عبد القادر أنيس
يستهل القرضاوي هذا الفصل بمجموعة من المسلمات سبق أن تطرقت إليها بالنقد والتفنيد في الحلقات السابقة:
يقول عن هذه المسلمات: “وإذا كانت العلمانية دعوة مضادة ومناقضة للدين، ودعوة مضادة ومناقضة للدستور، وهي مضادة ومناقضة لإرادة الشعب، فهي كذلك دعوة مضادة ومناقضة لمصلحة الوطن، ومصلحة الأمة”. (ص 86-89).
الإسلام والعلمانية وجها لوجه، للدكتور يوسف القرضاوي
ويقول: “فلو كنا لا نقيس الأمور إلا بمقياس المنفعة وحدها، كما هو مذهب “البراجماتيين” لكانت منفعة الوطن، ومصلحته العليا والعامة والدائمة توجب علينا أن نرفض “العلمانية” ونتبنى “الإسلامية”. ويقول: “وذلك أن الأوطان إنما تنهض وترتقي وتنتج، بمقدار ما تملك من طاقات مادية، ومن طاقات بشرية، ولا قيمة للإمكانات، والطاقات المادية والاقتصادية، وغيرها، ما لم تكن هناك طاقات بشرية قادرة على تسخيرها، والاستفادة منها، واعية بذلك مريدة له”. وهذا أغرب ما قرأت للشيخ القرضاوي. هل يعقل أن يتجاهل الشيخ كل هذه الإنجازات العظيمة التي تحققت وتتحقق في مجتمعات تسودها العلمانية. هل تحقق كل ذلك بدون “طاقات بشرية قادرة على تسخيرها والاستفادة منها (وهي) واعية بذلك مريدة له؟ وهل كان من الممكن تحقيق ذلك لو كانت العلمانية ” دعوة مضادة ومناقضة للدين، ودعوة مضادة ومناقضة للدستور، وهي مضادة ومناقضة لإرادة الشعب، فهي كذلك دعوة مضادة ومناقضة لمصلحة الوطن، ومصلحة الأمة”؟ حسب زعم الشيخ. ويقول: “والشعوب ـ دائما ـ في حاجة إلى حوافز وأهداف ومحركات معنوية، تفجر طاقاتها المكنونة، وتستخرج قدراتها المذخورة، وتستثير مواهبها المبدعة، وتغرس في أنفسها حب التفوق والإتقان، وتدفعها إلى بذل النفس والمال والوقت والراحة في سبيل ما تؤمن به، وفي سبيل الحفاظ على مقوماتها وخصائصها الذاتية، التي تميزها عن غيرها، وبعبارة أخرى: في حاجة إلى “رسالة” تعبئ قواها، وتجمع شتاتها، وتحيي مواتها، وتنشئها خلقا جديدا”. ويقول: “وإذا أخذنا الشعب المصري مثلا لذلك، فما الذي يحركه، ويفجر طاقاته الدفينة، ويدفعه بقوة إلى الأمام؟ ويهون عليه بذل الأنفس والنفائس من أجل أهدافه؟” “إن قراءة التاريخ، واستقراء الواقع، يؤكدان لنا: أن هذا المحرك المفجر هو الإيمان، هو الإسلام”. انتهى. وعليه فما الذي يحرك الشعوب غير المسلمة من اليابان إلى أمريكا مرورا بأوربا؟ وهي كما نعرف ونشاهد شعوب أفضل من الشعوب المسلمة من حيث الأداء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي وحتى الأخلاقي الذي يعتقد الإسلاميون أنه حكر على دينهم فقط؟ ما المحرك الذي “فجر طاقاتها المكنونة، واستخرج قدراتها المذخورة، واستثار مواهبها المبدعة، وغرس في أنفسها حب التفوق والإتقان، ودفعها إلى بذل النفس والمال والوقت والراحة في سبيل ما تؤمن به”، حسب تعبير القرضاوي، بينما ظلت طاقات الشعوب المسلمة معطلة الطاقات والقدرات والمواهب؟ الراجح أن تلك الشعوب غير المسلمة لم تنجز ما أنجزته، فقط، في “سبيل الحفاظ على مقوماتها وخصائصها الذاتية، التي تميزها عن غيرها” كما زعم القرضاوي. لعل العكس هو ما حصل. فتلك الشعوب لم تحرر “طاقاتها وقدراتها ومواهبها” إلا بعد أن خففت من أثقال “مقوماتها وخصائصها” البالية وتفتحت على غيرها وجعلت الحكمة ضالتها طلبتها حيث وجدتها !. هذه الحقائق والأمثلة الحية التي تكاد تفقأ العيون لا يراها القرضاوي، أو يتعمد التعامي عنها لأنها لا تخدم غرض التمويه والتخدير تجاه الشعوب المسلمة، لهذا نراه وبكل سذاجة