حرّانيون ..أم صابئة ؟

حرّانيون ..أم صابئة ؟Harran
بقلم; عضيد جواد الخميسي
في فترة العصر الروماني ، استمرت حرّان في التعلّق بمذهب عبادة الكواكب بالرغم من تدفق المسيحية وانتشارها بين جيرانها الرهاويين. أمّا الكتابات السريانية في حرّان في ذلك العهد فإنّها لا تحمل أيّ تأثير مسيحي. كانت حرّان بصورة مستمرّة تفقد القوّة أمام جارتها النشيطة والمؤثرة ,,الرُها,, التي أصبحت العاصمة الجديدة للإقليم بضمنه حرّان.
تبرهن الكتابات المنقوشة في سوماتار على أنّ هذا الموقع كان مركزاً دينياً هاماً في أثناء القرن الثاني الميلادي لأنّ التاريخ بموجب السنة السلوقية 476 (=164/165م). تظهر عدّة مرات في النصوص ،علاوة على هذا فقد وجد المؤرخ دريجيفرز كتابة آرامية من ثلاثة أسطر مع كتابة يونانية منقوشة قد يعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الرابع ق.م ويفترض أنّ في ذلك الوقت كانت سوماتار مأهولة، وأنّها لعدّة قرون كانت مركزاً دينياَ هاماً.
يأتي في النصوص هو سين، الإله القمر في حرّان القديمة و يُدعى ،، شارايلأنّي،، ملك الإلهة و ،،بيل ايلاني ،، ” ربّ الآلهة”. وفي غضون القرون الوسطى كان الحرّانيون يستعملون ألقاب إله الآلهة وربّ الآلهة لسين الإله القمر. لذلك فإنّه واضح كما صرّح دريجفرز, أنّ هذه التسمية ترجمتها في السريانية مار إلاهي “ربّ الإلهة” وهذا اللقب يحمله سين أيضاً على النقود المعدنية من مدينة الحفر. ويبدو أنّه من المعقول أن يعرف سين،، بمار الاهي ،،ومركزه كرأس الإلهة في بانثيون سوماتار،
كانت النقود المعدنية الرومانية في حرّان من ماركوس اوريليوس (161-180 م) إلى غورديان الثالث (238-243 م) تنقش عموماً بشعار الإله القمر, وهلال قرناه إلى الأعلى، موضوع على الكرة الأرضية, وكان الهلال يمثل عادة مع نجم واحد, ولكنّنا نرى بين فقرة وأخرى نجمين، لا بد انّهما يشيران إلى الشمس والزهرة، فنحصل بهذا على ثالوث، سين والشمس وعشتاروت، من ناحية أخرى فإنّ النقود المعدنية تظهر بضع مرات النصف الأعلى من تمثال إلهة المدينة التي قد تكون نينغال قرينة الإله القمر سين، لأنّ نصفها الأعلى يظهر على قطعتين معدنيتين (رأساً يلبس تاجاً بأبراج ) (وهلالاً قرنيه إلى الأعلى ) وهما يظهران معاً.
وأيضاً في أثناء الزمن قبل الغزو الإسلامي للمنطقة كان لا يزال سين يبجّل كثيراً . وبموجب المؤرّخين الرومان في سنة 217م كان الإمبراطور كركلا قد اغتيل أثناء رجوعه إلى القصر من هيكل حرّان الذي كان يبعد قليلاً, والمعبود الذي كان يعبد كان معبوداً قمرياً. ومرّة أخرى فقد كان المعبود القمري نفسه الذي قدّم له الإمبراطور جوليان احتراماته في حرّان أثناء توقّفه في حملته سنة 363م. وتذكر “عقيدة اداي” المؤلّفة حوالي 400 م “القمر أيضاً بين تلك الآلهة التي كان الحرّانيون يعبدونها. في حين يذكر يعقوب السروجي (451-521م) سين بين إلهة حرّان. إنّ الإله القمر في “عقيدة اداي ” وسين في رواية يعقوب السروجي هما, الإله نفسه الذي يعبد في حرّان. الاختلاف الوحيد بين هذين المصدرين هو أنّ يعقوب السروجي يعرف اسم الإله القمر الحرّاني.
وفي سنة 361 عُيّن أول أسقف لحرّان واسمه,, بارسلي,,. وكتبت امرأة حاجّة اسبانية اسمها,, ايفريا,, في القرن الرابع أو الخامس ما يلي:
[لم أجد مسيحياً واحداً في المدينة نفسها ما عدا بضعة من الإكليروس والرهبان القديسين (الذين أيّاً يكن الأمر, كانوا يبقون خارج الأسوار). جميعهم كانوا وثنيين].
كما ذكر المؤرخ المسيحي بر العبري ,, القرن الثالث عشر,, ان حران كانت قد شيدت من قبل ,, قينان ــ والد الجد ابراهيم شيلة في بعض الروايات ,, وكان اسمه لابن اخر من قينان اسمه حران.

في الوقت الذي كانت المسيحية تنتشر بسرعة في جميع بقاع العالم المعروفة ،ظلت حران صامدة بدياناتها تجاه الحملات التبشيرية الواسعة ،ولم يصيب حران الا تغير طفيف بالتحول الى المسيحية .
كانت المدارس واكاديميات الفلسفة قد اغلقت ، وقتل الكثير من الطلبة الدارسين وفلاسفتهم اعقاب الدين الجديد في الاسكندرية في مصر ،وسعى العديد من الفلاسفة والمفكرين والعلماء باللجوء الى حران بكتبهم ومؤلفاتهم ،وفي وقت لاحق عثر على بعض منها وترجم قسما منها الى العربية والى لغات اخرى شقت طريقها الى اوروبا .
ويذكر البيروني أيضاً بيل حرّان التي من المحتمل أنّه يشير إلى سين, رأس البانثيون الحرّاني، علاوة على هذا فإنّه يسجل أعياد الحرّانيين تبجيلا للقمر، وأحد هذه الأعياد هو “عيد دير سيني” الذي كان يحتفل به في الثامن والعشرين من نيسان. ويذكر مهرجان آخر هو “عيد الكائن الحيّ القمر”. وأخيراً يذكرالبيروني الدحداق. وهوصنم القمر, ويسجل ثلاثة أيام لمهرجاني الصنم في السابع “والحادي عشر” والثاني عشر من أيار.
ابن النديم أيضاً يذكر مذهب سين لدى الحرّانيين ويعطينا معلومات كثيرة عن احتفالاتهم بالأضاحي : يذبحون فيها الثيران بصورة عامّة ويقدّمون القرابين المحروقة لسين. ويذكر ابن النديم أيضاً لقب ربّ الآلهة لهذا الإله. ومصادر إسلامية أخرى تتكلّم عن القمر الحرّاني ومذهبه بدون إعطاء اسم الإله القمر.وما عدا المصادر الإسلامية فإنّ مايمونيدس أيضاً يخبرنا عن مذهب القمر لدى الصابئة (الحرّانيين )، ويذكر أنّ القمر كان واحداً من إلهيهما العظيمين وكان الآخر الشمس. ويبدي ملاحظة أيضاً أنّهم كانوا ينصبون تمثالاً فضياً للقمر. وبموجب اعتقادهم كان آدم رسول القمر الذي نادى الشعب ليعبد القمر، ولكنّ ابنه شيت عارض والده آدم في عبادة القمر.
هناك رسالة من مردوخ ــ شوم ـــ اوسور إلى الملك آشور بانيبال بخصوص حملة إسارحدون على مصر يقول فيها:
[عندما ذهب والد الملك، سيّدي، إلى مصر، لاحظ في مقاطعة حرّان هيكلاً مبنياً من الأرز. كان سين فيه (ممثلاً ). ومدعوماً بعكاز, وتاجين موضوعين على رأسه ووقف الإله نوسكو أمّامه ].
وبموجب هذه الرسالة كان هيكل القمر الذي رآه إسارحدون خارج مدينة حرّان. وإحدى كتابات نابونائيد المنقوشة في حرّان تقول :
[ في وسط حرّان في إي حُل حُل مسكن راحة قلوبهم جعلهم يسكنون بمسرة و إقامة الأفراح ].

