ثورة الضجر و حب ينتحر في سوريا

lamaalatasi2لنتذكر قليلا و نسترجع بذاكرتنا كيف كانت حياة كل منا قبل الثورة .. نعم أعلم بان نصف السوريين سيجيبوني قائلين عن اي ثورة تتحدثين و هل ما حصل كان ثورة ؟ سيعترضون على المصطلح و تكاد تكون الحرب في بلدي حرب مصطلحات تقطع بها الأعناق و يزج بها في اقبية الظلام .. لكن و ليس عندا او تشبث بل بكل تواضع ساتحدث عن هذه الثورة من منطلق كونها فقط حالة انسانية ..
احد الاساتذة في علم النفس الاجتماعي في الغرب فرانسيسكو البروني في كتبه التي حللت حالات الحب و العشق و الصداقة و الزواج في العصر الحديث في الغرب، يشبه حالة ولادة الحب بالثورات مسقطا هذا على كل الحركات الجماعية التي حصلت عبر التاريخ و كانت بمثابة ثورات و يعتبر بأن الميثاق العالمي لحقوق الانسان الذي انتجته الثورة الفرنسية هو في الحقيقة تعبير لغوي عن حالة حب تماما كقصائد الحب . و يتسائل دائما في تحليلاته عن كيف كان الوضع العام لفرد او لمجموعة ما قبل حصول حالة التحول التي انتجت الثورة مستعملا مصطلح
transgression
اي خدش الممنوعات . عندما نعود لحالة المجتمع السوري بتنوعه و تعدديته و طبقاته، اي هؤلاء ذاتهم الذين اصبحوا موالين او معارضين او انفصاليين فيما بعد، لوجدنا ان الملل كان يقربهم بتشابه من بعض. الملل من وضع ما، من حالة ما ، و اليأس من امكانية حياة كتلك التي يطمحون لها فرديا. هذا الشعور بالملل كان شعور خاص فردي اصاب السوريين كل على حدا، كل ضمن فئته، بيته، اسرته طائفته، لم تكن الحالات جماعية و لا منظمة و الدليل التشتت الذي ما زال الجميع فيه و كما لاحظنا كذلك نوع من التفرد لدى السوريين فيما بعد و نزعتهم للعمل الفردي لدرجة النرجسية فيما يخص بعض السياسيين الظاهرين. ان حالة الملل المزمن الذي ولدت الاحباط السوري كانت كمرض نفسي معدي اصاب من في الخارج هؤلاء الذين شعروا فجأة بأنهم عندهم حنين رهيب لبلادهم التي حرموا منها لاسباب اقتصادية غالبا، فكانت انهم ايضا دخلوا حالة نفسية ادت الى ان يتركوا اعمالهم ووظائفهم و يهيموا داخلين بحالة هذيان، لا يناموا الليل و يعيشون واضعين مصيرهم بخطر، رغم كونهم بعيدين عن مراكز للخطر الامني الذي احاط المتظاهرين مثلا. المؤكد هو ان الجميع بدون استثناء كان مصاب بحالة احباط نفسي قبل “الثورة”، ملل متراكم منذ عشرات الاعوام ، تماما كما تصفه اغاني فيروز في اوائلها عن الفتاة الصبية العاشقة التي تنتظر بملل قائلة “ضجرت مني الحيطان” في اغنية قديش كان في ناس ، انها تلك الحالة كانت حالة شعب كامل مل من الانتظار … لقد كان السوري ينظر للدول الاخرى بعين العجز و ليس عين الحسد كما يظن البعض.. المسألة لم تكن ققط اقتصادية كما حللها مفكري النظام و رد حينها الشباب على بثينة شعبان قائلين لها “الشعب السوري مو جوعان” و اسموها “ثورة الكرامة” و لكن اسمحوا لي ان اصفها بثورة الضجر من الانتظار..من انتظار تحقيق احلام مشروعة.

