضوها باسم الأصالة وهاهم اليوم يتعاملون مع بدائلها المشوهة مثل الديمقراطية الإسلامية والجمهورية الإسلامية والعلوم الإسلامية وحتى الطب الإسلامي ، وكأنها من صميم أصالتهم حتى صارت هذه الديمقراطية الانتخابوية “من روح الإسلام” حسب تعبير القرضاوي نفسه. وللحق يجب أن نقول أيضا إن أنظمة الاستبداد عندنا استمرأت ذلك واستحسنته وتبنته ووفرت للإسلاميين وسائل الترويج لها وحتى الديمقراطيين تعاملوا معهم بتسامح ساذج أو غفلة لا تغتفر. وهو ما سهل، ميدانيا، قيام هذا التحالف المكشوف بين الأصولية والحكم القائم وأعاق مهمة تجاوزه وأفشل كل مشاريع الخروج من هذا الانسداد الحضاري الذي طال أمده. أما القول بأن العلمانية خطر على سيادة الأمة فهو قول لا سند له. ولعلني لا أخطئ إذا قلت بأن العلمانية في تركيا ساهمت إلى حد كبير في جعل تركيا أفضل بلدان الشرق رغم النقائص التي ترتبت عن الأخذ بنوع من الديمقراطية المحدودة عمل أتاتورك ثم تلاميذه على تأخير توسيعها لتمارسها جميع الأطياف السياسية والثقافية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كرديف للعلمانية لا تستقيم بدونه ولعل هذا أيضا ما سهل عودة المكبوت الديني في شكل الحركة الإسلامية التركية في غياب عقلية علمانية حقيقية في التعليم والتربية وتكوين المواطن. أما في الهند التي تبنت نظاما ديمقراطيا علمانيا منذ استقلالها فإن مجرد التفكير في التخلي عن العلمانية سوف يعني الزج بالبلاد في حروب أهلية بين الأديان والطوائف والملل والنحل الكثيرة جدا ولو طالبت كل نحلة وملة بالاعتراف لها بحق التشريع وحق العيش حسب ما تمليه عليها شرائعها فلن تعرف البلاد استقرارا أبدا ولا وحدة. ثم هل كون أي مبدأ أو فكرة أو مذهب أو منهج قد نشأ وترعرع حتى نضج عند غيرنا مبررا كافيا لرفضه ورفض الاستفادة من إيجابياته خاصة إذا كانت له إيجابيات أثبتت الخبرة والتجربة والتطبيق أنها مفيدة لحياة الناس مثلما هو الشأن مع العلمانية والديمقراطية؟ كذلك يقدم القرضاوي حججا أخرى لرفض العلمانية بقوله عن الأوربيين: “إنهم احتاجوا إلى العلمانية لظروف خاصة بهم، ونحن لا حاجة لنا إلى العلمانية، لأنها كانت حلا لمشكلهم مع كنيستهم، وهي عندنا تكون مشكلة في ذاتها”. ويقول: “والعلمانية لا تصادم عقيدتهم، ولا شريعتهم، ولا تعارض أحكاما إلهية مفروضة عليهم من ربهم، ولكنها عندنا تصادم العقيدة، التي من مقتضياتها النزول على حكم الله ورسوله، وتعارض الشريعة، التي أنزلها الله منظمة لحياة الناس، بوضع الأصول الضابطة لها، والأحكام الهادية لمسيرتها”. الراجح أن القرضاوي يجهل تماما كون العلمانية في أوربا برزت وانتصرت كنظرة جديدة في الحياة والسياسة والاقتصاد والعلم والفكر وحتى في الاعتقاد لم يعرفها الناس هناك إلا في العصر الحديث. فلم تكن أوربا علمانية منذ الأبد. لم تستقر العلمانية في السياسية الأوربية وفي حياة الناس هناك بسهولة. لم تقبل الكنيسة هذه العلمانية عن طيب خاطر وبدون مقاومة شرسة تواصلت عشرات السنين وتسببت في حروب دامية. هل يمكن أن يجهل القرضاوي أن الكنيسة المسيحية وقفت بالمرصاد لكل خطوة نحو العلمانية: في العلوم وفي الآداب والفنون