اعتقد الحرّانيون في القرون الوسطى في أنبياء معيّنين وسطاء بين البشر والكائنات المقدّسة, ولو أنّنا لا نرى هذا الاعتقاد قبل هذه الفترة. وبحسب عقيدتهم في الأنبياء ، بحيث كل من يعلن نبوّته عليه ان يكون( الخالي من الشرّ في نفسه, والخالي من التشوّهات في جسده، وهو كامل في كلّ شيء يستحقّ الثناء. ولا يقصّر في الإجابة على كلّ سؤال بالصواب, ويخبرنا في التصوّرات, ويستجاب على صلواته من أجل المطر. ويقي الحيوانات والنباتات من الحشرات، وهو الذي تحسّن عقيدته العالم وتزيد من سكّانه).
اما المؤرخون المسلمون في القرون الوسطى يتكلّمون عن طوائف مختلفة من الصابئة الحرّانيين. فعبد القادر البغدادي ( 429هـ/1037م) يخبرنا عن طائفتين مختلفتين، ويصرّح أنّ إحداهما[ هي جماعة من اليونان يعتقدون أنّ الكون ليس أبدياً وأنّ هناك خالق لا يشبه أيّ شيء آخر, وهو حيّ وأبدي, يتكلّم ويرى, وهو منظّم الكون. وبحسب ما يقوله البغدادي هناك جماعة أخرى تقبل أساسياً هذه النقاط, ولكن لا تستطيع القول إنّ الخالق أبدي, إنّه عارف وقادر على كلّ شيء, ولكنّنا نقول إنّه ليس بميت وليس بجاهل، وليس بعاجز]. وكما هو واضح إنّ الاختلاف الوحيد بينهما هو وصف الخالق. فالمجموعة الثانية تصف الخالق (الصانع) بأنّه خالٍ من أيّ شيء رديء ويستعملون في وصفهم طريقة التعبير السلبي.
يخبرنا الشهرستاني عن فرقة أخرى, وبعده يفعل الدمشقي الشيء نفسه, وكلاهما فصلاهما إلى مجموعتين: عُبّاد الكواكب وعُبّاد الأصنام. ويدعو الشهرستاني عبّاد النجوم “أصحاب الهياكل” وعبّاد الأصنام “أصحاب الأشخاص”. الجماعة الأولى تعتقد أنّ الأولياء والأرواح السماوية هم وسطاء الكائنات المقدّسة ولذلك يجب احترامها مباشرة. من ناحية أخرى تقول الجماعة الثانية إنّ الأصنام يجب أن تعبد طالما هي الممثّلة للأرواح الكوكبية والكائنات السماوية. إنّ ما نفهمه من الفرق بين الجماعتين هو أنّ عبّاد النجوم يفضّلون أن يعبدوا الأولياء والكواكب مباشرة ويقاومون الاعتقاد بأنّ الأصنام هي وسيطة الكائنات المقدّسة.
ويخبرنا النديم أيضاً عن الطوائف الحرّانية العرفانية. إحداها تدعى “الرفوسيون” وعلى ما نقرأ في الفهرست[ إنّ أعضاء هذه الطائفة من النساء لا يلبسنَ الذهب أبداً ولا يتحلَّين به تحت أيّ ظرف. وكذلك فإنّهنّ لا يلبسنَ أحذيةحمراء. وفي مهرجانهنّ السنوي يضحّينَ بالخنازير لآلهتهنّ ويأكلنَ لحمها. وتوجد طائفة أخرى عرفانية أيضاً يحلّق أعضاؤها، الرجال منهم والنساء رؤوسهم بموسى الحلاقة.]
وبحسب مصادر القرون الوسطى، وما خلا مذهبهم الكوكبي المركزي, ، اعتقد الحرّانيون في تلك الفترة اي القرون الوسطى إجمالاً أنّ هناك خالق مقدّس للعالم بعيد عن كلّ مخلوق، وفي عقيدتهم أنّه العلّة الأولى (الخالق الفائق السامي) للعالم. وهو أبدي واحد وليس متعدّداً. وفي اعتقادهم هذا نفهم أنّهم، كماصرح البيروني، أقرّوا بشكل من أشكال الإيمان بالإله الواحد. وهذا لا نستطيع أن نراه بين اعتقاداتهم قبل عصور القرون الوسطى.
إنّهم يعزون حكم العالم إلى الكرة السماوية وأجرامها التي يعتبرونها حيّة وتتكلّم وتسمع وترى الكائنات، لأنّه بموجب عقيدتهم إنّ هذا الخالق المقدّس يتولّى الجانب الرئيسي فقط, ويترك الأمور الأقل أهمّية إلى الوسطاء الذين يعينهم هو نفسه لكي يشرفوا على تسيير العالم. فالأجرام السماوية أو الكواكب السبعة وعلامات البروج الاثني عشر تعمل وسيطة بين البشر والإله السامي. والكواكب لها تأثير عظيم على الكائنات البشرية. وهي التي تسبّب الحبّ والكراهية والمعرفة والشفاء لأنّ لها مزايا حسنة واخرى سيئة . واعتقد الحرّانيون في عناصر أوّلية معيّنة انبثقت من العلّة الأولى, الإله السامي. وهذه هي: “العقل” و”الروح” و”السياسة” (نظام الكون ), و”الصورة” و”الشكل” و”الضرورة”. هناك شبه واضح بين هذه العقيدة الحرّانية وفلسفة اليونان القديمة، لذلك فسّر علماء القرون الوسطى أهمّية هذه العقائد المجازية باصطلاحات وأعمال أرسطو الفلسفية. والبيروني أيضاً لفت أنظارنا إلى العلاقة بين هؤلاء المتعبدين واليونان الأقدمين, وصرّح بأنّهم كانوا بقايا أتباع دين الغرب القديم، انفصلوا عنه منذ أن تبنّى اليونان المسيحية.
في اعتقادات الصابئة الحرّانيين إنّ هذه العناصر الإلهية سامية جدّاً ليتّصل بها الإنسان لدرجة أنَّ بعض الوسطاء ضروريون، وعندما تأتي روح الإنسان إلى الارض, تجد لها جسماً بشرياً لتسكنه. وبالطريقة نفسها، عندما تأتي إحدى هذه الأرواح السماوية إلى الأرض تسعى إلى هيكل لتجد فيه مسكناً. ولهذا، ابتنى الحرّانيون مساكن أرضية لتعطي كلّ هذه الأرواح الإلهية مكاناً ترتاح فيه في أثناء إقامتها على الأرض بحيث كان يعتبر تجرّؤاً من قِبل العابد أن يصلّي مباشرة للإله السامي. الصلاة كانت توجّه إلى الآلهة الصغيرة فقط.
كان الحرّانيون مترسّخين جدّاً في مذهبهم الكوكبي القديم. وفي حقيقة الأمر, كانوا مشهورين جدّاً في هذا المذهب. واعتقدوا إجمالاً أنّ الكواكب السبعة, والقمر والشمس، وزحل, والمريخ, والمشتري, وعطارد, والزهرة، هي الخالقة والحاكمة ومنظّمة الكون. واعتقدوا أيضاً أنّ الكواكب السبعة كانت تمنح الحظّ الحسن والسيء وتمنح البركات. وفي اعتقادهم أنّ هذه الأجرام السبعة هي ذكر وأنثى ولهما عواطف مشتركة بينهما, وتمتلك أيضاً حظّاً حسناً وسيئا .
وحسب ما يقوله الدمشقي عن الهياكل الحرّانية, يصف الحرّانيون عشتاروت بزوجة الشمس والقمر. ومن الواضح أنّها كانت تعبد كإلهة خصب من قِبل الحرّانيين في ذلك الوقت. وكان لهم بعض طقوس التبجيل لهذه الإلهة بحيث كانوا يقدّمون لها عدّة أنواع من الثمار ذات الرائحة الطيّبة، جافّة أو طازجة، بضمنها الخضار.
وفي اعتقادهم أنّ لكلّ كوكب تأثيره على صنف معيّن من الناس. فزحل له تأثير على الأشخاص ذوي السُلطة، والمشتري على الحكماء والفلاسفة، والمريخ على الأشخاص العنيفين، والشمس على الناس البارزين، والزهرة على النساء والأولاد والفنّانين، وعطارد على المتعلّمين والعلماء، والقمر على المزارعين والمتشرّدين.
ولقد وزّع الحرّانيون المعادن والألوان المختلفة بين الكواكب. فكان لكلّ كوكب لونه ومعدنه الخاصّ به. فاللون الأسود والرصاص كان خاصّاً بزحل، واللون الأخضر ومعدن الخارصين بالمشتري، واللون الأحمر والحديد بالمريخ، واللون الأصفر والذهب بالشمس، واللون الأحمر والنحاس بالزهرة، وربّما الأزرق الداكن والفخار بعطارد، والفضّة بالقمر.
إنّ هذا التقليد يتّصل اتّصالاً وثيقاً بالدين البابلي. وقد لوحظ من أطلال ايزيدا، هيكل نابو في بارسييا، في منتصف القرن التاسع عشر، أنّ الطبقات السبع الواحدة منها فوق الأخرى كانت لا تزال محتفظة بألوانها، ابتداءً من الأرض إلى الأعلى .
وتفيد مصادرنا العربية أيضاً أنّ هناك صلة بين بعض الابنية القديمة خارج حرّان والحرّانيين. فالبيروني مثلاً يذكر أنّ إحدى نصبهم التذكارية هي القبّة فوق المحراب بجانب المقصورة في الجامع الكبير في دمشق.
وعلاوة على هذا فإنّ البيروني وأبا الفدا وابن حزم يصرّحون أنّ الصابئة الحرّانية يوقّرون الكعبة، البناء المقدّس في مكّة.
وأخيراً فإنّ أبا الفدا يدّعي أنّهم يبجّلون أهرامات مصر لأنّهم يفترضون أنّ هذه الأهرامات هي مدافن شيت وادريس وابنه صابي.
وبحسب ماورد في الفهرست للنديم هناك إله حرّاني آخر هو الإله طاووس الذي تبكي عليه نساء حرّان في أثناء العيد في تمّوز. والبيروني أيضـاً يذكر هذا الإله نفسه باسم تمّوز، ويذكره مايمونيدس تمّوز.
من الواضح أنّ هذا الإله يشبه الإله السومري الأكدي تمّوز أو دموزي الشهير، وهو إله النبات الذي كان موته السنوي وقيامته يحتفل بهما في الشرق الأدنى القديم برمّته. وإحدى الميزات
البارزة في هذا المذهب هو البكاء على موت تمّوز الشابّ قبل أوان
فإلى جانب هذه الشخصيات الميثولوجية والفلاسفة القدماء، من بين الأنبياء الذين يذكرون في التوراة والقرآن يعتقد الحرّانيون بآدم فقط. فهم يعتقدون أنّ آدم شخص ولد من ذكر وأنثى كبقيّة أفراد البشر, ولكنّهم يمجّدونه ويقولون عنه أنّه كان نبياً, ورسول القمر الذي دعا البشر إلى عبادته. وإنّ هناك كتابات كتبها هو نفسه عن حراثة التربة – وعن آدم يقصّون حكاية ميثولوجية عن سفرته من الهند إلى بابل.
واعتقدوا أنّ نوح الذي كان يحرث التربة، لم يعبد صنماً أبداً. وأنّه ضُرب وأودع السجن بسبب عبادته لله. واعتقدوا أنّ شيثاً أيضاً اعترض على رأي والده آدم بخصوص عبادة القمر. ولا يقبلون بتنبّؤات يعقوب وإسحاق وإسماعيل وصالح وهود وشعيب ومحمّد بن عبد الله (نبيّ المسلمين).
كما رأينا إنّ أهمّ ميزة بارزة عند أنبياء الحرّانيين هي صلتهم بالفلسفة والميثولوجية اليونانية القديمة. إنّه من الصعب معرفة متى دخل الإيمان بهؤلاء الأنبياء في نظام عقيدتهم. ولكن لا بدّ أنّ هذا حدث بعد الإسكندر الكبير لأنّ الحضارة اليونانية أثّرت في المنطقة بعد غزواته فقط. وإجمالاً، فإنّ مؤرخوا القرون الوسطى عرّفوا بعض أنبياء الحرّانيين كـ اغاثوديمون وهرميس بالأنبياء الذين يأتي ذكرهم في القرآن كشيث وادريس، ولو أنّ معظم هذه التعريفات هي ضدّ اعتقادات الحرّانيين الخاصّة. والسبب في هذه التعريفات من المحتمل أن يكون في هؤلاء العلماء فكّروا في أصل عقيدة الإله الواحد لهم ..

