«الأسد أو نحرق البلد»، عبارة انتشرت على جدران الشوارع عندما بدأ العصيان في درعا، فجاءت عبارة أخرى كانت بمثابة رد عليها: «نحرق الأسد ونبني البلد»، وتحول العصيان إلى حرب.
عام 2010 قال الأميركيون: «لا بديل عن نوري المالكي» بعد انتخابات خسرها، فصار العراق على ما هو عليه الآن مجزأ، محروقًا، فقيرًا يريد أهله الهجرة منه. الآن تأتي روسيا وتقول بعد نحو 5 سنوات من الحرب: «لا بديل عن الأسد حتى الآن»، مما يعني عودة عبارة «الأسد أو نحرق البلد»، حتى لو كان بقاؤه مرهونًا بحسابات روسية لن يدخل في معادلاتها لاحقًا، لأنه حتى الروس لا يعرفون ما ينتظرهم رغم كل حساباتهم.
بعد أن حول سوريا من لاعب إلى ملعب، لا تقاس وقاحة النظام السوري و«طبوله». في صور للأقمار الصناعية التقطت ما بين أبريل (نيسان) عام 2012 وأبريل هذا العام تبدو سوريا في الأولى وفيها ضوء من مدن وأحياء، وفي الصورة الثانية العتمة والظلام يخيمان على تلك المدن والأحياء. ثم يقول الأسد للتلفزيون الإيراني مساء الأحد الماضي: «بالنسبة إلى النظام السياسي في سوريا فإنه شأن داخلي»، وكأنه لا يزال هناك داخل، أو كأن مصيره شخصيًا ملك يديه. وتنقل مصادر غربية أن عددًا من رجال النظام السوري اشتكوا لموسكو لأن «الأسد تحول إلى دمية من طين بين أيدي الإيرانيين».
منذ بداية الحرب السورية وروسيا موجودة، بعكس أميركا. وباعتراف الجميع أثبتت أنها حليف قوي لرئيس محاصر. زودت نظامه بالأسلحة والمستشارين، وعندما بدأ جيشه يتقهقر ولم يعد سلاحه الجوي قادرًا على ملء الأجواء كما في السابق، تدخلت. لن ترسل قوات برية، وكما تعتمد إيران في حروبها على الميليشيات اللبنانية والعراقية وغيرها، ستعتمد روسيا على قوات من الجيش الإيراني وعلى هذه الميليشيات للقتال برًا.
حسب الطرح الروسي فإن الأسد قوة يعتمد عليها لمواجهة الإرهاب، وبنظر الأسد فإن كل من هو ضد نظامه يعد إرهابيًا. من المؤكد أنه من دون دعم روسيا وإيران لكان نظامه انهار، ولو لم يكن الأسد رئيسًا لسوريا عام 2011 لما وقعت الحرب.
دوافع إيران في سوريا واضحة: فالأسد ينتمي إلى أقلية علوية يساعد بقاؤها في السلطة على تثبيت الهلال الشيعي الممتد، حسب إيران، من العراق حتى لبنان. برأيها، العلويون قريبون جدًا من الشيعة، وبالتالي يجب دعمهم. أما استراتيجيًا فإنها تريد سوريا متعاطفة كجسر بري يصلها بحزب الله في لبنان. ما لا تريد إيران التخلي عنه في العراق هو المناطق الشيعية وبغداد، أما المساحات الباقية فليتفق عليها الآخرون. هذا ما تريده أيضًا في سوريا، المناطق التي يمر عبرها الجسر. لكن المشكلة أن اللعبة الروسية، رغم كل فظاظتها، تبقى براغماتية، إذ لا شيء يمنع موسكو من التقارب والتحالف مع أعداء إيران في المنطقة إذا كان هذا سينمي نفوذها على المسرح الدولي. ثم إنها لا تهتم كثيرًا بالمحافظة أو حماية إمدادات حزب الله عبر سوريا إلى لبنان. طموح إيران أن تصل إلى الجنوب السوري أيضًا، لكن موسكو تعهدت لإسرائيل بأن هذا لن يحصل، والاتصالات بين الدولتين – كما التنسيق – قائمة. ثم إن ديموغرافيا سوريا تلعب ضد إيران، إذ سيصعب، ومهما كان الثمن، إبقاء أكثرية سنية تحت حكم أقلية شيعية، وتنص العقيدة الروسية الآن على تغلغل في مياه البحر المتوسط الدافئة، وموطئ قدم في الشرق الأوسط، وهذا ما تفكر فيه إيران أيضًا.
عندما انهار الاتحاد السوفياتي شعرت روسيا الفيدرالية بأنها لم تعد قوة عظمى تجب استشارتها، وصارت النكات الأميركية تطلق على أن روسيا جمهورية موز من دون موز. ومع الفشل الأميركي في مواجهة النظام السوري، وتحول تهديدات الرئيس الأميركي باراك أوباما بوجوب ذهاب الأسد إلى نكات، شعر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الفرصة توافرت له. هناك سوريا، وبالتالي لا حل لها أو فيها من دون روسيا.