والفلسفة وفي السياسة والاجتماع، في حياة الأسرة، في تحرر النساء والرجال من القيود التي فرضتها كل أنواع الميز العنصري والديني والمذهبي والطائفي. جرى هذا رغم زعم القرضاوي بأن “العلمانية لا تصادم عقيدتهم، ولا شريعتهم، ولا تعارض أحكاما إلهية مفروضة عليهم من ربهم”. يحاول أعداء العلمانية مثل القرضاوي وغيره أن يوهموا الناس أن المسيحية لا تشريع فيها ولم تكن لها علاقة بالسياسة والدولة وبالتحكم بشؤون الناس وحرياتهم ومعاملاتهم. يقول المفكر جورج طرابيشي بهذا الصدد: “أنا أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول: إن الجملة الإنجيلية ليست هي التي صنعت العلمانية الأوروبية (يقصد “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله” والتي استغلها القرضاوي في محاججاته لرفض العلمانية)، بل العلمانية الأوروبية الحديثة هي التي اكتشفت أهمية هذه الجملة في الإنجيل، والدليل أن المسيحية بقيت على مدى خمسة عشر قرنا تجمع بين الدين والدولة، وتكاد تؤله الإمبراطور البيزنطي، وتخلط الدين بالسياسية، ولم تفرق بينهما، ولم تكتشف هذه الجملة الإنجيلية إلا بفضل العلمانية، فعندما جاء أهل الحداثة في أوروبا وحتى يقنعوا المؤمنين المسيحيين بأن العلمانية لا تتعارض مع الدين أعطوا أهمية كبيرة لهذه الجملة التي أهملت طوال خمسة عشر قرنا من تاريخ المسيحية، وأنا أقول الشيء نفسه في الإسلام فليس حديث “تأبير النخل” هو الذي سيصنع العلمانية، وإنما عندما يحدث وعي علماني سنكتشف أهمية الجملة الموجودة في الحديث وغيرها.” (يقصد حديث “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”).
القرضاوي لا يرى هذا الرأي عندما ينعت العلمانية بأنها: “عندنا تصادم العقيدة، التي من مقتضياتها النزول على حكم الله ورسوله، وتعارض الشريعة، التي أنزلها الله منظمة لحياة الناس، بوضع الأصول الضابطة لها، والأحكام الهادية لمسيرتها”. وكم أشعر بالاشمئزاز من هكذا كلام! ذلك أن الدارس لتاريخ المجتمعات الإسلامية لن يجد فيها ما يبرهن على أن هذه الشريعة “التي أنزلها الله منظمة لحياة الناس، بوضع الأصول الضابطة لها، والأحكام الهادية لمسيرتها”، حسب زعم القرضاوي، قد نظمت حياة الناس أو وضعت لهم الأصول الضابطة والأحكام الهادية لمسيرتهم. تاريخنا لا يختلف عن تاريخ الأمم الأخرى التي لم تَدَّعِ أن عندها هكذا شريعة سامية، إن لم يكن أسوأ في فترات كثيرة مقارنة بشعوب يعتبرها الإسلام وثنية كافرة أو محرٍّفة للشرائع التي أنعم الله بها عليها! بل إن هذه الشريعة لم يكن لها سهم معتبر فيما نعمت به مجتمعاتنا من فترات ازدهار كما لم تَحُلْ دون انحطاطنا. وشخصيا لا أحتاج لمساءلة التاريخ للتحقق من هذا الفشل الذريع، فحسْبي جولة في أسواقنا وشوارعنا وإدارتنا لأتأكد من مدى فشل هذه الشريعة في تربية الناس وتنظيمهم وهدايتهم، وهم منخرطون في الرشوة والمحسوبية والاعتداء المتبادل والتقصير في كل الواجبات. يتم هذا رغم أنهم يلتقون في صفوف كالبنيان المرصوص في المساجد عدة مرات في اليوم تحت إشراف وكلاء هذه العقيدة ووابلهم لا يتوقف من الخطب والمواعظ. هذا ديدن العلاقات والمعاملات التي تميز أتباع