إنّنا نسمع عن علماء شهيرين عديدين من أصل حرّاني, قاموا بدَور هامّ في حقل الثقافة في أثناء العصر العباسي. وأوّل شخص من حرّان أصبح شهيراً كان ثابت بن قرّة (835-900م) الذي وُلد في حرّان. ثم اٌرغم على الهجرة إلى بغداد وأصبح فيها شخصية مرموقة في الفلسفة والطبّ والترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية, ونتيجة لهذا قبله الخليفة العباسي المهتدى بالله (852-902م) في القصر, ولم يغيّر دينه أبداً وعاش ومات عليه، وبعد ثابت بن قرّه قُبل العديد من العلماء الحرّانيين في قصر الخليفة وكان بينهم ثابت بن سنان بن قرّه الحرّاني (توفّي سنة 975-365هـ). واشتهر في الطبّ والتاريخ في زمن الخلفاء العباسيين الراضي بالله (909-940 م)، والمستكفي (توفّي سنة 949م)، والمتقي لله (توفي سنة968), والمطيع لله (توفّي سنة 974م). وكذلك إبراهيم بن هلال الحرّاني (952-995م) الذي اشتهر في الدوائر الأدبية في زمن الخليفة العباسي المطيع لله . .إنّ الاعتدال في المشروبات المسكرة كان لدى الصابئة يُعتبر فضيلة . وأيّم الحقّ ، فإنّ إبراهيم بن هلال الصابئي نظم أبياتاً من الشعر في مزايا الخمر الجيّدة – ولكنّه كان مديناً في تقدّمه لاعتداله في شرب الخمر . وكان مرّة في حفلة شرب على مائدة الوزير مع أصدقاء آخرين عندما وصل رسول من قِبل الخليفة يطلب منه أن يرسل فوراً رسالة إلى حاكم بعض الأقاليم . وكان إبراهيم الوحيد الذي يستطيع أن يتمالك نفسه ويكتب وثيقة مناسبة ، ما أثار إعجاب أصحابه.. وبعده في زمن معزّ الدولة ابن بُوَيْه (915-967م) وأصبح أمين سرّ الدولة.
في هذا الوقت كان هناك مركزان ثقافيان من العلماء الحرّانيين: مدينتهم الوطنية حرّان والعاصمة العباسية بغداد. وفي زمن حكم الخليفة المتوكّل (822-861م) فإنّ مدرسة الفلسفة والطبّ التي كانت قد انتقلت من الإسكندرية إلى حرّان, اكتسبت أهمّية, وكسب الحرّانيون في بغداد احترام معاصريهم المسلمين باستقامتهم ومقدرتهم, وحصلوا على الترخيص من الخليفة نفسه ليمارسوا احتفالاتهم علانية في أماكن عبادتهم في الأراضي المجاورة لحرّان.
وبين سنتي 990-1081م حكمت السلالة النميرية على المقاطعة بين سروح وحرّان والرقّة, يصرّح الجغرافي الدمشقي أنّ المصريين، أي[ الفاطميين], احتلّوا هيكل القمر في حرّان في سنة 1032م/424هـ. ولكن ليست هناك أيّة اشارة عن عمل فاطمي في هذه المنطقة في هذه الفترة الزمنية, فالحدود الفاطمية مرّت قليلاً شمال دمشق. وقد اضطرّ شبيب سيّد حرّان إلى أن يطلب الحماية من البيزنطيين لوقت قصير. ولم يكن حتّى سنة 1037م/429هـ أن أطاع نداء الحاكم الفاطمي ديزيري الذي كان قد احتلّ حلب, واعترف بحكم الفاطميين.
وفي القرن الثاني عشر كان هذا الجزء من ما بين النهرين بضمنه الرها وحرّان مسرحاً للصراع على السُلطة بين الصليبيين والسلجوقيين – وبعد هذا، الأيوبيين. وحافظ الشعب الحرّاني إجمالاً على وحدته, في حين دعم الرهاويون الصليبيين. وفي ذلك الوقت حاول الحكّام الرهاويون المسيحيون بصورة مستمرّة أن يحكموا حرّان.
وكمثال على ذلك في سنة 1104م عندما انضمّ الجيش الصليبـي مع الرهاويين, وصلوا سهول حرّان, منع بلدوين الرهاوي الحرّانيين من إعطاء مفاتيح المدينة للقائد الصليبـي لأنّه فكّر أنّها تخصّه, فقد كانت في مقاطعته.
. وفي القرن الحادي عشر كان الهيكل الصابئي الذي بُني مكان الهيكل الذي تمَّ تدميره لبناء مسجد في بداية الاحتلال الإسلامي ، قد دمّر هو أيضاً . ولكنّ بعض البنايات الرائعة التي بنيت على أماكن هياكل صابئية كانت ما زالت قائمة ورآها الرحّالة الإسباني ابن جبير في نهاية القرن الثاني عشر-;-
[ كان لحرّان أسواق منسّقة تنسيقاً بديعاً ومركّبة بصورة فريدة . وكانت جميعها مسقوفة بالخشب ولم يكن الناس يخرجون من الظلّ الطويل أبداً . ترى نفسك وأنت تمرّ فيها . وكأنّك تمشي في أروقة طويلة داخل البيوت.. ومسجد المدينة الكبير ، وهو قديم مرمّم ، جماله منقطع النظير.. ولم نرَ مسجداً أقواسه واسعة من قبل مثل هذا قطّ . أمّا جمال بناء هذا المسجد وترتيب الأسواق حوله فرأينا فيها مشهداً بديعاً وتناسقاً في التصميم قلّما تراه في المدن..وحرّان.. مدينة كبيرة ، بأسوار ضخمة وقويّة.. ولها قلعة متينة في الجانب الشرقي منها وجدران القلعة نفسها محصّنة تحصيناً قويّاً ] .
وفي سنة 1237م أصبح الخوارزميون( السمرقنديون ) , الذين كان المغول قد طردوهم من أوطانهم، أسياداً على المدينة ولكن ليس على القلعة, وخيّم المغول حول حرّان. وحصل هؤلاء أوّلاً على التسليم السلمي على المدينة, في حين بقيت القلعة تحت حكم حاكم آخر صامدة إلى أن اخترق أحد أبراجها, ثمّ دمّر المغول آخر الهياكل , وتركوا البنايات الرئيسية قاعاً صفصفاً, وهلكت حرّان كمدينة. صمّم المغول بعدوقت قصير على أنّ حرّان لم تعد ذات قيمة استراتيجية تبرّر بقاءها أو الدفاع عنها. ويكتب ابن شدّاد الذي ألّف كتابه سنة 1280م يقول:
[هجر (المغول) السكّان إلى ماردين ومدن أخرى، ودمّروا المسجد الكبير، وسدّوا بوابات المدينة بالحجارة وتركوها صَدَفَة فارغة].
وبعد انتصار المماليك على المغول في سنة 1303م في شمالي ما بين النهرين وحرّان غدا المغول تحت حكم المماليك. وأيّاً يكن فإنّ المدينة لم تنهض ثانية قطّ.

