6-3-2016
قد يكون من المساعد على تقديم صورة مختصرة للقارئ الكريم عن بنية المدينة القديمة بأحيائها التي تقع داخل السور وأحيائها خارج السور (الأسوار)، أن نعرّف القارئ الكريم بشكل سريع بهذه الأسوار. تشغل المدينة القديمة حوالي أربعة كيلومترات مربعة كما هو موضح في الخريطة أدناه المأخوذة من مجموعة خرائط وثقها حديثاً الصديق الدكتور ناهد كوسا.
وبدلاً من السرد الممل سأقوم بجولة سياحية تعريفية تخيلية، جرت أوائل عام 2011 أي قبل الأحداث الأليمة، على الشوارع الملاصقة للأسور من الخارج أشرح فيها لسائح أجنبي اسمه الدكتور برايان، أعرّفه على تلك الأسوار. نتخيل أني والصديق الدكتور برايان واقفان امام باب انطاكية. أسترجع فيما يلي ما سبق وشرحته له:
تعتبر الأسوار والأبواب مملوكية العهد بشكل عام، من وجهة نظر أواخر العهود التي تم فيها التجديد والصيانة. يعتبر هذا الباب الجميل المدخل الغربي لأسواق المدينة التي تبدأ خلف هذا الباب بسوق الهوا (سوق الصباغين-تسمى بدايته سوق باب انطاكية) وتنتهي شرقاً بسوق الزرب عند خندق القلعة….إذا مشينا شمالاً سيصبح السور على يميننا والذي يظهر خلفه حي العقبة. وعلى يسارنا منطقة من المدينة القديمة تم هدمها في ستينيات القرن الماضي لإنشاء محطة إنطلاق الباصات وبعض الأبنية الحديثة البرجية. كانت تلك الأحياء جزءاً من تجمع أحياء المشارقة التي يحق لنا أن نسميها تجمع أحياء “خارج باب انطاكية” أو “خارج باب جنان”. وقبل أن نصل إلى باب جنان الذي سنراه بعد قليل مررنا ببرجين جميلين. وللأسف لم يبق من باب جنان (جنين) سوى برج تم تحويله إلى جامع.
وقد سمي باب جنين لأنه يفضي إلى نهر قويق والبساتين التي تقع على ضفافه. يذكر انه وفي منتصف القرن الماضي تم تحويل مجرى النهر ليصبح مستقيماً بين نقطة مخرجه من الحديقة العامة ومنتصف سوق الهال. وبذا تم إبعاد النهر عن السور.
سنتحرك الآن بين باب جنين وباب الفرج على مسار وهمي ذلك أنه تم هدم هذا الجزء من السور. وبوصولنا إلى باب الفرج فوجئ برايان بعدم وجود باب الفرج…لكنني أشرت له إلى برج من أبراجه المتبقية مستخدم حالياً كدكان كبيرة عند مدخل بحسيتا. وغرب ساحة باب الفرج يقع بستان كليب الذي لايمتد عمره لأكثر من مئة وثلاثين عاماً حيث تحول من بستان إلى منطقة فنادق وملاهي وفعاليات تجارية.
انظر يابرايان إلى فندق الشيراتون، حيث يعتقد أنه يشغل الزاوية الغربية لسور المدينة وكان يقع عليه باب الفراديس. ولتأكيد كلامي تفضل معي لأريك أساسات السور والبرج أمام ذلك الفندق التي ظهرت أثناء حفر أساسات الفندق وبالتالي فرضت الدولة على الشركة المالكة للفندق المحافظة على تلك الأساسات بشكل يسهل رؤيته للماشي قرب الفندق.
وللأسف يا برايان فإن مجمل السور الشمالي للمدينة القديمة غير ظاهر ويمكنك اعتبار العمائر على الضفة الجنوبية، لمجمل شارع جادة الخدق وشارع باب النصر والحوار، تركب على ذلك السور. ولم يبق من ذلك السور سوى برج باب النصر وبرج باب الحديد. ولحسن الحظ أنه كان السور في أحد مواقعه على شكل جرف صخري (حواري) لم يستطيعوا إزالته. يقع ذلك الجرف تحت مقبرة الجبيلة عند منطقة الحوار. وشمال ذلك السور تقع الضاحية الشمالية: التي تشمل تجمعاً كبيراً من الأحياء المختلطة: مسيحية-مسلمة، يطلق على أهم قسمين منها اسم “الجديدة” والعريان. يقع البيت العربي الذي اتخذته مكتباً لي في حي الهزازة الواقع في أقصى الشمال الغربي من تجمع أحياء الجديدة. أما داخل ذلك السور فتقع عدة أحياء أهمها البندرة و”داخل باب النصر” والجبيلة و”داخل باب الحديد”. وخارج باب الجديد تتموضع ضاحية بانقوسا التي تحوي العديد من أحياء خارج السور، أهمها حي قاضي عسكر الذي يتواجد فيه بيتي.
وبين باب الحديد وباب النيرب مروراً بباب الأحمر، المهدومين أوائل فترة الانتداب الفرنسي، يفترض وجود السور الشرقي للمدينة الذي لم يبق منه سوى بعض الرموز. ولحسن الحظ أنه كان السور في موقعين من مواقعه على شكل جرف صخري (حواري) لم يستطيعوا إزالته. يقع الجرف الأول قرب باب الحديد تحت حي الكلتاوية. أما الجرف الثاني فيقع تحت حي أوغليبك بين باب الأحمر والحائط الشرقي لجامع ألتونبوغا. من الغرائب أن حائط هذا الجامع هو جزء من السور. يسمى خندق السور الواقع بين باب الأحمر وباب النيرب بـ “خندق الروم” وقد ردم إبان الانتداب الفرنسي. يضم السور الشرقي للمدينة العديد من الأحياء مثل: الكلتاوية والبياضة وداخل باب الأحمر (أوغليبك) وساحة الملح والدحديلة وحارة البستان. لهذا السور يا برايان أهمية خاصة لي ذلك أنه يقترب في أحد مواقعه إلى أقل من مئة متر من مسقط رأسي في تم حارة البستان وكذا يقترب في مكان آخر إلى أقل من سبعين متراً من مسقط رأس جدي ووالدتي أمام باب جامع ألتونبوغا. أما خارج ذلك السور فتقع أحياء: حارة الباشا، البكرجي، جب قرمان والضوضو وتجمع أحياء ضاحية خارج باب النيرب: تلعرن، الصفصافة، حارة البكارة…
وبين باب النيرب وباب المقام تظهر معالم قليلة من السور الجنوبي, الذي يضم عدة أحياء مثل: القصيلة والحوارنة وداخل باب المقام وساحة بزة. تقع أحياء المعادي و المقامات وأحياء أخرى والعديد من المقابر خارج هذا الباب.
أما السور الواقع بين باب المقام وباب قنسرين فلم يسبق لي أن مررت قربه سواءً من الداخل أو من الخارج. وكل ما أعرفه أنه يضم من الداخل حي قلعة الشريف ومن الخارج حي المغاير ومجموعة مقابر ومساكن غير نظامية ضمن المغائر. يعتبر باب قنسرين من أكبر الأبواب حجماً وأقربها للسلامة. وصفه أحدهم بأنه قلعة. يضم الباب حي “داخل باب قنسرين” الذي يعتبر مسكن أثرياء التجار.
أما السور الواقع بين باب قنسرين وساحة جامع جمال عبد الناصر في الكلاسة فسليم بنسبة لابأس بها ويظهر منه برجان بشكل جيد. والجميل فيه أنه لم يتم ردم خندقه.
أما السور الواقع بين ساحة جامع جمال عبد الناصر والدرج المسمى خراق الجلوم فمهدوم ويضم حي الجلوم. أعتقد أن السور الواقع بين خراق الجلوم وباب انطاكية بحالة جيدة لكنه مستور بسلسلة من الخانات والدكاكين ويضم حي الجلوم. أما خارجه فمنطقة بساتين وسوق الهال. تم بناء خانات وأبنية مخالفة في تلك المنطقة يعمل معظمها في مجال مواد البناء.
يذكر أن منطقة خارج باب انطاكة هي منطقة تجمع العمال العاملين بالمياومة (الفعول)، خصوصاً في مجال العمارة وإصلاح البيوت. أستغل هذه الفرصة لرواية الحادثة التالية:
احتجت منذ حوالي عشرين عاماً إلى عامل ينظف لي ردمية في قبو في مكتبي ويعبئها في أكياس استعداداً لجلب من يرحلها من المكتب. نزلت بالسيارة العسكرية المخصصة لي إلى باب انطاكية لجلب عامل لتنفيذ ذلك. وقفت على رصيف هناك فهجم عدة عمال علي يعرضون القيام بالعمل. وبينما كنت أتحدث معهم لاختيار أحدهم اقترب مني أحدهم بشكل هادئ وقال لي أنه يريد أن يتحدث معي على انفراد. رافقته إلى مكان منفرد فقال لي:
-أنا زميلك…أنا مساعد أول في سلاح الرادار ونظام خدمتنا يومين دوام كامل مقابل يوم عطلة…وفي يوم العطلة أنزل إلى باب انطاكية بحثاً عن عمل كي أدعم به راتبي لأسد رمق أولادي.
كدت أبكي من هذا الموقف وأخذته معي للعمل حيث قام به على أكمل وجه وأنا لم أقصر في الأجر والإكرامية. ساهمت أمثال هذه الوقائع في تفكك الكثير من القطعات العسكرية إبان حرب السنوات الخمس الماضية.
وبعد أن أنهيت الشرح للدكتور برايان أتقدم الآن بالمقترحات التالية للجنة إعادة إعمار المدينة القديمة الموحدة الافتراضية:
• إظهار الجروف الصخرية التي تشكل أجزاءً من سور المدينة.
• عدم إعادة إعمار البنايات الطابقية التي هدمت بالقصف وتحويل أراضيها إلى حدائق ومستوصفات ونماذج من البيوت العربية الجميلة ومراكز فعاليات حكومية.
• إظهار سور المدينة الواقع بين خراق الجلوم وباب أنطاكية.
• إعادة إظهار خندق الروم لأن الشارع الذي ظهر نتيجة ردمه ضعيف الاستخدام ويوجد شوارع بديلة له.
• إعادة إعمار باب النيرب وباب الأحمر خصوصاً وأنه يوجد صور لهما.
• إظهار برج باب الفرج.
• إظهار ماتبقى من السور الواقع بين باب المقام وباب قنسرين وإظهار المغائر التي استخدمت للسكن العشوائي قبل الحرب.
• إعادة إعمار الأبنية ذات الأهمية الرمزية التي هدمت مثل مئذنة الجامع الأموي والمدرسة الخسرفية، خصوصاً وأنها موثقة معمارياً بشكل كامل.
بالمختصر أنا أعتقد أن حلب يمكن أن تعود أجمل من شكلها قبل الحرب.