المذهب الواحد، السنة مثلا، أما العلاقات بين المسلمين المنتمين لمذاهب مختلفة فهي أسوأ من علاقتهم بمن يعتبرونهم كفارا. أما أهم حجة يقدمها القرضاوي للدعوة إلى رفض العلمانية فنلمسها في قوله: “والعلمانية عندهم، لم تمح سلطة الدين ورجاله، وإنما فصلت بين السلطتين: الروحية والزمنية، وتركت لكل منهما مجالها ونفوذها وحرية تحركها، وقد بقيت هناك سلطة الكنيسة، تمارس نشاطها بما تملك من مال ورجال وسلطان”. فما الضرر في أن تقوم عندنا علمانية كهذه، لا تمحو سلطة الدين ورجاله، وإنما تفصل بين السلطتين: الروحية والزمنية، وتترك لكل منهما مجالها ونفوذها وحرية تحركها وتقوم عندنا مؤسسات دينية تهتم بالشأن الديني؟ هذا إذا صدقنا القرضاوي عندما يقول في الأخير: “أما نحن، فليس لنا سلطة دينية مستقلة مقتدرة، فالعلمانية ـ عندنا ـ تعني تصفية الوجود الإسلامي، بحيث لا يبقى له قدرة ولا سلطان ولا حرية، ما لم يكن خادما للسلطة السياسية القائمة”. بينما الواقع غير ذلك. فعندنا مؤسسات دينية في كل بلد وهي ذات قوة ونفوذ ولا فرق بينها وبين المؤسسة الكنسية بل هي اليوم أكثر هيمنة على حياة الناس. وحتى في العهود التي ضعفت أو انهارت فيها الدول المركزية أو حتى في عهود الاستعمار وُجِدت مؤسسات دينية تكفلت بتأطير الجانب الروحي للناس مثل الجوامع الكبرى والزوايا الطرقية وأولياء الله الصالحين ! أما بعد الاستقلال فقد تكفلت الحكومات بالإشراف على الشؤون الدينية في منافسة مع المؤسسات التقليدية أو بالتحالف معها، فكيف يقول القرضاوي: “أما نحن، فليس لنا سلطة دينية مستقلة مقتدرة، فالعلمانية ـ عندنا ـ تعني تصفية الوجود الإسلامي، بحيث لا يبقى له قدرة ولا سلطان ولا حرية، ما لم يكن خادما للسلطة السياسية القائمة”. الراجح أن الوجود الإسلامي الذي يريده القرضاوي ويتستر عليه هو الدولة الدينية اتلي يشرف عليها رجال الدين مثل القرضاوي، دولة على طراز الخلافة الإسلامية القروسطية أو، في أحسن الأحوال، القبول باستمرار هيمنة هذه الدول القومية المعاصرة والمتحالفة مع رجال الدين من أجل تركيع الشعوب وتخديرها حتى لا تتنور وتفطن وتطالب بحريتها وحقها في المواطنة الكاملة بما تعنيه من مشاركة في تقرير مصيرها وجعل الحكومات تعبيرا عن إرادتها وليس العكس. إذا كان الدين حاجة روحية ذاتية لدى المؤمن، فما حاجة هذا المؤمن إلى سلطة وإلى قدرة لكي يمارس تَديُّنَه. من المفروض أن تكون قدرة هذا الدين مستمدة من قدرة المؤمنين به ورغبتهم وليس من سلطة يستمدها الدين من تحالف شيوخه مع سلطات الدولة المستبدة. لكن هذه النظرة تستمد مسوغاتها من وصاية خانقة يمارسها رجال الدين على الناس بوصفهم وكلاء الله في الأرض على شعوب قاصرة وليس من مصلحة القصر أن يبلغوا سن الرشد ، حسب تعبير الكواكبي. في الأخير هل يمكن نقل التكنولوجيا الغربية وكل مظاهر التقدم والأداء الناجح في الإدارة والمدرسة والمصنع والبحث العلمي، مجردة من روحها، أي من ثقافتها العلمانية التي أوجدتها؟ هل يمكن إدارة المجتمع الحديث بنفس الطرق العتيقة مهما زعموا لها من قداسة كما كانت تدار بها حياة الناس في المجتمعات ما قبل الحديثة؟ عبدالقادر أنيس فيسبوك