من اين جاءت تسمية الصابئة ؟
عندما غزا ملك الفرس هذه المنطقة في القرن السادس لم يمسّ حرّان لكونها معقلاً للمذهب القديم . وفي سنة 638-639 م كان الحرّانيون هم الذين قاموا بالمبادرة بتسليم مدينتهم للجيش الإسلامي بقيادة عيّاض بن غنم ، ومنها نرى أوّل ذكر تاريخي للصابئة ، فبعد قرنين من الزمن في سنة 830 أو نحوها مرّ الخليفة عبد الله المأمون قرب حرّان لكي يشنّ حملة على منطقة الروم البيزنطيين ، ويقول النديم في الفهرست نقلا عن كتاب كتبه احدهم [ابو يوسف ايشع القطيعى النصرانى فى كتابه فى الكشف عن مذاهب الحرنانيين المعروفين فى عصرنا بالصابة] ، ولاندري, كيف اقتبس النديم هذا النص من كتاب دون التاكد من صحة ماورد فيه ؟ وعلى مايبدو ان مؤلف هذا الكتاب ،هو مسيحي،وظاهرا كنيته ، وان المسيحية ومركزها الرُها ، ليست ببعيدة عن حرْان ، وكانت الرُها تناصب العداء لحرّان ، فمن المعقول جدا ان يتم التحريف والتشويه للحقيقة في ظل الصراعات الدينية والمذهبية ،التي كانت سائدة وقتذاك .
ولنذْكر ما ورد في الحوار بين الخليفة العباسي المأمون ومحاوريه من الحرّانيين ( ان المأمون اجتاز فى اخر ايامه بديار مضر يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس يدعون له، وفيهم جماعة من الحرنانيين، وكان زيّهم اذ ذاك لبس الاقبية، وشعورهم طويلة بوفرات كوفرة قرّة جدّ سنان بن ثابت، فانكر المأمون زيّهم وقال لهم–;– من انتم من الذمّة؟ فقالوا–;– نحن الحرنانية، فقال انصارى انتم؟ قالوا–;– لا، قال –;–فيهود انتم؟ قالوا–;– لا، قال–;– فمجوس انتم ؟ قالوا–;– لا قال لهم–;– افلكم كتاب، ام نبى؟ فمجمجوا فى القول، فقال لهم–;– فانتم اذاً الزنادقة عبدة الاوثان، واصحاب الرأس فى ايام الرشيد والدى ، وانتم حلال دماؤكم لا ذمّة لكم، فقالوا–;– نحن نودّى الجزية، فقال لهم–;– انما تؤخذ الجزية ممن خالف الاسلام من اهل الاديان الذين ذكرهم الله عزّ وجلّ فى كتابه ولهم كتاب وصالحه المسلمون عن ذلك فانتم ليس من هولاء ولا من هولاء، فاختاروا الآن احد امرين، اما ان تنتحلوا دين الاسلام او ديناً من الاديان التى ذكرها الله فى كتابه، والّا قتلتكم عن اخركم، فانى قد انظرتكم الى ان ارجع من سفرتى هذه، فان انتم دخلتم فى الاسلام او فى دين من هذه الاديان التى ذكرها الله فى كتابه، والّا امرت بقتلكم واستيصال شأفتكم ..
ورحل المأمون يريد بلد الروم، فغيّروا زيّهم، وحلقوا شعورهم، وتركوا لبس الاقبية، وتنصّر كثير منهم ولبسوا زنانير، واسلم منهم طائفة، وبقى منهم شرذمة بحالهم، وجعلوا يحتالون ويضطربون حتى انتدب لهم شيخ من اهل حرّان فقيه، فقال لهم–;– قد وجدت لكم شيئا تنجون به، وتسلمون من القتل، فحملوا اليه مالا عظيما من بيت مالهم احدثوه منذ ايام الرشيد الى هذه الغاية واعدّوه للنوائب، وانا اشرح لك ايدك الله السبب فى ذلك، فقال لهم–;– اذا رجع المأمون من سفره، فقولوا له نحن الصابئون، فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه فى القران فانتحلوه فانتم تنجون به.
وقُضِى ان المأمون توفى فى سفرته تلك بالبذندون، وانتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت، لانه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمّون بالصابة ،فلما اتّصل بهم وفاة المأمون ارتدّ اكثر من كان تنصّر منهم، ورجع الى الحرنانية، وطوّلوا شعورهم حسب ماكانوا عليه قبل مرور المأمون بهم على انهم صابئون ) . ونفند ماجاء في هذا النص للاسباب الاتية -;-