يلجأ إلى سرد أمثلة من التاريخ المصري القديم والحديث، مع تشويه حقائقه أيضا. نقرأ له: “يقص علينا القرآن في عدد من سوره “الأعراف، طه، الشعراء” قصة طائفة من أبناء مصر، غُرِّر بهم حينا من الدهر، فساروا في ركاب الطغيان المتألّه، طغيان فرعون، فاقدين لهويتهم، لا هدف لهم إلا المال أو الزلفى إلى الطاغوت، فلما أنار الله بصائرهم بالإيمان استحالوا إلى قوة هائلة، ترفض المال والجاه، وتستهين بالجبروت والطغيان، وتتحدى ـ مع ضعفها المادي ـ أقوى الأقوياء.” ونقرأ له أيضا: “أولئك هم سحرة فرعون من أبناء مصر، الذين ضُلّلوا من فرعون ومَلَئِه، حتى أذن الله لهم أن يتحرروا من الوهم والضلال، حين ألقى موسى عصاه، فلقفت كل ما ألقى السحرة من عصىّ وحبال (فوقع الحق، وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك، وانقلبوا صاغرين، وألقى السحرة ساجدين، قالوا: آمنا برب العالمين، رب موسى وفرعون، قال فرعون: آمنتم به قبل أن آذن لكم) وهدد فرعون وتوعد هؤلاء المؤمنين الجدد بالتقتيل والتصليب، فلم يبالوا به، وقالوا وهم في رسوخ الجبال (إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) (سورة الأعراف:125،126)”. انتهى. هكذا لم ير القرضاوي من التاريخ المصري القديم إلا الخرافات التي حكاها القرآن نقلا عن التورات وغيرها من حكايات العهد القديم، ولا نجد لها دليلا ماديا في التاريخ الفرعوني الذي كان أهله من أشد الناس حرصا على تسجيل الوقائع بما فيها تلك التي ارتبطت بالحياة اليومية العادية، ومع ذلك لا نجد أي أثر لأحداث عظيمة مثل تلك التي يرويها التاريخ الديني العبراني وينقلها عنه الإسلام. هل يعقل مثلا أن يتجاهل المؤرخون المصريون تسجيل أحداث هامة مثل تلك التي ارتبطت بموسى ويوسف وبمصير الدولة بأسرها مثل غرق الفرعون الإله وجيشه بعد أن انشق البحر وأمطرت السماء رمادا وقملا وجرادا وضفادع …؟ ثم ماذا كان يحرك المصريين القدماء عندما بنوا الأهرامات من أجل أن يدفن فيها الفرعون الإله وهو في طريقه إلى العالم الآخر ليشفع لشعبه؟ ألم تلعب الديانة المصرية الوثنية الكافرة، في نظر الإسلام، دورا محركا أيضا كما لعبت ديانات أخرى في جميع أنحاء الأرض من اليابان إلى حضارات الأنكا بأمريكا؟ إذا كان أمكن، في الماضي البعيد والقريب، تحريك الشعوب لبناء الحضارات، مهما كانت الأفكار والمعتقدات المحفزة، فما المانع اليوم لتحريك الشعوب، وقد حدث فعلا، بأفكار ومذاهب وأديولوجيات وضعية آمنت بها الشعوب، عن وعي أو عن جهل، وعبرت عن استعداد خارق للتضحية من أجل تجسيدها. لماذا يعتقد القرضاوي أن الإسلام وحده يمكن أن يكون محفزا لشعوبنا؟ هل كونها مسلمة يجعلها مغلقة الأبواب والنوافذ أمام الرياح القادمة من الشرق والغرب؟ ثم يعود القرضاوي إلى التاريخ المصري القريب ليشوهه بعد أن شوّه تاريخها القديم، مع قدر كبير من السذاجة، هذه المرة أيضا، يقول: “وعندنا مثل قريب واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ـ كما يقولون ـ يعبر أبلغ التعبير عن “أثر الدين” في تعبئة شعبنا، وتحريكه وبعثه في أي حركة يخوضها. هذا المثل هو معركة العاشر من رمضان ـ وهذا هو اسمها الذي يجب أن تذكر به دائما لا السادس من أكتوبر، كما قالوا بعد ـ إنها معركة هبت فيها رياح الإيمان، ونفحات رمضان، وقام فيها الإيمان الديني، بدور هائل شهد به المقاتلون أنفسهم، قادة وجنودا ولمسه كل مراقب لسير المعركة، من مصري أو عربي أو أجنبي”. “ولسنا من السذاجة أو الجهالة، بحيث ننسى دور التخطيط والتدريب والإعداد لهذه المعركة، ولكن ما كان هذا يغني لو فرغت القلوب من الإيمان، وقطعت صلتها برب السماء، كما كان عليه الحال في يونيو (حزيران) سنة 1967م.” انتهى. قبل أن أواصل مع الشيخ القرضاوي، أتوقف عند “العاشر من رمضان”. حيث يحرص رجال الدين على فرض استخدام هذا التقويم الهجري رغم ميوعته ومطاطيته. نتساءل مثلا: من يعرف منا الآن في أي فصل وقعت حرب العاشر من رمضان لولا التاريخ الميلادي؟ أليس من المضحك أن يقع شهرا ربيع الأول والثاني في عز الصيف والخريف والشتاء؟ ويقع جمادى في لهيب الصيف؟ لماذا الاحتفاظ بهذا التقويم الغائم رغم عدم صلاحيته حتى لتعيين بداية رمضان والأعياد الدينية، لا لشيء إلا لأنه ارتبط بهجرة محمد من مكة إلى يثرب ليعود إليها غازيا ويقضي على بؤرة حضارية كان يمكن أن تلعب دورا هاما في تاريخ العرب لولا غدر التاريخ؟ يقول القرضاوي: “إن شعار “الله أكبر” حين دوت صيحاته في الآفاق، لمس أوتار القلوب، وأوقد جذوة الحماس في الصدور، وحرك كوامن النفوس، وأيقظ معاني البطولة المستكنة بين الضلوع، ووصل الحاضر بالماضي البعيد، فتذكر أبناء مصر المؤمنة، أيام قطز، وصلاح الدين، وتذكروا قبل ذلك غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وسرايا أصحابه، ومعارك الإسلام الحاسمة في التاريخ”. “وهناك كان العبور، واقتحام خط “بارليف”، والانتصار على القوة، التي قيل يوما: إنها لا تقهر، كما قيل قديما عن التتار: إذا قيل لك: إنهم انهزموا فلا تصدق!”. والسؤال الذي نوجهه له هو: “إذا كان شعار “الله أكبر” هو الذي مكن الجيش المصري من اجتياز خط بارليف”، فلماذا لم يَحُلْ هذا الشعار دون تمكن الجيش الإسرائيلي من اختراق الدفاعات المصرية وعبور قناة السويس والوصول إلى الكيلومتر 101 في الطريق نحو القاهرة، وفرض التفاوض مع المصريين فيه أي على الأراضي المصرية وليس على الأراضي الإسرائيلية؟ ونواصل مع الحوافز الخرافية التي اعتقد القرضاوي أنها كانت في صلب الانتصار العسكري المصري في بداية الحرب، يقول: “لقد أقسم كثير من الضباط والجنود أنهم كانوا يرون مخلوقات بثياب بيض، تقاتل إلى جوارهم، وسواء كان هذا حقيقة أم خيالا، كما يقول الماديون، فعلى كل حال لا يشك أحد في قيمة الروح المعنوية عند من يحارب، وهو يعتقد أن الملائكة تحارب معه، وتنصره على عدو الله وعدوه!” خرافات الملائكة التي تحارب في صف المسلمين كثيرا ما لجأ إليها رجال الدين عندما تكون المواجهة بين من يعتقدون أنهم مسلمون حقيقيون وبين الكفار ابتداء من غزوة بدر إلى غاية حرب غزة مرورا بأفغانستان أيام الاحتلال السوفييتي لها. حتى حكوا لنا أن ثعبانا قتل 400 جندي روسي وأن طائرا أسقط طائرة وأن حفنة من الرمل كانت كافية لتفجير دبابة. ثم يقول القرضاوي عن الثورة الإيرانية: “ومهما يختلف المراقبون والمحللون في شأن الثورة الإيرانية، ومدى صوابها، أو خطئها في مواقفها، ومدى قربها من الإسلام أو بعدها، فإن الذي لا يختلف فيه اثنان: أنها استطاعت أن تعبئ قوى الشعب الإيراني تعبئة، لا نظير لها في التاريخ القريب، ولا في الواقع الحاضر. لقد جعلت من الشعب كله جيشا وراءها، يساندها في معاركها الداخلية والخارجية، وأشعلت إيمانه وحماسه، حتى لم يعد يبالي بالضوائق الاقتصادية، ولا بالحصار الخارجي، طلبا للجنة، وسعيا إلى “الشهادة” التي نالها إمامهم الحسين “رضي الله عنه”! “أجل، لقد جعلت الشباب الغض، يركض إلى الموت ركضا عن حرص وحب، وأبوه يبارك خطاه، وأمه تدعو له بإحدى