دقّة العلماء !
ج 2 / قراءة في كتاب المباديء (ناتالي أنجير)
***
[ كي تؤّدي عملكَ بدقّة كافية , ينبغي عليك أن تكون الشخص الذي يدحض نفسه معظم الوقت ]
دانييل نوكيرا / كيميائي في معهد MMT
مقدمة كاتب السطور :
مَن الأخطر في ظنّكم , خداع الآخرين أم خداع الذات ؟
بالنسبة لي منطقياً , خداع الذات أخطر بكثير !
لأنّهُ مهما كنّا أشرار مثلاً وحاولنا خداع الآخرين في تعاملاتنا اليومية .
(كخداع صاحب العمل بقدرات مُزيّفة للحصول على الوظيفة)
فإنّنا سنواجه بردود وصدود الآخرين و إختباراتهم .
فهم أيضاً يملكون عقولاً تفكر !
وربّما بضعة محاولات فاشلة لخداع الآخرين ,تجعلنا ( لو كنّا ناس طبيعيين أو متوسطي الذكاء) ,نُقلِع عن تلك المحاولات .
لكنّ خداع الذات حالة كارثية بمعنى الكلمة !
لأنّهُ بخداعنا لذواتنا نبدأ تدريجياً بتصديق أنفسنا وطريقتنا وتفكيرنا ,الى أن نصل نقطة اللاعودة .
بحيث تصبح فكرتنا هي الوحيدة الصحيحة ,وكلّ ما عداها خطأ وخطر أو شرّ وكفر و زندقة !
فمثلاً صدام حسين لكثرة خداعه نفسه وصل مرحلة كان يعتبر فيها كلّ مَنْ يُعارضه هو بالضرورة خائن للعراق يجب محوه من على وجه الأرض !
و أغلب الأشياخ والمشايخ يعتبرون قولهم وطريقتهم هي الصواب والإيمان الصحيح ,ومخالفيهم يجب أن يُقتلوا أو تُقطّع اوصالهم أو ينفوا من الارض .
وقد يصل خداع الذات حدّاً يخرج عن السيطرة ,بحيث يُفجّر المرء ذاته وسط الناس الأبرياء معتقداً أنّهُ بذلك يخطو الخطوة الاولى نحو الجنّة .
إنّ عملية خداع الذات هذهِ تُعتبر العدوّ الأوّل للعلم الحديث !
***
من جهة اُخرى فإنّ طريق العِلم واضح لا غُبار عليه . يتعامل مع الحقائق الظاهرة والملموسة والمعروفة لغالبية البشر .ولن تجد عالماً حقيقياً واحداً يدّعي الحقيقة المطلقة !
إنّ سجلاّت التأريخ مُفعمة بالألغاز التي كانت مُتعذّرة على الفهم ,ثمّ غدت
مفهومة بواسطة العِلم !
حتى الثقوب السوداء والطاقة المُظلمة سيتوصل العلماء الى حلّ لغزها يوماً ما .والعلماء على إستعداد لسماع كلّ الإقتراحات ووجهات النظر حولها ,إلاّ القول بأنّها ظاهرة كونية لايمكن فهمها وتفسيرها !
العلماء يرفضون بشّدة الإستكانة لقوى غيبيّة مجهولة المصدر . ويستعيضون عن ذلك ببحوثهم وتجاربهم وسعيّهم العلمي في شتّى الإتجاهات !
***
والآن نُكمل معاً الجزء الثاني من قراءة كتاب ناتالي انجير (المباديء) !
ص 55
ينصحُ العلماء عامة الناس ويشجعونهم على التعوّد على طريقة التفكير خطوة فخطوة و بإسلوب كمّي .
وأن نواجه أيّ مشكلة بطريقة مباشرة بدل أن نهرع صارخين للبحث في كوكل !
يوّد العُلماء أن يُنظَر الى العِلم كمشروع دينامي خلاّق ,وليس كجسدٍ مُتحجّر ,أو مجموعة متحجّرة من الحقائق والقوانين !
ويلي ذلك أهمية عند العلماء ,أنّهم يوّدون أن يتعلّم الناس المزيد عن الإحصائيات !
(فرص الإحتمالات ,المتوسطات ,حجم العيّنات ,ومجموعة البيانات)
يتعلمونها بما يكفي لأن يسخروا بثقة من الإحصائيات التي لا تتحرى الدقة
يرى العلماء منطقيّاً أنّهُ بالإستدلال الكمّي السليم قد يتمكن الناس من مُقاومة إغواء الحكاية الخرافيّة والشهادة الفردية ورمز ( ن ) المُخادع ,
أو حجم العيّنة لحكاية (أنا وأصدقائي والبوّاب وخبير القهوة في حانة الكاريبو)!
***
عندما يكون لدينا تقدير أفضل للصفات الكمّية ,ربّما نستطيع آنذاك أن نضع جانباً (ولو مؤقتاً) عناد المخ البشري ,الذي تطوّر الى التركيز على تقلّبات السلوك والزلّات في قبيلة صغيرة متجانسة .
بدلاً من التركيز على الكثافات السكانية المُخيفة ودوّامات تعدّد الثقافات ,
التي تُميّز الحياة في مُدننا الحالية بطريقة تفوق الخيال !
***
ص 57
يقول ( أندرو نول ) من جامعة هارفارد ما يلي :
الآراء السياسية هي قضيّة رأيّ أو وجهة نظر !
ليس هناك حاجة أن تعطي سبباً علمياً مقنعاً كي تقول وجهة نظرك !
تستطيع أن تقول :أنا أحبّ جورج دبليو بوش … أو أكرهه !
لا أحد سيطلب منك تفسيراً علمياً لموقفكَ تجاهه .
وفي غرفة التصويت يمكنك إنتخاب مَنْ ترغب دون تقديم براهين علمية على إختيارك !
وفي المطعم أنتَ لاتحتاج تفسير لماذا تطلب قطعة اللحم المشوية قليلاً أو متوسطة أو ناضجة جداً .
النادل لن يسألك عن أسباب إختيارك , خصوصاً إذا فكّر في البقشيش !
***
للأسف الشديد كثير من الناس ينظرون الى العِلم بنفس الطريقة ,
إيّ يعتبرونه مسألة رأي !
مثلاً أحدهم يقول : أنا لا أؤمن بنظرية التطوّر ,لا تسألني لماذا ,أنا لا اُؤمن وحسب !
ثم يضيف :أنتَ ( التطوّري ) تؤمن بتلك النظرية , وأنا ( التكويني ) لا اُؤمن بها ,لكَ رأيكَ ولي رأيي .
هذه هي النقطة التي من المُرجّح أن ينفذ فيها صبر أتباع العِلم , لكنّهم قد لا يُظهرون ذلك !
فهم يفهمون أنّ كلّ رأي علمي يجب أن يكون لهُ أسباب و دلائل وحتى تطبيقات ملموسة معروفة مفهومة للناس !
***
ص 60
العلماء لا يخدعون أنفسهم (خصوصاً) ,وبالطبع لا يخدعون الآخرين !
يعملون بدّقة كبيرة ويعرضون نتائجهم بدقّة متناهية ,حتى لو كانت عكس توقعاتهم !
عندما يريدون التوّصل الى أسباب بعض الظواهر الطبيعية .
يجرون تجاربهم دون وضع (العامل المؤثر الذي يظنونه) في المقدمة .
العامل الحاكم المُفضّل كثيراً ما يكون عاملاً أعمى !
بمعنى أنّ مَنْ يُجرون التجربة ينبغي ألاّ يعرفوا ما هو العامل الحاكم للتجربة وما هو العامل الفعّال الحقيقي .. إلاّ بعد أن تظهر كلّ النتائج
كي لا تتأثر تصرفاتهم بما يظنونه عن تأثير ذلك العامل .
وبعد تلك المرحلة يمكن فكّ شفرة التجربة !
سأوّضح أكثر بمثال ذو مغزى كبير :
أراد الباحثون في جامعة بوسطن أن يبيّنوا ,أنّ بيض ضفدعة الشجر (حمراء العين) يُفقّس مُبكراً .خصوصاً لتجنّب إفتراسهِ من ثعبان مقترب .
وبهذا يُتاح لأفراخ الضفدع (غير مكتملة النمو) أن تقفزَ الى أسفل الماء لتكون آمنة .
وكي يفعل الباحثون ذلك ,لم يكن كافياً عندهم تصوير فلم للبيض غير الناضج وهو يتفجر مفتوحاً عند إقتراب حيّة من النوع المُلتهم للبيض .
ففي النهاية مَنْ الذي سيقول / إنْ كان البيض يستجيب خاصةً لتهديد نوع معيّن من الثعابين ,وليس لأيّ إضطراب آخر في البيئة المُحيطة ؟
فماذا فعل العلماء لتوّخي الدقّة الشديدة في هذا المجال ؟
أثبت العلماء عمليّاً دقّة نظام المتابعة في بيض الضفادع ,بتعريضهِ لأنواع مختلفة من ذبذبات مُسجّله لها سعة متساوية ومن مصادر متمايزة , مثل ثعبان ينزلق أو خطوات إنسان عابر أو تساقط قطرات مطر .