اولا ـــ المعروف جدا ان الدين لاينسب الى اسم مدينة ، او اسم قبيلة ،او اسماء الممالك ، وغيرها من الصفات ، لذا من غير الصحيح عندما يسال المامون القوم من انتم؟ ويجيبونه ,, بالحرنانية,, . فحرّان مدينة فيها ديانات ومذاهب وطوائف عديدة ،ومعروفة لدى القاصي والداني ،على مدى تاريخ حرّان بحكم موقعها الاستراتيجي والمهم اقتصاديا وعسكريا ، مثلا فالمسيحي في كل مكان هو مسيحي اذا اردنا ان نعبرعن ديانته اينما وجد ،ونفس الشيء بالنسبة للمسلم واليهودي والزرادشتي والازيدي والمندائي والبوذي ، وجميع الاديان ،وليس على تسمية المدينة التي يقطنها ساكنيها ويتبعون دين ابائهم واجدادهم وعلى مدى الاف السنين .

ثانيا ــــ لماذا ينتدب الحرْانيون شيخا حكيما من اهل حرّان ،ليجد لهم مخرجا لمشكلتهم ؟
فمن غير المنطقي والمعقول لعلماء ومفكري وفلاسفة ومترجمي مشارق الارض ومغاربها من الحرّانيين،ان يكونوا قد عجزو بالعثور على حل يخلصهم وينجيهم من المشكلة ، فكان منهم من يجيد اللغة العربية بكل اصولها وفروعها ، ولهم معرفة تامة بالديانة المسيحية حيث اللغة الارامية التي ينطقونها ويترجمونها الى اليونانية ، وعن الديانة الاسلامية ومنهجها،وكل ماورد في القرآن ،وهم اصحاب المنطق والتفسير والمعرفة،وكيف يفوتهم الحل وهم يقارعون الحجة بالحجة ؟ ليس صعبا عليهم ابدا باتخاذ اية ديانة يقبل المسلمون عنها،طالما يمتلكون الوسيلة والاداة ، ولكن الحرانيين يحملون تسمية الصابئة اصلا قبل الغزو الاسلامي للمنطقة بقيادة عياض بن غنم في زمن الخليفة عمر بن الخطاب ، وعندما دخلها جيش المسلمين فرضت عليهم الجزية ،هذا يعني تم قبولهم اسوة بباقي ديانات المنطقة .
،إنّ الحرانيين كانوا تابعين مخلِصين في عبادتهم للكواكب في أثناء القرون الأولى من العهود المسيحية ، وكان لديهم أيضـاً ميل ظاهر نحو فكرة إلاله الواحد ـــ سواء كان وحيداً فوق الآلهة الأخـرى ، أو الأوّل بين أقرانه فقط ، ومن المعالم الأثرية الباقية أنّ شعب الرها اعتقدوا في حياة ثانية بعد الموت . وان جميع القاطنين في هذه المنطقة كانوا يتكلّمون السريانية . ولهذا فإذا كان تفسير كلمة صابئة يعني أنّهم شعب صوبة ـــ ولأنّهم يتكلّمون السريانية ــــ وتقبل على هذا التفسير
.. فيكون هذا تبريراً بأنّ صابئة القرآن هم الاقوام الساميون في شمالي ما بين النهرين ..
إنّ دين الصابئة لم يكن ذلك الدين الذي يستطيع أن ينال قبولاً عامّاً . وكذلك يبدو أنّهم لم يحاولوا أن يقوموا بأيّ جهد لكسب معتقدين جدد لمذهبهم الذي كان يدور بصورة كبيرة حول أسرارهم. حتّى إنّ لغتهم الارامية كانت لغة مبهمة على معظم جيرانهم المسلمين حيث ينطبق عليهم مبدأ الديانات الروحية لاتبوح باسرارها ابدا. وما كتبه الكتّاب الصابئة عن الدين الصابئي لم يدم . إنّ الحكايات التي بقيت ترينا الصابئة من خلال عيون الذين ينتقصونهم ، المسلمين والمسيحيين واليهود ، والذين كانوا يبرزون تلك التفاصيل التي يمارسها الصابئة وتثير عداء قارئيها واشمئزازهم ، تحتوي على مزاعم من الواضح أنّها غير محتملة . ولكنّ هذا لن يدهشنا ، لأنّ مزاعم كهذه قيلت عن اليهود بأنّهم يقومون بطقوس القتل في مراسيمهم. واليهود أقلّية بالإمكان أن تطال أكثر من الصابئة . وكانت هذه المزاعم موضوعاً يتكرّر في آسيا وأوروبا حتّى القرن العشرين

ثالثاً ـــ إنّه من غير المعقول أن يُسمح للوثنيين بأن يستمرّوا في ممارستهم في حرّان من غير مضايقات ، وحرّان لم تكن قرية مغمورة بعيدة عن السُلطة الإسلامية ، بل كانت مدينة قديمة ذات شهرة عظيمة ولقد قامت بدور بارز في تاريخ الإسلام قبل زمن المأمون . ولقد كان أن أقام مروان الثاني ، آخر الخلفاء الأمويين ،مقر خلافته في حرّان . وكان هارون الرشيد ، والد المأمون قد زار منطقة الرها وحرّان في نحو سنة 792 م ، ولا يمكن أن يكون جاهلاً الخلفيّة الدينية في حرّان ، علاوة على ذلك فإنّ تواريخ الأحداث السرّيانية المسيحية – والتي ربّما كتبت في الرها القريبة ، ولم تكن ميّالة إلى الحرّانيين بأيّ حال ,,تخبرنا بنحو من عشرين سنة قبل زيارة المأمون ” أنّ إبراهيم ، حاكم حرّان ، أمر وثنيي حرّان بأن يقوموا بممارسة أسرارهم هذه علانية وكانوا يدفعون الجزية ..