لقد كانت حالة جميلة جدا حالة انطلاق الثورة السورية في اول ايام الاعتصامات و ربما من اجمل اللحظات كانت يوم اعتصام ساحة الساعة في حمص تلك التي حشدت كل الطوائف، كان يحكى ان الشباب و البنات قبل ذهابهم للمظاهرة كانوا يتجملوا و يسرحوا شعورهم و يتبادلوا النظرات .. هذه كانت بنظرهم الثورة لحظات خارجة عن الممنوعات المألوفة فيه خدش لكل ما هو متعارف عليه.
و لكن قبل هذا كيف كانت حياة كل من الذين فزوا يمشون في الشوارع صارخين تاركين مدارسهم و اعمالهم و منازلهم و راحتهم و اسرهم ، معرضين انفسهم للخطر ، لخطر الاعتقال و القتل و رصاص النظام ؟ عندما نحلل الموقف نرى ان الذين قادوا المظاهرات الاولى كان بعضهم من الطبقة البرجوازية و من جميع الطبقات اي ليست المسالة مادية. بل هناك منهم ممن كانوا جدا منتفعين و بلا اخلاق و يعملون ضمن الفساد الممنهج السوري و عندما كنا نتناقش معهم عن سر استغنائهم عن مميزاتهم المادية كانوا يفتخرون بخطوتهم معتبرين بان في صحوتهم حركة بطولة و عنفوان ، كنصر فردي على الذات و نوع من انواع الكبرياء للتي لا يبحثون لها عن تقدير من احد بل يفتخرون بها سرا بينهم و بين ذاتهم .. نعم هو الشاب ذاته الذي كان يعمل مع اجهزة النظام من امنه لفساده و كان يهرب و يستفيد من علاقاته و يجني المال السهل و لكنه الان استغنى و يريد ان يكون انسان اخر و من هنا اتى شعوره بالتحرر من تلك الصورة التي لم تعد ترضيه عن ذاته.. هذا التحول هو الثورة تلك التي يصفها فرانسيسكو البروني في حالات الحب .. ان نظرة الحب في عيون الاخر تجعل منك انسان اخر بنظر ذاتك انسان ارقى و اجمل و اذكى .. هكذا جعلت الثورة من الفرد السوري انسان اخر..
البروني يقول بان العامل الذي يجعل رجل او امراة يقعون في حالة الحب هو ذاته الذي يولد حالة الثورة، حالة الملل من الواقع تولد حالات الحب و الثورة ، انها الديناميكية التي تصبو لتغيير حالة ما هو كبركان يوقظ المياه الراكدة، و هكذا فان الذي حصل للشعب السوري هو حالة ثورة معدية كفيروس. لدرجة ان الموالي في اعماقه هو ايضا احتاج لان يعيش نفسه حالة ثورة ايضا بل هو ايضا عاشها و احدثها عبر البدء بالتعبير للمرة الاولى عن رايه بالمجتمع و قيوده و نفاقه و النظام و فساده.
لا بد من التعرض هنا للصبغة الاسلامية التي هي مشكلة احدثت تناقض غير مريح ، حيث ان الثورة بتعريفها هي حالة غضب على المألوف و ارادة تغيير التقليدي لشيء جديد ، ان هذا احدث تناقض ضمن حالة الابتكار للواقع الاخر.. و هذا العمل الاحتوائي لطاقات الشباب من قبل الاسلاميين ناقض عملية الثورة كحالة ابداعية.
كان ممكن الا يدخل الدين على الخط تاركا الفسحة امام احلام الشباب بنمط حياة مختلفة و متطورة عن تلك التي عرفها اهلهم و اجدادهم و تاركا الحرية للفتيات بتغيير مجرى مستقبلهم ليكون مختلف عن ذلك الذي تكرره امهاتهن و جداتهن منذ قرون، كان ممكن للشاب ان يباشر بتغيير رؤيته لصورة المرأة ليراها شريكة مساوية له في الحقوق و الواجبات و العواطف و الشعور و الرغبات اي ليست صورة لقطة مدللة و لا لقاصر بحاجة لحماية .. كان ممكن ان يباشر بمكافحة خوفه من انوثتها و من عقلها.. و لكن هيهات سرعان ما حضرت كتائب و جيوش الترهيب الفكري و شلت كل مقدرة الحب على تغيير الانسان للاحسن..
كان ممكن ان يكون هذا الدين صلاة حب لله على طريقة جلال الدين الرومي تاركا للروح حق الوجود بتجرد و العبادة بدون وصاية و لكن هيهات
لم ينتصر احد و لكن انتحر الحب قي سوريا.

About لمى الأتاسي

كاتب سورية ليبرالية معارضة لنظام الاسد الاستبدادي تعيش في المنفى بفرنسا
This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.