بالنسبة إلى روسيا في سوريا، في 24 من الشهر الماضي قال الجنرال فيليب بريدلاف، قائد القيادة الأميركية في أوروبا والمسؤول عن عمليات الحلف الأطلسي، إن «الروس يبنون دفاعات جوية بعيدة المدى في قاعدة جديدة في حميميم على الساحل السوري من اللاذقية». وتحدث عن فقاعة روسية جديدة تمنع الوصول الجوي إلى شرق المتوسط، وذلك، حسب الجنرال بريدلاف، لإبقاء الدول الغربية بعيدة عن المجال الجوي فوق سوريا أو بالقرب منها، مضيفًا أن قتال «داعش» لا يبدو أن له الأولوية في الحسابات الروسية، وأن القوات الجوية وبينها طائرات «سوخوي – 40» وصواريخ «أرض – جو» ستعّقد عمليات الولايات المتحدة وحلفائها في سوريا وأبعد من سوريا. وشرح أن هناك فقاعتين روسيتين الآن؛ واحدة في كالينينغراد بين بولونيا وليتوانيا، تمكن الصواريخ الروسية من الوصول إلى الأجواء البولونية، وإيقاف تعزيزات الأطلسي، وأخرى في البحر الأسود، حيث أدى احتلال الروس لشبه جزيرة القرم إلى إنشاء منطقة تمنع الطائرات الغربية من الوصول إليها.
وفي 24 من الشهر الماضي، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنها ستجري في شرق البحر الأبيض المتوسط ولمدة شهر مناورات وتدريبات بالذخيرة الحية، بما في ذلك إطلاق صواريخ وقذائف المدفعية في البحر ونحو أهداف محمولة جوًا. ورغم إشارة الوزارة إلى أن هذه العملية تم التخطيط لها طوال عام، فإن المتابعين ينظرون إليها على أنها استعراض من موسكو لعضلاتها.
وإضافة إلى رغبة بوتين في استعادة موطئ قدم في المنطقة وتحصين الأسد لفترة محدودة حتى «تاريخ انتهاء مدة صلاحيته»، هناك قلق استراتيجي روسي حقيقي، وهو وقف انتشار «المتطرفين الإسلاميين» كي لا يعودوا إلى شن عمليات إرهابية داخل روسيا أو ضد مصالحها في آسيا الوسطى وشمال القوقاز. ويأمل النظام السوري من التدخل الروسي أن يعزز سيطرة دمشق على المحور الذي يمتد من العاصمة إلى المدن المتنازع عليها، حمص وحماه، والمعاقل الساحلية، طرطوس واللاذقية، وهي المنطقة التي كانت تمثل الجزء الأكبر من الكثافة السكانية قبل الحرب. ويأمل كذلك أن تسهم الغارات الروسية في القضاء على جميع المتمردين المسلحين، وإعادة احتلال العاصمة الاقتصادية حلب.
الدعم الإيراني لم يمنع هزيمة النظام في إدلب القريبة من القرداحة، المعقل الاستراتيجي للنظام ومسقط رأس الأسد. سقوط إدلب نشر الذعر في قلب اللاذقية.
بالنسبة للنظام ومؤيديه في معقل العلويين فإن إبعاد المتمردين عن الساحل السوري يشكل أولوية عن القضاء على وجود «داعش» في مناطق بعيدة مثل دير الزور.
وقال مايكل فالون، وزير الدفاع البريطاني، يوم الأحد الماضي، إن «سوريا تستحق أن تتحرر من الأسد ومن (داعش)». ورغم تأييد أوروبا الضمني للعمليات الروسية، ودعوات عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي إلى تأييدها أيضًا، فإن حماية نظام الأسد، ولو مؤقتًا، لا تلغي خطر «داعش»، إذ لا يمكن، كما تفكر الإدارة الأميركية، تطويقه وتركه يتعفن. إن عدم محاربته سيؤدي إلى انتشار الإرهاب في جميع أنحاء العالم، ولن يكون بالإمكان التحكم فيه في كل مكان. ويقول أحد الدبلوماسيين الغربيين إن «الوقت إلى جانب (داعش)، التنظيم لا يريد أن يتفاوض مع أحد، التردد والعمليات غير الفعالة يسمحان له بالانتشار والتقدم لإقامة دولة الخلافة، وإذا تركت مواجهته لوقت لاحق فإنها ستزداد صعوبة، والنتيجة لن تكون مؤكدة».
ويضيف: «على روسيا أن تدرك أن الدولة التي ستنشئها للأسد لن تسلم من خطر هذا التنظيم، لذلك يجب إنقاذ كل سوريا، وهذا لا يكون إلا بحرب تشارك فيها جيوش عربية وأميركية وأوروبية وروسية. هذا هو الحل الوحيد المتوافر، وبطبيعة الحال هو من أسوأ الحلول، لكن هزيمة 30 ألفًا من الراديكاليين الحاسمين المجهزين تجهيزًا جيدًا، والذين تهرب منهم الشعوب، ممكنة الآن قبل أن تتوسع رقعة انتشارهم ويتضاعف عددهم».
* نقلا عن “الشرق الأوسط”