رابعاً ــــ عند الغزو الاسلامي للمنطقة ، كان المسلمون لهم معرفة سابقة بالديانات المسيحية واليهودية والزرادشتية ،لان اتباع تلك الديانات يقطنون في اماكن متعددة من منطقة الجزيرة العربية ، ولهم صلات وعلاقات تجارية واجتماعية عامة مع القبائل العربية ولهم تحالفات ومواثيق تنظم العلاقة فيما بينهم وخصوصا عندما يتعلق الامر في الحقوق والواجبات وذلك قبل الاسلام ، اما بعد الاسلام اختلف الامر تماما وخصوصا في زمن الخليفة عمر بن الخطاب عندما امر بترحيل اليهود ومسيحيي نجران من ارض الجزيرة العربية لتبقى خالصة للاسلام ، وهذا الموقف اثر سلبا في العلاقة مع تلك الاديان ..لذا فمن المعقول ان يتم ذكرهم في نصوص القرآن في بداية ظهور الاسلام ، اما عن الصابئة فلم يكن ُيعرف عنهم شيئا ،لان وببساطة لم تكن الجزيرة العربية موطنا لهم في يوم ما ، وعندما غزت جيوش المسلمين شمال بلاد الرافدين ، تعرفوا على شعب الصابئة الحّراني ،وفرضت عليهم الجزية اسوة بالمسيحية واليهودية والزرادشت ، في تلك الفترة لما عرف امرهم لما يمتلكون من علوم ومعرفة وثقافة وامكانية الاستفادة منهم ،حُشر اسم الصابئة في نصوص القرآن مع اليهود والنصارى والمجوس في ثلاث سور وهي البقرة – الحج – والمائدة ، لذا ورود ذكر الصابئة في القرآن فيه غموضاً بالنسبة للمسلمين في انحاء العالم الاسلامي قديما وحديثا ،هذا فلو سالت مسلمي الدول الاسلامية الكبيرة في النفوس مثل اندنوسيا وباكستان وبنغلادش وايران ودول الخليج التي هي أقل نفوساً , من علماء دين واشخاص عاديين عن الصابئة الذين ورد ذكرهم في ثلاث سور ،سيكون السؤال محرجا لهم بالتاكيد، واذا صادف احدهم وتمكن من الاجابة ، ستكون الاجابة مستوحاة من مؤلفات النديم او المسعودي او الشهرستاني وابن تيمية وبقية المصادر العربية والتي تحوي على مغالطات وتشكيك وتشويه لكثير من الحقائق الي اثبتتها المكتشفات الاثرية، فصابئة حرّان اختفوا تماما بعد الغزو المغولي ،منهم من تحول الى الاسلام او الى المسيحية واليهودية والزرادشتية او الى المندائية ،ومنهم من اتخذ الاسلام عنوانا ويدينون بديانة اخرى قريبة الى ديانة الحرانيين القدامى مثل الموحدين الدروز ، والايزيديين ، الذين اتخذوا اسماء عربية واسلامية حفاظا على حياتهم وسلامة معتقداتهم ،وتشهد البيوت ذات السقف المخروطي المشيدة قبل الاف السنين والتي تشبه بيوت النحل ( الكورة ) والتي هي طراز اشوري والتي تشبه الى حد ما الطراز المعماري للمعبد المقدس الايزيدي ( لالش) في قضاء الشيخان ، وهذا دليل على انهم من الشعوب القديمة والتي ترجع اصولهم الى الاشوريين ولربما اقدم . لذا كان نزوحهم من حرّان ومناطق اخرى لمناطق اكثر امنا ،بعد الغزو المغولي . وهناك قسم من صابئة حرّان التحق بالمندائيين في جنوب بلاد الرافدين ،والذين اتخذوا الاهوار واعماقها ملاذا امنا لهم بعيدا عن سوط الخليفة الاسلامي ومنهم من أُرغم على ترك حرّان الى بغداد العاصمة العباسية ، وهم جمعا من العلماء والمفكرين والاطباء والفلكيين لتقديم خدماتهم الى الخليفة الاسلامي في بغداد ،كطبيب ومترجم وكاتب وعالم رياضيات وحساب وجبر وكيمياء وفلكي وشاعر كـ ثابت بن قرة ، وولده سنان بن ثابت ، وحفيده ابراهيم بن سنان ، وابو اسحق ابراهيم بن هلال ، وعبدالله بن سنان الرّقي (البتاني) ،والكثير منهم من تزخر بهم الذاكرة التاريخية .
كذلك الامر في المناطق التي كانت موطن الصابئة ،التي لايعرُف عنهم الا القليل فكيف الحال في المناطق البعيدة ، وخصوصا انهم لم يعد لهم وجود حاليا ، ولكن ربما يقال انهم متواجدون في جنوب ومناطق وسط العراق ، ويحسبون على انهم امتداد للصابئة الذين كانوا في حرّان ، ولكن في حقيقة الامر ، هناك خلطا بين صابئة حرّان والمندائيين ، فليس هناك وجه تشابه بينهما وحتى في التسمية ويختلفان بالعقيدة جملة وتفصيلا ، اما اوجه الشبه في بعض المظاهر العامة والتي تشترك فيها جميع الديانات الرافدينية وخصوصا لفترة ماقبل الميلاد ، اما خلال القرون الوسطى اخذت الديانات القديمة تاخذ منحى اخر لتاثرها بمفاهيم الديانات الجديدة مواكبة للتبدل الحضاري الذي حصل وفق منظور التطور ،لذا نجد المسيحية الان هي ليست المسيحية قبل عشر قرون مثلا ، كذلك الامر للديانات الاخرى ، والعقيدة المندائية لولا اعتدالها وقابليتها للتحديث والحفاظ على المباديء والقيم الانسانية النبيلة والتي هي في جوهر عقيدتها ، لما صمدت الى الان بالرغم من كل ماعصف بها ظلم وتعسف واضطهاد تاريخيا ودينيا .

صابئة حرّان ليسوا مندائيون

. كان سين الإله القمر, الإله الحامي للحرّانيين، وبعبارة أخرى انهم تمسكوا دائماً بمذهبهم ومعبودهم الإله سين.
من ناحية أخرى إنّنا لانرى هذا المذهب في العقيدة المندائية.حيث القمر في الأدب المندائي له ميزتان: الأولى (القمر) هو واحد من سبعة مطاهر (جمع مطهر ) كوكبية، وهي أماكن تطهير الروح، أو بما يشبه جهنم. بموجب العقيدة المندائية هذه الكواكب السيارة وحرّاسها هي أساسياً شريرة وشيطانية في طبيعتها، وتثابر بعناد في سد طريق الروح في صعودها، وعملها الأولي هو القبض على الأرواح الخاطئة وإخضاعها لعقاب لعين في مطهرها. الثانية، إنّ القمر مقرون بالموت والتشويه والدمار والظلام. والقمر الشاحب هو وقت سيء للزواج والزرع وبذر البذار.
بموجب الكتابات المندائية، سين له اسم آخر[ سيرا]، الإله القمر الذي يسكن في مركب القمر، وهو روح حاقدة، ويعتبر أنّه له تأثير مشؤوم، ويوصف بالمخرّب والنجس والضارب والمسبب في العاهة. أمّا أرواح الضياء في القمر فتمنعه من القيام بأعمال شريرة ضدّ البشر.
وفي الأدب المندائي يعتبر سين أيضاً كابن روها (روها اد فودشا)، والدة الكواكب والشياطين. ]ولذلك فهو يعرف مراراً كثيرة بروها[ الشيطان]. علاوة على هذا, أحياناً يعرف سين[ بسورييل] وهو ملاك الموت, وأخيراً فإنّ المندائيين في كتاباتهم يذّمون القمر وعباده.