ثمّ لاحظوا أنّ أفراخ الضفدع ,لا تعجل بالفقس إلاّ مع صوت إهتزازات الثعبان !!!
هل تصدّقون الآن مدى صبر العلماء ودقتّهم وصدقهم مع أنفسهم ثمّ مع الآخرين ؟
***
الوخز بالاُبر الصينيّة !
مثال ثانِ عن دقّة العلماء وصدقهم في عملهم / ص 60
عندما أرادَ الباحثون أن يُثبتوا عمليّاً مدى فعّالية وخز الأبر الصينية لعلاج شتى العلل ك ( إدمان المخدرات , الصداع , الغثيان … الخ )
كانوا يتوقون الى أن تؤخذ أبحاثهم على محمل الجّد !
أصابهم الإرهاق من رفض زملائهم (بتشنج) لكل الممارسات البديلة للعلاج .
كما أرهقتهم حقّاً الإشارات الخبيثة (وخز الدجالين) .
كانوا يطلبون دراسة مُعمّاة تماماً ل 24 قيراط !
قاموا بدراستهم على مجموعتين من المرضى ,حيث تتلقى مجموعة منهم وخزاً بالأبر ,ولا تتلقاه المجموعة الأخرى .
ولا تعرف أيّ مجموعة منهما أيّهما هي التي تُعالج ,وأيّهما التي لا تُعالَج .
ولكن المشكلة التي صادفتهم هي كيف تخدع بعض الأفراد لبعض الوقت بشأن عملية محسوسة تماماً كالوخز بالأبر ؟
كان حلّ الباحثين ذكيّاً وفي الصميم !
ستتعاطى مجموعة من المرضى وخزاً بالأبر يدخلونها في نقاط الوخز المُحدّدة حسب الأصول الرسمية .
بينما تتعاطى المجموعة الثانية وخز بالأبر يدخلونها في (نقاط خادعة) في الجسم , يتفق كلّ المعالجون بالوخز على أنّها كما ينبغي لا تأثير لها !
عندما اُبلِغَ المرضى بالغثيان والقيء أنّ علّتهم قد خفّت نتيجة الوخز الذي لا خِداعَ فيه ,ولم تخّف عند أؤلئك الذين تعرّضوا للوخز الخادع .
إضطر حتى أشّد المُتشككين من الأطبّاء الغربيين ,الى التسليم بأنّ هذا العلاج القديم الذي يُمارس منذُ 5000 عام ,قد يكون له فوائد في حدود !
لاحظوا ثانيةً .. ( قد ) … و ( في حدود ) !
هل يعني هذا شيئاً لكم , فيما يخّص دقة العلماء ؟
***
ص 61
لكي تضع حلاً علمياً لمشكلة تواجهكَ ,عليك تناول تلك المشكلة من زوايا كثيرة مختلفة .لترى إنْ كُنتَ ستنتهي دائماً بالوصول الى روما !
ص 62
العُلماء يُطالبون بالدليل !
وهم لا يرحمون الباحث الذي يُقدّم عرضاً لمسألة مهمة , فيه بيانات ضعيفة !
(إنتهى الجزء الثاني من قراءتي لهذا الكتاب الرائع )
***
الخلاصة :
هناك علاقة عكسية بين عملية خداع الآخرين والزمن !
فمحاولات الإنسان العادي تضعف تدريجياً ,نظراً لوجود (مُقابل) يُقاوم تلك المحاولات الخادعة .
لذلك يصّح القول التالي :أنتَ تستطيع خداع بعض الناس لبعض الوقت (رغم وجود مشكلة في ذلك) لكنّك لا تستطيع خداع كلّ الناس طيلة الوقت.
بينما العلاقة تكون طردية في حالة خداع الذات !
فكلّما أقنعنا أنفسنا بكذبة ما ,يزداد تمسكنّا برأينا والإنغلاق عليه حتى نصل حالة اللاعودة أو القطيعة مع الآخرين ! ( تذكروا صديّم والقذافي مثلاً )
وكي لا نبدأ بخداع أنفسنا نحتاج الى تثقيفها بالقراءة العلميّة النافعة .
وفي نفس الوقت سماع آراء ووجهات نظر الآخرين والتفاعل معهم على طول الخط !
اُكرّر فكرتي الأزلية التالية :
القراءة الصفراء لكتب التراث (الدونكشوتيّة) تقودنا الى خداع الذات وما يلي ذلك من مصائب .
بينما القراءة العلمية تقودنا الى العقلانية والواقعية وتعلّمنا التعامل الصحيح مع هذا العالم وهذه الحياة بإيجابياتهم وسلبياتهم !
تحياتي لكم
رعد الحافظ
27 يونيو 2014