الحسنيين، فإذا جاء نبأ شهادته، انطلقت الزغاريد في بيته، كأنه خبر زفافه إلى عروس، وليس نبأ مقتله في المعركة!” “ولقد نجحت الثورة نجاحا منقطع النظير في إخراج المرأة من عزلتها وأميتها الدينية والسياسية، ومن اهتماماتها التافهة بالزينة و”المودة” إلى الاهتمام بالقضايا المصيرية للدين والوطن”. القرضاوي وأمثاله من شيوخ السنة لا يتوقفون عن شن حرب دينية ضد الشيعة إلى حد التكفير، فكيف يصدق القرضاوي أن مذهبا مارقا عن صحيح الدين يتمكن من تجنيد الناس بهذه الصفة؟ لماذا لا يستنتج مثلا أن تعبئة الناس يمكن أن تتم بشتى الطرق سواء استندت إلى ديانات وثنية أو (سماوية) أو إلى أفكار وطنية وقومية وحتى عنصرية وشوفينية مثلما كان الحال في ألمانيا النازية وإيطالية الفاشية؟ هل نسي القرضاوي أن جمال عبد الناصر كان يحظى بشعبية لا نظير لها تجاوزت الحدود المصرية رغم أنه كان، حسب القرضاوي يرأس دولة “فرغت (فيها) القلوب من الإيمان، وقطعت صلتها برب السماء”. أما صاحبه الشيخ متولي شعراوي فقد صلى ركعتين شكرا لله على هزيمة مصر في حرب 1967. القرضاوي يجهل أو يتجاهل كل هذه الحقائق مادام هذا الجهل أو التجاهل يخدم المخططات الأصولية. ولهذا يقول: “على أن المثل الأروع الذي لا يقبل الجحود ولا الشك، هو ما يصنعه الإسلام اليوم على أرض أفغانستان الصامدة، وما يلقنه المجاهدون البسطاء من دروس للقوة العظمى الثانية في العالم “الاتحاد السوفييتي” لقد هزم إيمان الأفغان دبابات الروس وصواريخهم، وكذلك يصنع الإسلام دائما”. كان ذلك في الثمانينات. أما أهم الحقائق التي تعمد الشيخ تشويهها أو التستر عليها، فهي أن أولئك المجاهدين الذين حاربت الملائكة إلى جانبهم كانوا عبارة عن بيادق في لوحة الشطرنج الدولية بين المعسكرين المتصارعين يومئذ، ولولا الأسلحة الأمريكية الفعالة والأموال السعودية المدرارة ولولا الجسر الباكستاني لما حققوا شيئا يذكر. ثم يقول الشيخ: “وقد يقول بعض العلمانيين: إننا لا نمانع في استخدام الدين لشحذ الهمم، وبعث العزائم، وتعبئة الطاقات لدى الشعب لمواجهة التحديات، في معارك التحرير والتقدم والبناء”. “ونقول لهؤلاء: أولا: إن الدين أشرف وأرفع قدرا من أن يتخذ مطية تركب، أو أداة تستخدم لغرض موقوت، ثم يلقى به ـ بعد ذلك ـ في سلة المهملات، إن الدين هو جوهر الوجود، وسر الخلود، وروح الحياة، وهو غاية تقصد لذاتها، وليس مطية تركب. ثانيا: إن الدين لا يؤدي رسالته في البعث والإحياء والتعبئة، إلا إذا كان هدفا لا وسيلة، وكان دما يجري في عروق الحياة كلها، لا شيئا على هامش الحياة. إنما يؤثر الدين في الشعوب، ويغير من حياتها وسلوكها، إذا كانت كلمته هي العليا في التشريع والتوجيه والتعليم والتثقيف، بحيث يصبغ الحياة بصبغته، فينطلق الناس تحت لوائه، عاملين مخلصين، وفي الخيرات مسارعين ومسابقين. وثالثا: إن الشعوب بحاستها الفطرية، لا تستجيب لمن يجندها باسم الدين، إلا إذا لمست فيه الولاء لدين الله، وأحست بحرارة الإخلاص له، والحرص على تطبيق شرائعه، وتعظيم شعائره، والدخول فيه كافة كما أمر الله. وإلا أعرضت عنه، وكشفت خداعه ونفاقه، وقالت في قوة وجلاء: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟) (سورة البقرة:85). وهو كلام لا يستقيم أبدا حتى في مواقف وتصرفات أمثال القرضاوي والغزالي وغيرهم ممن سخروا دينهم وأعمارهم لخدمة أولياء نعتمهم من ملوك وحكام الاستبداد العربي. خير دليل المثال الذي أوردناه له عن موقفه المتملق للأنظمة الملكية العربية: