جامعة الخرطوم : العاديات ضَبحا ، فالمُوريات قدحا ، فالمغيرات صُبحا : ـ
منذ أمدٍ تطاول ونحن نغرق في مشاهد الهوس الديني وتجلياته الدموية الباعثة على الضحك والبكاء في آنٍ واحد ، فلا تزال ذاكرتي تحتفظ بمشاهد مليشيات الإسلاميين ( الدفاع الشعبي ) بالتسعينيات ، التي كان عمادها رجالٌ أشداء بحجم الثيران لكن بعقول العصافير ، وهي تهدر في طرقات الخرطوم وأفرادها ( الثيران ) يرتدون عراريق الدمور والسراويل وينبحون كالكلاب المصابة بالبواسير: ( أمريكا روسيا قد دنا عذابها عليّ إذ لاقيتها ضرابها ) رغم أنّهم لم يكونوا حينها يقفون على مضارب واشنطون أومشارف موسكو حتى يقولون بدنو عذابهما وضرابهما ، وإنّما كانوا يقفون على مشارف بيتنا المتصدع بحي ( الشعبية شمال ) والذي أوشك على الإنهيار تحت وطأة نباحهم المتواصل ، دون أن يجرؤ أحد على إخبارهم بأنّ منزلنا المتهالك وما جاوره من منازل ليست هي البيت الأبيض ولا قصر الكرملين ، ولكنها مجرد منازل يمتلكها عامة السودانيين الأقحاح الذين لم يُخالط أجناسهم أمريكي ولا روسي ، وأنّ البيت الأبيض والكرملين يقعان على بعد مئات الالاف من الأميال عن تلك المنازل التي أزعجوا قاطنيها بهتافاتهم الحمقاء .
أخذت تلك الهلوسات أبعاداً دمويةً في معظم الأحيان تمثلت في الإعدامات و التعذيب والإغتصاب ، ومطاردة النساء كالأغنام في شوارع العاصمة بكرابيج جلد البقر لعدم إرتدائهن للحجاب ، وخطف الطلاب ( ليُجاهدوا ) في الجنوب وقتلهم لو حاولوا الهرب من جحيم حربٍ لا ناق لهم فيها ولا جمل ، إذ لم يكونوا يُشاطرون الترابي في عتهه وجنونه وخبله الطامع في السيطرة على العالم بإسم الرّب على غرار الحملات الصليبية ، وإنّما جُلّ أحلامهم أن يُغادروا مقاعد الدراسة بتفوق إلى مهنة يُعينون بها ذويهم الذين أرهقتهم الديون وهموم الرِّزق ولقمة العيش . وإستكمالاً لمشاهد الهوس والهلوسة ، التي صاحبت وثوب الإسلاميين للسلطة وما تبعه من توالد وتكاثر وتفريخ لجماعات الهوس الديني ، تابعنا ما حدث بجامعة الخرطوم حيثُ إندفعت في أرض الجامعة المرعبات العاديات ضبحا ، تدق الطرقات سنابك الخيل الموريات قدحا ، وتفزع الطلاب الجحافل المغيرات صبحا وليلا والمثيرات به نقعا ، فإعتدى بعض السّلفيين على الطلاب وسرقوا ممتلكاتهم وحطّموا ما شقّ عليهم حمله تحت غطاء الجهاد الديني بعد أن أعلنوا عن جامعة الخرطوم أمارة إسلامية خاضعة لأحكام لشريعة الإسلامية !!.
يتضح لنا يوماً بعد يوم أنّنا لسنا أمام ظاهرة السلفية بإزاء تيار فكري يطرح تصورات بالإمكان الإختلاف معها أو نقدها أو حتى إمتلاك الإختيار أو الحق بقبولها أم لا ، نحن إزاء فكرة منغلقة متعصبة لا تتورع عن إتباع أشد السبل والوسائل قهراً ودمويةً وبشاعةً في سبيل تطبيقها ، فالسّلفي هو الفهم المطابق لله ، هو مراد الرسول يمشي على ساقين ، لذلك لا مجال ليطرقه الإحتمال أو نطقانه بالهوى ، وإلاّ بات الأمر شكّاً في كتاب الله ، بل وشكّاً في الله ذاته .
وبالطبع لا مجال للحوار المتكافئ معه ـ أي السّلفي ـ وإنّما ثمّة فقط مجال لطرح التساؤلات عليه والرّد يأتي بالغالب عليها بنحوٍ أُستاذي فوقي إستعلائي ، يتكئ السّلفي فيه على كرسي المُلقِّن ( بكسر القاف ) والأستاذ ، ويجلس السائل على سجادة المُلقَّن ( بفتح القاف ) التلميذ ، ويخضع بالقول ، ولا يلح بالسؤال أو يغرق بالتفكير ناهيك أن يُشكّك أو يُمارس الإنتقاد ، وإنّما فقط عليه بالإتِّباع والتقليد ، فالعقل قاصرٌ و محصور ، والرأي الاخر شيطاني ، شُبهة ، مؤامرة ..
إلى هنا فلا إشكالية كبيرة مع الفكر السّلفي ، فكل فكرة ـ لا سيّما الدينية / الايدولوجية ـ لها تحيُّزاتها ونرجسيتها وإعتقادها بتعاليها وإعتدادها بصوابيتها ، ولكن تطل علينا الإشكالية الكبرى عند فحص مضمون تلك الفكرة المتعالية والنرجسية الغير قابلة للنقد ، فمثلاً لا إشكالية في أن يعتقد المرء أنّ الهندوسية هي الحل ، أو أنّ البقرة هي مرجعيته عند النظر إلى الكون والتأمل فيه ، ولكن الإشكالية تأتي عندما يقتل هذا الهندوسي كلّ من كان يُشاطره تلك الفكرة وأصبح مختلفاً معه فيما بعد .
لا أتناقش هنا حول فكرة صوابية أو خطأ شعار البقرة هي الحل ، وإنّما أتحدث عن كيفية التعامل مع المخالف لتلك الفكرة ، فالسّلفي حر في أن يُقصِّر جلبابه ويُطلق العنان للحيته ، وفي أن لا يُصافح النساء أو لا يتحدث إليهن أو حتى تصوره لهن كشياطين للخطيئة الأولى ، ولكن الإشكالية عندما يعتقد أنّ من لم يؤمن بأفكاره تلك هو كافر أو مرتد يجب قتله وإعلان الجهاد عليه ، من حقِّ السّلفي أن يبني طموحات وينسج أوهام حين يُمني النفس بمضاجعة الحور العين ، ولكن ليس من حقِّه أن يقتلني حتى يُشبع غرائزه و يُضاجع من ينتظرنه على أحر من الجمر في الدار الآخرة ! .
ولما كان السّلفي مقتنعاً بحد الردة وبعقوبة القتل لكلِّ من تسول له نفسه إنتقاد الدين أو السخرية منه فمن هنا فدولة القانون عندما ( تُحارب ) ظاهرة السّلفية فهي لا تخوض صراع معرفي أو سجال فكري تحتاج فيه لشحذ الأذهان وسل الأقلام وإشراع الصحف ، وتلك مهمة المثقفين لا الدولة ، وإنّما الدولة تحتاج إلى القوة والقانون لمحاربة هذا النمط من الظواهر العنصرية ، فالفكر النازي والفاشي على سبيل المثال لا يجب أن يُسمح له بالرواج تحت ذريعة الحريات أو الديموقراطية أو الليبرالية ، والعنصرية والنازية تلتقي جوهرياً مع الفكر السّلفي قطعاً ، فالمشروع السّلفي هو مشروع في محصلته النهائية إصطفائي يطمح لتطهير المجتمع من الكفر والبدع والشرك ، بمعنى أكثر وضوحاً ، يهدف إلى محاربة التعدُّد والديموقراطية لأنّهما شرك بما أنزل الله ،تماماً كما يسعى النازي إلى تطهير المجتمع من الأعراق المُنحطّة والقضاء على التعدُّدية الثقافية والعرقية .
فما الذي يجعلنا نستنكر أن تسمح دولة ما بالترويج لفكرة تنادي بإزدراء السود أو ذوي السحنات الأفريقية ، ولا نستنكر بل ونطالب الدولة بأن تكفل الحق في الترويج لفكر يزدري المسيحيين و اليهود و ( الكفار ) ؟ ما الفرق بين هذين النمطين من العنصرية ؟ ما الفرق بين من يقتل إنسان لأنّ لونه أسود ، ومن يقتل إنسان لأنّه ترك الإسلام وأصبح دينه ديناً آخر غير الإسلام .
إنّ أيّ دعوة لتطبيق حد الرِّدة أو المجاهرة بالإيمان به ناهيك عن العمل على تطبيقه يجب أن تكون سبباً كافياً لسجن هذا الداعي له ، فالمجاهرة بقتل إنسان أو الرغبة في قتله أو العمل على قتله جريمة متى ما ثبتت فإنّ مرتكبها يستحق العقاب من الناحية القانونية ( نتحدث عن دولة مرجعيتها حقوق الإنسان ويسود فيها القانون ) .