التعميد -;- ان طغيان الماء في الشعائر والطقوس المندائية يمثل تمسكا قويا بأصل ديني بعيد يعود إلى العهود السومرية . وان الديانتين السومرية والمندائية تنزلان الماء منزلة عظيمة فكان سكان مابين النهرين ترى أن الماء يدخل في كل جانب من جوانب حياتهم . وقد ظل سكان بلاد الرافدين يقدسون الماء ويضعونه بمنزلة عظيمة فاعتبروه أداة للتطهير .حتى كان من تقاليد الطقوس اليومية للمعبد البابلي أن يجري غسل تماثيل الآلهة, ورش المعبد بالماء الطاهر. واتخذ المندائيون الماء عنوان مقدس في كل مظاهر حياتهم الدينية والحياتية وجعلوه عنصر التعميد الاساس ،وبه عرفوا بالطائفة المعمدانية .
اما صابئة حرْان ، لم يكن الماء من العناصر الاساسية للمذهب ،ولم تكن له اولوية في عباداتهم ، ولكون حرّان بالاصل شحيحة المياه ،وهذا يتناقض مع مبدأ التعميد لدى العقيدة المندائية والتي تتطلب وفرة المياه على مدار السنة ،لذا تواجد المندائيون قرب الانهر ، هو جزء من التزامهم بالطقوس المفروضة عليهم ، اما صابئة حرّان ،فطقوس التعميد التي يتبعونها ،هي التعميد بالزيت المقدس وهو زيت السمسم والتي كانت حرّان تكثر من زراعته لاسباب دينية واقتصادية بجانب زراعة القطن ،ونرى ان الزيت المقدس له اهمية كبيرة في التعميد لدى العقيدة المانوية وكذلك العقيدة الايزيدية ،التي مازال اتباعها يمارسون طقوسهم التعبدية بالزيت المقدس والذي يحصلون عليه من ثمرة الزيتون حاليا بدلا من السمسم ، ولربما وفرة الزيتون جعلت من زيته مقدس ايضا ، وفي موسم جني الزيتون الذي تزرع شجيراته في انحاء المعبد المقدس [ لالش ] وهناك موسم لجني وعصر الزيتون من قبل متطوعين من ابناء الطائفة في احد اروقة المعبد المخصص لهذاالغرض ، والاحتفاظ بزيته لخدمات المعبد . وهذه الموروثات التعبدية لانجدها الا في الديانات الرافدينية العميقة الجذور..

التضحية البشرية-;-، بموجب مصادرنا العربية في القرون الوسطى، هي إحدى الميزات البارزة في طقوس الحرّانيين. وتعطينا هذه المصادر معلومات جّمة عن مزج هذه الأضاحي البشرية بالسحر والأسرار المقدّسة الغامضة.من ناحية أخرى. وإنّ أحداً منهم لم يتّهم المندائيين بممارسة هذا الطقس, بل بالعكس، فإنّ قتل أي حيوان بموجب العقيدة المندائية يعتبر خطيئة رغم انهم يذبحون حمامة أوخروفاً أثناء وجباتهم الطقسية ،ويلتمسون المغفرة عند الذباحة بمراسيم مشددة .

العبادة-;- إنّ عبادة الأصنام في العقيدة المندائية مرفوضة بالتأكيد، وهم يشمئزون من عبّادها. ويأمر المندائيون في أدبهم، أنّ الشعب المندائي الناصورائي لا يعبد الأصنام والتماثيل، وتعتبر عبادتها خطيئة ويوصف المندائيون كالتالي:
[ لقد تركوا التماثيل والصور والأصنام المعمولة من الصلصال والآلهة “المصنوعة ” من كتل خشبية، وطقوس باطلة، وشهدوا على اسم الحياة العظيمة السامية، لهم بوابة الخطيئة مغلقة، ولهم بوابة الحياة مفتوحة ].

هناك في الأدب المندائي بصورة إجمالية نوع من الثنائية. في جانب واحد هناك عالم النور، [ آلما ادَ نهورا ]،وكائنات النور, وفي الجانب الآخر عالم الظلام[ آلما ادهشوخا] والكائنات الشريرةا وهناك عداء متبادل بين هذين المبدأين:
[ شاهد وتعلّم أنّ بين النور والظلام لا يمكن أن يكون اتحاد أو ميثاق، بل على العكس توجد البغضاء والعداء والشقاق، رغم أنّنا واعون أنّ كلّ هذا يجري ويسعى لكي يجري, لأنّ الظلام خصم للنور لأنّهما يمين وشمال، أحدهما روح (ترابية) والآخر روح (خالدة ). لأنّهما شمس وقمر, ونهار وليل، أرض وسماء. (وعلاوة على هذا ) يمكن تسميتهما آدم وحواء ] ..
بموجب اللاهوت المندائي هذان المبدآن جوهريان ويحتاج الواحد منهما للآخر وبكلمات أخرى هما إتمام لجسد واحد. الخير والشرّ موجودان منذ الازل. فعوالم النور وكائنات النور تنبثق من [المانا] ,, الروح الالهية ,, . بينما عوالم الظلام والكائنات الشريرة تنبثق من الفوضى و “المياه
السوداء”.

بعض ماقيل عن الصابئة

ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية( 1263ـــ 1330م) عن الصابئة في مؤلفاته -;-

الرد على البكري – (ج 2 / ص 579)
[و كانت الصابئة من النبط الذي بالعراق و الجزيرة كالبطائح و حران و غيرهما من الصابئة المشركين من أئمة الفلاسفة إبراهيم الخليل بعث إليهم وفي مولده قولان قيل بالعراق وقيل بحران وهذا قول أهل الكتاب وكذلك هو في التوراة التي عندهم يقال إن قبر أبيه بسور حران وبها آثار الصابئة كالهياكل التي للعلة الأولى و العقل و النفس و الكواكب وما زال بها أكابرهم كثابت بن قرة وأمثاله .
وقد ذكر عبد اللطيف بن يوسف أن الفارابي كان قد تعلق بالفلسفة في بلاده فلما دخل حران وجد بها من الصابئة من أحكمها عليه و ابن سينا إنما حذق فيها بما وجده من كتب الفارابي . ]

الرد على المنطقيين – (ج 1 / ص 287)
(حران دار الصابئة )
[فان حران كانت دار هؤلاء الصابئة وفيها ولد إبراهيم أو انتقل اليها من العراق على اختلاف القولين .
وكان بها هيكل العلة الاولى هيكل العقل الاول هيكل النفس الكلية هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس وكذلك الزهرة وعطارد والقمر .
وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانيه فيهم ثم ظهرت النصرانيه فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين حتى جاء الاسلام ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الاسلام الى آخر وقت ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها أطباء وكتابا وبعضهم لم يسلم .
ولما قدم الفارابي حران في اثناء المائة الرابعة دخل عليهم وتعلم منهم وأخذ.]

الرد على المنطقيين – (ج 1 / ص 481)
[ أخبرته بذلك وكثير منها صحيح كإخبار بدخول المسلمين بلاد حران وغيرها وفتحهم البلاد وإهانتهم لطائفته، وكان بحران بئر يقال لها بئر (عزون) يعظمونها تعظيما كثيرا ،وكان يذكر أن الأرواح تجتمع إليها ويذكر أنواعا من هذه الأمور في مصحف له وهو موجود قد قرأته أنا وغيري .]

الفتاوى الكبرى – (ج 6 / ص 358)
[ وكانت حران إذ ذاك دار الصابئة الفلاسفة الباقين على ملة سلفهم أعداء إبراهيم الخليل، فإن إبراهيم الخليل كان منهم ودعاهم إلى الحنيفية وكان من قصة ما ذكره الله في كتابه والحجة التي ذكرها مشركوا الهند ..]

وابرز اضطهاد للصابئة هو فتوى القتل بحقهم من قبل محتسب بغداد والقاضي والفقيه الشافعي أبي سعيد الحسن بن يزيد الأصطخري (ت328هـ) أيام القاهر العباسي .روى الخطيب البغدادي (ت463هـ) في سياق ترجمة الأصطخري: “أفتاه بقتلهم، لأنه تبين له أنهم يخالفون اليهود والنصارى، وأنهم يعبدون الكواكب، فعزم الخليفة على ذلك، حتى جمعوا بينهم مالاً كثيراً له قدر فكف عنهم”. ذكرت فتوى القتل في مصادر إسلامية ترجمت لحياة الأصطخري منها “سير أعلام النبلاء” لشمس الدين الذهبي (ت748هـ)، وعزف عن ذكرها آخرون مثل شمس الدين ابن خِلّكان (ت681هـ) في “وفيات الأعيان “.
كان صاحب فتوى القتل شافعي من أبرز فقهاء عصره، يعرف بفقيه العراق، وتولى حسبة بغداد، فأحرق مكان الملاهي. وبعد حوالي قرنين من الزمان جاء في رسالة رئيس ديوان الجوالي، محمد بن يحيى بن فضلان (ت631هـ) الشافعي أيضاً، الخاصة بأهل الذمة إلى الناصر بالله العباسي (ت622هـ)، فقرة تذكر بفتوى الأصطخري في الصابئة والحث على تطبيقها: “الصابئة قوم من عبدة الكواكب، يسكنون في البلاد الواسطية (بين الكوت والبصرة) لا ذمة لهم، وكان في قديم الزمان لهم ذمة، فاستفتى القاهر بالله أبا سعيد الاصطخري، من أصحاب الشافعي، في حقهم، فأفتاه بإراقة دمائهم، وأن لا تقبل منهم الجزية، فلما سمعوا بذلوا له خمسين ألف دينار، فأمسك عنهم، وهم اليوم لا جزية عليهم، ولا يؤخذ منهم شيئ، وهم في حكم المسلمين والأمر أعلى”
كانت فتوى القتل المذكورة، في القرن الرابع الهجري، بعد أن أجاز الفقيه الحنفي وقاضي القضاة أبو يوسف، في القرن الثاني الهجري، التعامل مع الصابئة بأخذ الجزية منهم أسوة بـ “جميع أهل الشرك من المجوس وعبدة الأوثان وعبدة النيران والحجارة (من غير العرب) والسامرة”. وحكم الإمام أبو حنيفة فيهم: “إنهم ليسوا بعبدة أوثان، وإنما يعظمون النجوم كما نعظم الكعبة”، وأضاف أبو الثناء الآلوسي: “هم موحدون يعتقدون تأثير النجوم”
الغريب في الأمر أن هذا التعامل مع الصابئة، وإن كان يحمي دمائهم، إلا أنه لا يتناسب مع حكم القرآن فيهم، أسوة باليهود والنصارى، في الآية (62) من سورة البقرة. والغرابة الأكثر، أن أبا يوسف كان عراقياً من أهل السواد، والمندائيون ليسوا بعيدين عن سمعه ونظره. ويشترط أبو علي الماوردي الشافعي (ت450هـ) في أخذ الجزية منهم “إذا وافقوا اليهود والنصارى في أصل معتقدهم، و إن خالفوه في فروعه”. ومعلوم أن الأُصول هي أساس الدين والمذهب، وما الفروع إلا وصايا لتطبيقها .
وإن جاز الاصطخري والماوردي كشافعيين أخذ الجزية من المجوس، لما ورد عن الرسول بشهادة الصحابي عبد الرحمن بن عوف أنه أخذها من أهل البحرين وكانوا مجوساً، فأن ابن قيم الجوزية(ت751هـ)، وهو جنبلي المذهب، قال: “الصابئة أحسن حالاً من المجوس، فأخذ الجزية من المجوس تنبيه على أخذها من الصابئة بطريق الأَوْلى، فإن المجوس من أخبث الأمم ديناً ومذهباً، ولا يتمسكون بكتاب، ولا ينتمون إلى ملة، ولا يثبت لهم كتاب ولا شبه كتاب”. وهذا اعتراف ضمني من فقيه حنبلي كبير في مذهبه، وتلميذ شيخ الإسلام تقي الدين أحمد المعروف بابن تيمية (ت726هـ)، بكتب أو شبه كتاب للصابئة .
من جانب آخر خالفت فتوى الاصطخري وخالف حكم الماوردي وتحريض ابن فضلان ضدهم، والجميع شافعيين، إمامهم الأول محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) حين أفتى: “الصابئون والسامرة مثلهم يؤخذ من جميعهم الجزية، ولا تؤخذ الجزية من أهل الأوثان، ولا ممن عبد ما استحسن من غير أهل الكتاب”، ومَنْ تؤخذ منه الجزية يحرم دمه ولا يطلب منه مجارات اليهود والنصارى بشيء إلا الإقرار بوجود الله…

النهاية

المصادر والهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مدينة اله القمر ـــ تمارا . م. غرين ــ ليدن هولندا .1992
حرّان في العصور الوسطى ـــ ديفيد ستورم ــ 1952
حـــرّان ـــ سيتون لويد و وليم بريس ـــ دراسات الاناضول ــ 1951
شظايا من حرْان ـــ ه.و. ساجس ـــ 1969
بيزنطة والفتوحات الاسلامية ــــ كايجي والتر ـــ لندن ــ 1992
الاشورية والبابلية ــ سقوط نينوى ـــ اي.كي.غرسون ــ نيويورك ــ1975
فصول التأريخ البابلي ـــ س.سمث ــ لندن 1924
مذاهب الصابئة واعتقاداتهم ـــــ سيناسي غوندوز ـــ جامعة اوكسفورد ــ لندن ـــ 1932
عبادة الكواكب في حران ـــ د.جورج .ب.سيغال ــ نيويورك ـــ 1975
اخبار الزمان ـــ المسعودي ــــ القاهرة 1938
الفهرست ـــ النديم ــــ الجزء التاسع ــــ القاهرة
الاثار الباقية عن القرون الخالية ـــ البيروني ــ لبنان
النشرة الدورية لمعهد الدراسات الشرقية والافريقية ـــ لندن 1954
المندائية ــــ كونتجن ـــ 1960
الصابئة المندائيون في الفقه والتأريخ ألاسلاميين ـــ د. رشيد الخيون ــ بغداد ـــ 2005

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.