يُثير المتطرفون نقطة مهمٌ للغاية مناقشتها بهذا الصدّد ، وهي حُجّة أنّهُ لو أراد غالبية المواطنيين في دولة مسلمة إقرار حد الرِّدة وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف وجلد الناس كعقوبات ، أفلا يجب أن تشرع الدولة في ذلك من فورها طالما أنّها دولة ديموقراطية السيادة فيها للشعب والشعب قرّر ذلك ؟ . وهذا يُعيدنا إلى حديث طالما طرقته والمتعلق بماهية الدستور وكيفية إقراره ، حيث سبق لي وأن تحدثت عن أهمية مرجعية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومبدأ التوافق عند إقرار أي دستور ، حيث لا يجب أن يُصاغ دستور بالأغلبية الميكانيكية ، وإنّما الدستور يجب أن يأتي كافلاً لحريات الجميع أفراداً وجماعات ، أغلبية و أقلية ، لذلك يجب أن يتفق ويتوافق عليه الجميع بعيداً عن غرور الأغلبية .
فتخيل معي في أمريكا لو تم إستفتاء على : هل يظل السود عبيداً أم لا في السِّتينيات في بلد كان يعج بالعنصرية آنذاك ويُمثل البيض غالبية ساحقة به ، هل سيكون هذا الإستفتاء ـ رغم شكله الديموقراطي ـ مُعبِّراً عن مضمون الديموقراطية ؟. الحقوق ليست منحة من الأغلبية تأخذها متى شاءت من الآخرين وتمنعها عنهم متى أرادت ، حق الفرد وحق الأقليات وحق التدين وإدانة التعذيب وتشويه جسد الإنسان حقوق لا تخضع لمبدأ الأغلبية الميكانيكية إطلاقاً ، ولا مساموية عليها أو تزيُّد بإسم شرعية الأغلبية . والداعون للزج بمبدأ الأغلبية الميكانيكية عند تحديد الحقوق ستجد أنّهم الأكثر ضجيجاً حول إدانة هذا المبدأ في بلدٍ يُشكلون هم فيه أقلية ، بمعنى أنّك لو سألت سلفياً : هل تقبل لو وافق غالبية الفرنسيون على تشريع يقضي بقتل كلّ مسيحي يرتد عن المسيحية ويدخل إلى الإسلام ؟ فسيأتي جوابه قطعاً بلا .
في حالة إستعدنا أو بالأحرى نحجنا كقوى علمانية في إقامة دولة القانون والحريات فلا بد من الحجر على مثل ذلك الفكر العنصري ، لا بد من تجريم المنادي به ، فهو في حقيقته كما أشرنا ليس مجرد فكر ، بل هو ليس فكر من الأساس ، هي دعوة إلى العنف والإرهاب والتّسلط على الغير وشن الحرب عليه .
في دولة القانون من حق الجميع أن يتبنوا ما شاؤوا من أفكار ، وأن يُروِّجوا لها طالما أنّ هذه الأفكار لا تدعوا لممارسة العنف المادي / البدني على فرد أو أفراد بالمجتمع ، فحتى لو كانت فكرتك هي الصواب المطلق فإنّه لا يحق لكّ إعلان الجهاد وقتل من لم يقبل بالصواب المطلق هذا .
ختاماً فنحن عندما نُشدِّد في الأخذ بالإعتبار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عند صياغة الدساتير والقوانيين فنحن بذلك لا نزعم بأن هذا الإعلان قرآن أو إنجيل ، هو قطعاً قابل للتطوير والتكييف والتغيير بوصفه منتوجاً بشرياً ، لكن على من يأتي ببديلٍ له أن يأتي ببديل أكثر أخلاقيةً وعقلانيةً ، وأن يُقنعنا ببديله هذا بالمنطق لا بالعاطفة أو الإيمان المسبق به ، عليه أن يوضح لنا بوضوح مآخذه على هذا الإعلان ، عليه حين يتحدث عن حد الردِّة إقناعنا بالعقل بأنّ حرية الإعتقاد والتدين و حرية إعادة النّظر في اليقين هي مخالفة لحقوق الإنسان وهي حرية غير عقلانية بالمرة ، فهل قدّم السلفيون ذلك ؟ .
عامِل الناس كما تُريد أن تُعامَل به ، فهل للسلفيين إعتراض على تلك القاعدة الأخلاقية ؟ إذا أتى جوابهم بأنّهم يوافقون على تلك القاعدة فعليهم أن يستأصلوا تعاليم الجهاد والرِّدة حتى ينسجموا تماماً مع أفكارهم ، وإذا أتى جوابهم بأنّهم لا يوافقون على تلك القاعدة فعليهم إقناعنا بأنّ سلوكهم الأناني هذا سلوك أخلاقي !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !