ثمن الولاء في سوريا

روبرت وورث

علياء

ترجمة ياسر نديم سعيد : مركز الجمهورية

24 حزيران 2013

المزة 86 منطقة محلية من دمشق، مكتظة بالبيوت المهملة وتقع في تلة ضيقة. هذه المنطقة مزيّنة ببوسترات تحمل وجه الرئيس السوري بشار الأسد. يقع القصر الرئاسي في الجوار حيث يتجول ببطء حراس وجنود مسلحون. يكاد يكون مستحيلاً أن تدخل منطقة المزة 86 ما لم يصطحبك ضابط نظامي أو أحد السكان المحليين المعروفين جيداً. جميع السكان تقريباً ينتمون لطائفة الأسد العلوية.

ذهبت هناك بالسيارة في صباح يوم جمعة هادئ من شهر أيار. تم توقيفنا عدة مرات في نقاط تفتيش من قبل جنود شبان، فحصوا وثائقنا بعناية قبل أن يلوّحوا لنا بأيديهم كي نمرّ. عندما وصلنا هدفنا في كراج سيارات صغير محاط بأعمدة من البلوكات الإسمنتية خرجتُ من السيارة إلى حيث رأيت عدة رجال في منتصف العمر يلبسون ثياباً عسكرية موحدة ويقومون بأعمال مدنية. كانوا يحدقون بنا بغضب وريبة. قال لي أحد الرجال الذين اصطحبتهم «لا يتوقعون هنا وجود غرباء»، ثم قال لي أحد أولئك الرجال «يحاول المتمردون دائماً ضرب هذا المكان لأنهم يعرفون من يعيش هنا»، وأشار إلى سقف متهدم قريب، ثم قال «قبل أيام قليلة سقطت قذيفة هاون قريباً جداً من هنا، فقتلت سيدة فوقنا تماماً، وسيدة أخرى تحتنا تماماً».

المزة 86 مكان مرعب بالنسبة لكثير من السوريين. مكان آمن ومحصّن لجنود النظام وللميليشيا غير النظامية، التي لا تعرف الرحمة والمؤلفة من الرجال المسلحين المعروفين بالشبيحة أو «الأشباح». هؤلاء هم الرجال المتّهمون في تنفيذ عمليات التعذيب والقتل التي أوقعت أكثر من 90000 قتيلاً، منذ بداية الانتفاضة السورية قبل سنتين. بعض الرجال الأكبر سناً هنا هم من المتقاعدين من سرايا الدفاع سيئة السمعة، والتي ساعدت في ارتكاب مجزرة عام 1982 في حماه حين قتل 10000-30000 إنساناً في أقل من شهر. ومع ذلك ينشأ الآن في المزة 86 شعور جمعي كضحية مضطهدة. الشوارع مغطاة ببورتريهات ملونة لجنود موتى. كل عائلة تدّعي وجود قتيل أو جريح أو مفقود منها.

ذهبت هناك كي ألتقي امرأة تدعى ابتسام علي عبود، امرأة هربت من منزلها بعد أن قتل زوجها (ضابط علوي متقاعد اسمه محسن) في شهر شباط بواسطة المتمردين. ابتسام عمرها 50 سنة ولكنها تبدو أكبر من عمرها بعشرين سنة. وجهها شاحب ذو ملامح قاسية قلقة، عدا عن الرداء الأسود الطويل الذي ترتديه حداداً على زوجها. كان ابنها جعفر (17 سنة) معها، يبدو خجولاً. تحادثنا في غرفة غير نظيفة ذات أثاث قليل مبعثر. توجد صورة معلقة على الحائط لشيخ علوي ملتحٍ وجليل. قالت ابتسام: «لم نعتد أبداً على الشعور بوجود أي فرق بين الناس من طوائف مختلفة»، وأضافت «الآن هم مستعدون لذبحنا». قاتلُ زوجِها ميكانيكي سيارات يدعى أيهم، وكان يأكل من طاولتهم، وقد استدان من زوجها مالاً بالصدفة قبل عشرة أيام فقط ووعد بإعادته سريعاً.

كان أحدهم يدسّ لهم من تحت الباب قُصاصات ورقية مكتوب فيها «الموت للعلويين القذرين. اخرجوا من هنا يا عصابات النظام». قالت ابتسام أن القتل والخطف على أساس طائفي صار أكثر شيوعاً، وحتى محسن كان بالكاد قد نجا من محاولة أسره من قبل رجال مسلحين، ولكنه رفض أن يستمع لتحذيرات زوجته عندما أخبرته أن أيهم يعمل مع رجال سنّة مسلحين. قال لها: «أيهم صديقي. هذه سوريا وليست العراق». وفي إحدى الليالي خرج محسن لفترة قصيرة من أجل عمل له ولم يعد أبداً للمنزل. وجدوا جثته في اليوم التالي في سيارة العائلة مع ثقب رصاصة في رأسه. تم إحراق ورشة إصلاح السيارات الصغيرة التي يملكونها حتى تهدمت كلياً بعد عدة أيام من مقتله.

قال جعفر لي أن خمسة رجال أحاطوا به في طريق عودته من الورشة إلى المنزل، قالوا له: «سنمزّقك إرباً إذا لم ترحل»، وأضافوا: «ستلحق بوالدك إلى القبر». هربت هذه العائلة من منزلها في أحد ضواحي دمشق إلى المزة 86 حيث يحيط بهم الآن علويون آخرون.

قالت ابتسام «نحن المستهدفون الآن. زوجي لم يفعل شيئاً. كان ضابطاً متقاعداً ومتطوعاً للعمل في مستشفى. الآن أنا بالكاد أستطيع تدبر استئجار غرفتين صغيرتين مع أولادي الأربعة». ثم اهتزت فناجين القهوة، حيث كنا نجلس، إثر سماع صوت انفجار قذيفة مدفعية كتيم.

بدأ الرجال الذين اصطحبتهم (علويون أيضاً) بالتكلم باستطراد عن قصصهم الخاصة، عن أصدقاء وأقرباء لهم قُتلوا، أو عن جيران لهم خطفوا من قبل المتمردين. أحدهم قال لي: «ستجد قصصاً مثل هذه القصة في كل منزل عن أناس قتلوا أو خطفوا، وكل ذلك بسبب طائفتهم». ثم قال: «هم يعتقدون أن كل العلويين أغنياء لأننا من نفس طائفة بشار الأسد. هم يظنون أننا نستطيع التكلم مع الرئيس حين نشاء، ولكن انظر كيف نعيش!».

لم يكن أحد في الغرفة يرغب بقولها، ولكن كان هناك شعور غير مفصَح عنه بأنهم هم أيضاً من ضحايا النظام. بعد عامين من الثورة المسلحة الدموية، بقي مجتمع العلويين الصغير في سوريا بطل الحرب الغامض. تتشكل في هذا المجتمع نواة من الموالين المقيّدين بقدَرهم مع نظام الأسد بصورة لا عودة منها.

عندما اندلعت أولى الاحتجاجات في آذار 2011، قاد الضباط العلويون الوحدات العسكرية الخاصة المدربة والمجهزة، وقد قامت هذه الوحدات بحبس وتعذيب وقتل المتظاهرين، مما وضع سوريا في طريق مختلف عن الانتفاضات العربية الأخرى. فعل جهاز المخابرات الأسدي كل شيء حتى لا تنطفئ النيران الطائفية، وحتى يطمسوا رسائل المحتجين عن التغيير السلمي، ومع ذلك فقد أظهر العامان المنصرمان أن تلك المخاوف لها أساس واقعي، ولم تستدع إثارتها العمل الكثير.

كان السنيون والعلويون في صراع لمئات السنيين، وقد أحيت الحرب الأهلية أسوأ ما في ذلك التاريخ. علناً ينادي الجهاديون المتطرفون من بين المتمردين بالقضاء على الأقليات الدينية السورية أو تهجيرها.

معظم المراقبين الغرباء متفقون على أن الأسد تلاعب بطريقة سينيكية بطائفته من أجل نجاته سياسياً، ولكن قلة من هؤلاء تتساءل (أو كانت لديها الفرصة للسؤال) عن كيفية شعور العلويين أنفسهم بالنسبة للأسد؟ وما هي طبيعة المستقبل الذي يتخيلونه الآن حين يعلن العالم العربي السنّي الحرب عليهم بطريقة فعالة؟

قال لي رجل دين بارز في دمشق، اسمه سيد عبد الله نظام: «ما هو مرعب أن كل شخص الآن يحمي وجوده، وبالنسبة لكل الأقليات يبدو الأمر وكأنهم دخلوا في نفق طويل دون ضوء».

في اليوم الذي وصلت فيه إلى سوريا، في أواخر نيسان، ذهلت بالمظهر الطبيعي للعاصمة. كانت هناك فاكهة طازجة في أكشاك السوق، وحشود من المتسوقين في المدينة القديمة. كانت رائحة دخان المعسّل بطعم التفاح تخرج من المقاهي. ولكن نقاط التفتيش كانت في كل مكان ولم أستطع المشي أكثر من 10 ياردات دون أن يوقفني أحد أعضاء جيش الدفاع الوطني الجديد بلباسه المدني (لباس الشرطي المتخفي) كي يطلب بطاقة هويتي الشخصية. خلف الأصوات الحية المريحة للنشاط اليومي في الشوارع، يمكن سماع صوت القذائف الثقيلة الكتيم نهاراً وليلاً مثل رعد متقطع. لا أحد يعلّق على ذلك، وكان من الصعب في ضوء الشمس الربيعية تخيل وجود أناس يقاتلون ويموتون على بعد أميال قليلة فقط.

لم أر الحرب إلا بعد أن اتخذت طريقي في السيارة في الطريق السريع شمال دمشق. المنازل مهدمة إلى أجزاء ومحترقة بحيث لم يعد يمكن تمييزها، وبوسترات تحمل وجوه الأسد وأعوانه تمزقت بفعل الرصاص. عندما كنا في السيارة نعبر ضاحية حرستا، حيث اندلعت أحد أشد الحروب سوءاً في الأشهر المنصرمة، كان عمود ضخم من الدخان الأسود ينطلق من مجموعة أبنية متلاصقة على بعد مئات قليلة من الياردات. السائق الشاب الصغير أحمد ذو الشعر والهندام غير المرتبين كان ينظر بسرعة للأمام والخلف. مؤشر السرعة في السيارة قفز إلى أكثر من 90 ميل بالساعة وكنت أتعجب كيف ستصمد سيارتنا المتهالكة من نوع هيونداي. قال أحمد: «هذه منطقة خطرة جداً. يجب أن نسرع».

بعد الضواحي التفّ الطريق السريع حول مدينة حمص (حيث المعارك) واتجهنا للغرب تجاه منطقة العلويين الجبلية على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. هذا هو طريق بشار ومواليه الذي سيسلكونه عندما تُثار في مخيلتهم فكرة أنهم أصبحوا محاصرين من قبل أعدائهم. عندها سيتخلّون عن العاصمة، ويحاولون اختراع دولتهم الخلفية في أرض أسلافهم.

المنظر الطبيعي على طول الطريق السريع يزداد خضرة كلما تقدمنا باتجاه الشمال، وتتلاشى ببطء مظاهر الحرب. تنهض جبال رائعة مكللة بالثلوج إلى الغرب. ولاحقاً كان بإمكاننا رؤية السطح الأزرق المتلألئ للبحر. التلال كانت تبدو منقّطة بأشجار الزيتون والفاكهة. كانت رائحة أشجار الكينا تختلط مع نسيم البحر.

lattakia

مدينة اللاذقية عاصمة منطقة العلويين. مدينة بحرية هادئة ذات سحر رثّ. التلال حولها أمّنت لمدة طويلة ملجأ للأقليات السورية، وكانت يوماً ولفترة قصيرة جزءاً من دولة العلويين تحت حماية فرنسية بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة. أعطى هذا الأمر للناس هنا وجهة نظر مختلفة للبلد وتاريخه، بحيث لم يُتح لصحافي غربي أن يراه كثيراً. كان ذلك في اللاذقية حيث التقيت داعمة مكرّسة للنظام اسمها علياء علي، وعمرها 27 عاماً، وهي ابنة ضابط علوي متقاعد ومدرّسة لغة فرنسية. علياء ذات وجه عريض وجميل مع حاجبين متشابكين يضفيان عليها العزم والمشاكسة. ذكية وواعية تماماً، فهي تعرف كيف ينظر الغرب للصراع بفضل السَنة التي قضتها في دراستها في إنكلترا.

كانت علياء، بصورة غير مشابهة للعديد من الموالين، مستعدة للاعتراف بالأعمال الوحشية التي قام بها من تواليهم، وأحياناً كانت تبدو مرتبكة من الدولة السورية البوليسية. قالت علياء لي: «كنت مؤيدة للثورة في البداية. كان هناك الكثير مما نحتاج تغييره هنا. كنت أعرف ذلك ولكن الحقيقة أن الأمر انقلب إلى صراع طائفي وعنيف بأسرع مما كان الناس يفكرون به».

أخبرتني علياء أنه في وقت مبكر من شهر نيسان عام 2011، وعندما كانت في الطريق الساحلي المزدحم، سمعت أصوات انفجارات وإطلاق نار مرتفعة، واستمر ذلك عدة دقائق، وفقط لدى عودتها إلى المنزل في جبلة –حيث تسكن– علمت أن 9 جنود سوريين وقعوا في كمين وقتلوا في مكان قريب. التقارير الأولية وصفتهم كجنود حاولوا الانشقاق وقتلوا بواسطة قادتهم العسكريين، ولكن لا يوجد دليل على هذا الادعاء، كما أن شريط فيديو لهاوٍ أظهر مشهداً يوحي بأن القتلة كانوا من المتمردين الذين يحملون السلاح. كان ذلك مناسباً لعلياء وأصدقائها كرواية نمطية: الإعلام الغربي يرفض الاعتراف بعنف الانتفاضة، ويتجاهل ضحايا الحكومة.

في ذلك الربيع، وبالرغم من إصرار المحتجين على الحركة الشاملة من أجل كل السوريين، بدأ الخطاب الطائفي بالتسلل. أحد الشعارات كان: «لا إيران ولا حزب الله، بدنا واحد يخاف الله». قد يبدو ذلك غير مؤذ للغرباء، ولكن في سوريا كان واضحاً بأنه نداء للسنّة كي يتحدوا ضد أعدائهم.

خلال صيف عام 2011 سرت إشاعة غريبة بأنه إذا قام المتمردون بقرع الأشياء المعدنية بعد منتصف الليل وأطلقوا صلواتهم الصحيحة خلال شهر رمضان المبارك فسيختفي العلويون! عندما زرت منزل علياء، قادتني إلى البلكون وأرتني التراس في البناء المجاور، وقالت: «هل ترى التراس؟ كانوا يقرعون منه على الأشياء المعدنية في منتصف الليل. نهض أبي من سريره وصاح عليهم: اخرسوا! نحن لن نختفي!». لاحقاً عندما كنا ننزل درج البناء أشارت علياء إلى دائرة مرسومة على الحائط وفي داخلها إشارة X، وقالت: «كان هذا رمزاً للمعارضة استخدموه كي يظهروا أهدافهم. الشخص الذي يسكن هنا أخو مسؤول كبير في الدولة».

وصف لي الأخ الأصغر لعلياء، عبد الحميد، صدمته الطائفية الخاصة به. كان ملاكماً هاوياً عمره 23 سنة، وكان يدرس في مصر في شهر تشرين الثاني المنصرم ويعيش مع خمسة سوريين في منزل بالإسكندرية. في إحدى الليالي قرع باب منزلهم شابّ ذو لكنة عراقية، وسأله إذا كان سورياً. عبد الحميد أجاب بنعم، ومشى العراقي مبتعداً. في آخر تلك الليلة حاولت مجموعة من الرجال كسر الباب الخارجي مع صيحات طائفية منتهكة. تعارك عبد الحميد وأصدقاؤه مع المهاجمين وأبعدوهم عن المنزل. ثم قال لي عبد الحميد: «ولكن الجزء الأسوأ أتى لاحقاً، فبعد عدة أيام كان هناك بوست في الفيسبوك يظهر عنواننا ومكتوب فيه: هؤلاء الشبان سوريون تمولهم إيران وحزب الله لينشروا التشيع في مصر، ويجب عليكم قتلهم». ثلاثة من السوريين تخلوا عن دراستهم وعادوا إلى بلدهم.

علياء وأصدقاؤها لم يظهروا لي أنهم حتى شهود غير منحازين على الانتفاضة. لقد أغلقوا أعينهم عن معظم ما حدث في بلدهم بعد أن بدأت المظاهرات: الاعتقالات الجماعية والسجون والتعذيب والقتل لمئات ثم لآلاف المتظاهرين السلميين غير المستفزين. في أحاديثهم معي سخروا من كلمة «شبيحة»، وقالوا إنها أسطورة، وأظهروا أنهم غير مستعدين لأن يصدقوا بأن النظام كان مسؤولاً عن الشائعات الطائفية التي صاحبت الاحتجاجات الأولى. كانت ما تزال الحقيقة عاطفية في قلب قضيتهم، فلقد شعروا بوجود غضب محبوس تجاههم كعلويين، وظهر أن التنفيس عن ذلك الغضب كان كاشفاً كعلامة على أنهم كانوا يعيشون كذبة.

aliaaالصديقة المفضلة لعلياء –أو من كانت يوماً أفضل صديقة لها– كانت سنّية، اسمها نورا. كان يفصل منزليهما بناء واحد، وكانتا تذهبان للمدرسة معاً وتساعدان بعضهما البعض في تربية إخوتهم الصغار. قالت لي علياء: «لم تكن الطائفة المختلفة تعني شيئاً لنا». معظم أصدقاء علياء كانوا من السنّة. أخبرتها نورا يوماً أنها ستسمّي أول ابنة لها علياء، وأنها ستحضر الياسمين إلى منزلها بعد ولادتها. أرتني علياء صورة تظهر نورا بوجهها الممتلئ الطفولي، وغطاء الرأس الفضفاض، وكانت علياء تقف بجانبها وتلفّ ساعدها حول كتفها، ثم قالت علياء: «في عام 2010 خطب نورا رجل متدين جداً، وطلب منها أن تتوقف عن الذهاب للسينما وارتداء الثياب القصيرة، ولم يكن يتحمل وجود صديقات غير سنّيّات لها. أخبرتني علياء أن نورا أتت إلى منزلها مباشرة، وأخبرتها بما قيل لها واستلقت الاثنتان على السرير، وهما تتحدثان عما يمكن فعله. فسخت نورا خطبتها سريعاً كما أخبرتني علياء، وقالت لها «أنا لا أستطيع العيش مع رجل يفكر بأن العلويين محظورون علي».

بعد اندلاع الاحتجاجات الأولى مباشرة، أخبرت علياء نورا عن بعض الأنشودات الطائفية التي سمعتها من المحتجين. رفضت نورا تصديق ذلك. في الشهر التالي، عندما اتخذ الجيش إجراءات قاسية في جبلة، كانت نورا يائسة، وقالت إن المحتجين الأبرياء قتلوا. علياء أخبرت نورا أنه «ليس منطقياً أن تقتل الحكومة شعبها»، ثم انسحبت نورا من النقاش. قالت لي علياء: «قد نكون سمعنا قصصاً مختلفة». بانتقال نورا وعائلتها إلى عمق معسكر المعارضة، بدأت الصداقة بين نورا وعلياء بالتآكل. مرة، بعدما كانوا في رحلة بالسيارة على كورنيش البحر، قالت نورا فجأة «إذا هاجمكِ السنّة سأحميكِ، وستفعلين ذلك من أجلي إذا حدث العكس». ضحكتا. قالت علياء: «في ذلك الوقت بدا الأمر مثل مزحة. لم نستطع في الواقع تخيل حدوث ذلك».

سافرت علياء إلى إنكلترا في نهاية الصيف، وبعد ذلك بفترة قصيرة اعتُقلت والدة نورا، وتوقفت الصديقتان عن الحديث المتبادل. أخبرتني علياء أنه في شهر تشرين الأول كانت نصف نائمة في إحدى الليالي عندما سمعت صوت اللابتوب: كانت نورا تطلب محادثتها بالفيديو، وكانت الساعة الرابعة فجراً، ولكنهما استمرتا في الحديث مدة ساعة مع الضحك وكأن شيئاً لم يتغير. قالت علياء: «عندما انتهت المكالمة انفجرت دموعي، وشعرت بالسعادة أننا مازلنا صديقتين، وأن المختلف بيننا لم يكن يعني لنا شيئاً».

بعد ذلك بقليل غادرت نورا وعائلتها إلى تركيا. في شهر كانون الأول، ألغت نورا صداقتها لعلياء في الفيسبوك، ولكن علياء استمرت في تفقّد صفحة نورا بالفيسبوك كل يوم. كانت بوستاتها مضادة للأسد بشكل عاطفي، وتتضمن قدحاً طائفياً بالعلويين. تزوجت نورا من رجل سني من جبلة، ويظهر في صورته في الفيسبوك وقد وضع العصبة السوداء التي تستخدمها القاعدة. في منتصف شهر أيار كتبت نورا بوستاً طويلاً في مدح صدام حسين وأتبعته بهذه الجملة: «كم لايك يستحق قاهر الشيعة والكفار الآخرين؟». أرتني علياء صفحة أخي نورا المراهق في الفيسبوك، مع صورته وهو يحمل الكلاشينكوف، ثم قالت: «اعتدت أن أحمله على كتفي وأطعمه المكسرات».

تسكن نورا الآن في تركيا. تمكنت من محادثتها بالهاتف من مدرسة سورية تديرها عمتها قرب الحدود. اعترفت نورا لي بصداقتها مع علياء، ولكن حماسها الديني ظهر واضحاً بسرعة حين قالت لي أن زوجها لا يسمح لها بالحديث بالهاتف مع صحافيين أجانب. تحدثت بعدها مع عمّتها مها مديرة المدرسة، والتي أكدت لي وصف علياء لصداقتها مع نورا وللانتفاضة في جبلة. ارتفع صوت مها إلى درجة الصياح حين أخبرتني أن النظام فقط كان طائفياً، ثم قالت: «قبل الانتفاضة كنا نعيش سوية دون مشاكل. شعروا بالاطمئنان تجاهنا لأنه منذ حوادث حماه أحسوا بأننا لن نثور عليهم، ولكن حالما اخترنا طريق الثورة شعروا بأنها موجهة ضدهم وليس تجاه الأسد. لقد أخبرناهم بأننا نريد الحرية فقط ولكنهم أغلقوا الأبواب في وجوهنا ورفضوا التحدث معنا». صدمتني مها كامرأة منطقية كانت تأسف لتمزّق العلاقة بقدر أسف علياء، ولكن حين سألتها عن الديانة العلوية، تفاجأت بجوابها: «علياء فتاة لطيفة، ولكن ليس للعلويين دين. هم طائفة خائنة تعاونوا مع الصليبيين، وخلال الاحتلال الفرنسي وقفوا إلى جانب الفرنسيين».

لهذه الاتهامات المألوفة بالنسبة للعلويين لذعة التلقيب العنصري. لقد تطور إيمان العلويين خلال ألف سنة مضت كشكل غريب ومزيج أسطوري من الأفلاطونية المحدثة والمسيحية والإسلام والزرادشتية. تتضمن هذه الديانة الاعتقاد بالتناسخ وتأليه علي ابن عمّ وصهر النبي محمد. قادت هذه المعتقدات «غير الأرثوذوكسية» الصليبيين إلى تفضيل العلويين، والنظر إليهم كحلفاء محتملين ضد المسلمين. اللاهوتي ابن تيمية (سلف الإسلاميين المتشددين هذه الأيام) أعلن في العقد الأول من القرن الرابع عشر الميلادي أن العلويين «أكثر كفراً من اليهود والنصاري، بل وأكفر من كثير من المشركين»، وقد حض المسلمين المخلصين على ذبحهم وسرقتهم. وجد العلويون ملجأهم في الجبال، ونادراً ما تجرؤوا على القدوم حتى إلى مدينة اللاذقية. الكثير منهم ذبحتهم الجيوش العثمانية، وأجزاء من مجتمعهم كادت تفنى في بعض المحطات من تاريخهم. وطبقاً للمؤرخ جوشوا لانديز فقد جرى في سبعينيات القرن التاسع عشر خوزقة قطاع طرق علويين مفترضين، وتركوا على خوازيقهم مكشوفين للناس في مفارق الطرق كنوع من التحذير. عاش العلويون في فقر بائس على هوامش الاقتصاد الإقطاعي السوري، وكثيراً ما أرسلوا بناتهم في عقود عمل كخادمات عند العائلات السنية الثرية.

عندما رغب الفرنسيون عام 1936 من أجل حفظ توازناتهم في دمج الدولة العلوية الساحلية المتشكلة حديثاً في الجمهورية السورية الأكبر، أرسل ستة من أعيان العلويين التماساً للفرنسيين يرجونهم أن يعيدوا التفكير، فـ«روح الكراهية والتعصب الكامنة في قلوب العرب المسلمين ضد أي شيء غير مسلم كانت دائماً تتغذى من الدين الإسلامي. لا يوجد أمل بأن هذا الوضع سيتغير يوماً، لذلك فإن إلغاء الانتداب سيعرّض الأقليات في سوريا إلى مخاطر الموت والفناء، بالإضافة إلى حقيقة أن مثل ذاك الإلغاء للانتداب سينهي حرية الاعتقاد والإيمان». كان أحد موقّعي الالتماس سليمان الأسد، جدّ الرئيس الحالي لسوريا. فيما بعد، وبعد أن تخلى الفرنسيون عنهم، سارع العلويون لتبني القضية الوطنية السورية، وقطعوا أشواطاً طويلة لجعل بقية البلاد تنسى طموحاتهم الانفصالية.

فكرت بذلك الالتماس عندما دخلت منزل عائلة علياء في جبلة، حيث يوجد بورتريه بالأبيض والأسود لجدها معلّق بإطار رسمي على جدار غرفة المعيشة. قالت علياء بذكاء: «درس جدي في فرنسا في الثلاثينيات من القرن المنصرم»، ثم أضافت بسرعة «لاحقاً كان له إسهامه في الصراع من أجل الاستقلال على ما أعتقد».

سألت علياء كيف تفكر بالعلويين الذين انضموا للمعارضة، مثل الروائية سمر يزبك التي هي أيضاً من جبلة. أصبحت علياء حذرة عند ذكر اسم يزبك، وقالت: «التقيت بها مرة وأخبرتني أن مستقبلاً مشرقاً ينتظرني، ولكنني لا أريد مستقبلاً يشبهها. أظن أن العلويين الذين انضموا للمعارضة لا يدركون أنهم استُخدموا كأدوات، أو أنهم يفكرون بأن بإمكانهم تحويل حرب الجهاديين إلى ثورة ديمقراطية ولكنهم لن ينجحوا أبداً».

كانت يزبك في سوريا أيضاً خلال الأشهر الأولى من الثورة. في مذكراتها عن الثورة خلال الأشهر الأربع الأولى، والتي نشرت لاحقاً باللغة الإنكليزية تحت عنوان «امرأة في مرمى النيران»، وصفت يزبك الحملة الغاضبة التي شُنّت ضدها بعد أن أعلنت للملأ مساندتها للثورة. أجبرت عائلتها على التنكر لها، ووُزّعت قصاصات ورقية في جبلة تشجبها. في جزء من مذكراتها تصف يزبك مواجهة مرعبة مع أجهزة النظام التي ساقتها من منزلها إلى مركز التحقيق، حيث وجدت نفسها مع ضابط غاضب رماها أرضاً وبصق عليها وهدد بقتلها، ثم قادها الحرس بعد عصب عينيها أسفل الدرج إلى أحد أقبية تعذيب النظام، حيث أجبرت على رؤية المحتجين نصف ميتين بدمائهم، وهم معلقون من السقف. أخبرها الضابط في وقت لاحق أنها مخدوعة من قبل «الجهاديين الإسلاميين»، وأنها يجب أن تعود إلى حظيرة الطائفة أو أنها ستموت، ثم قال لها: «نحن لسنا مثلكم أيها الخونة. أنتم علامة سوداء بالنسبة لكل العلويين». عندما تحدثتُ مع يزبك –التي تعيش الآن في باريس– أخبرتني أنها تعتقد أن المجتمع العلوي هو أول ضحية لطائفية الأسد، وأنه جرى استخدام العلويين كدروع بشرية كي يحتفظ النظام بقوته. وقالت: «يعتقد العلويون بخطاب النظام بأن المجازر سترتكب بحقهم إذا سقط الأسد، ولكن هذا ليس صحيحاً. إنهم خائفون جداً ومشوشون». أثار بعض العلويين داخل سوريا نفس الموضوع بالرغم أن ذلك كان أكثر خطراً عليهم، ولكن الذين تحدثت معهم جادلوا أيضاً بأنه لم يعد مهماً فيما إذا كان العلويون قد تم خداعهم أم لا لأن مخاوفهم الطائفية تحققت بالفعل.

قابلت في اللاذقية رسام كاريكاتور علوياً اسمه عصام حسن. أخبرني الرسام أن الكثير من العلويين الذين تعاطفوا مع المعارضة انتقلوا إلى الجانب الآخر، وقال: «عرفت الحكومة أنها لا تستطيع محاربة المحتجين السلميين لذلك دفعتهم للعنف، ولكن العنف الذي رأيناه الآن من جانب المتمردين أخاف الجميع، ثم انظر إلى وسائل الإعلام: الجزيرة والتلفزيون الحكومي السوري. لقد اتخذا جانبين مختلفين ولكن كلاهما دفع باتجاه النهاية نفسها. لقد شجعا على الكراهية».

في ليلة خميس دافئة في دمشق، التقيت صديقاً قديماً في نادٍ يدعى «بار 808»، وهو أحد آخر الأماكن المتمردة من أجل شبان المدينة الحداثيين، وهو مكان مشهور من بين الأمكنة المعروفة بتعاطفها الهادئ مع المعارضة. شققت طريقي عبر الزحام ودخلت غرفة صاخبة حميمة حيث يرقص الشبان السوريون ويشربون الكحول ويتبادلون الحب. حضنني صديقي خالد في البار بقوة، واشترى لي بيرة.

خالد روائي وبوهيمي، له رأس كبير يعلوه شعر مفتول رمادي أشيب، وذو ضحكة صاخبة، ولكن آخر سنتين جعلتاه يبدو أكبر سناً. تحدثنا عن الأصدقاء المشتركين. معظمهم تفرق الآن في بيروت وأوربا. قال خالد: «لا أستطيع التخلي عن الثورة. لا أرغب في مغادرة دمشق». وضع ساعده حول امرأة شابة، وقدمها لي باسم ريتا. قالت لي ريتا: «خالد هو المتفائل الوحيد الذي بقي في دمشق»، وعندما سألتها عن المعارضة قالت: «أنا خجلة من قول هذا، ولكن المعارضة فقدت معناها. الآن لا يوجد سوى القتل. لاشيء سوى القتل. الجهاديون يتحدثون عن الخليفة، والمسيحيون خائفون فعلاً».

توقفنا عن الكلام فترة قصيرة، كانت مليئة بموسيقا البوب العربية الصاخبة، ثم قالت ريتا: «انتظرت حياتي كلها حتى أرى هذه الثورة، ولكنني أعتقد الآن أنه ربما كان يجب أن لا تندلع الثورة. على الأقل ليس بهذه الطريقة».

إذا كانت المعارضة قد فقدت معناها فكذلك حدث مع النظام. جماعة الأسد طالما عرّفت سوريا خاصّتها بأنها: «القلب النابض للعروبة»، و«حصن القضية الفلسطينية». كان معروفاً أن حزب البعث يحمل هذه الروح، وكانت الأقليات في سوريا متحمسة لإثبات ولائها كعرب في مجتمع ذي أكثرية مسلمة. كان ذلك هو الصمغ الذي جمع المجتمعات المشاكسة في البلد. ولكن سوريا الآن طُردت من جامعة الدول العربية، المؤسسة العربية للحكام العرب، واتضح أن الأيدلوجيات القديمة الموحِّدة (التي قدمت خدمة كلامية فقط إلى حين بدأت الأزمة) لم تكن حقيقية.

في شارع جانبي هادئ في أحد أغنى أحياء دمشق، دعاني محامٍ بارز للانضمام إليه وإلى أصدقائه في مكتب فخم معدّ للضيوف المميزين. كانت هناك أرائك جلدية ناعمة وشوكولا أوربية على طاولة القهوة، وشاشة بإطار من قياس 16 تظهر كل مكان في المنزل. أحد الضيوف كان رجل دين محترم يدعى جبرائيل داوود، وهو رجل دين سرياني أرثوذكسي. كان يتمدّد باسترخاء في أريكته بردائه الأسود. أثير موضوع الأقليات في سوريا. كان وجه الأب داوود يعبر عن غضبه حين قال: «الأقليات تعبير مزيّف. يجب أن نهتم بنوعية البشر وليس بكميتهم. تعبير الأقليات يعطيك فكرة أنها صغيرة وضعيفة، ولكننا نحن السكان الأصليون لهذا البلد». ابتسم الأب داوود بتكلف عندما تحدث عن المحتجين ومطالبهم بالحرية، وقال: «إنهم لا يريدون الحريات بل يريدون الحوريات: العذراوات ذوات العيون السوداء اللواتي وُعد بهنّ مفجرو القنابل الانتحاريون في الحياة الآخرة». تحدث داوود بمرارة عن خطف مطرانين مسيحيين لم يعرف مصيرهما بعد، ثم قال: «المتمردون قد يكونون سوريي الجنسية ولكن عقليتهم ليست سورية. نحن فخورون بعلمانيتنا. لا نستطيع العيش مع هؤلاء البرابرة».

عندما أثرت موضوع القومية العربية، جفل أحد الضيوف في الغرفة، وقال: «نحن من بلاد النهرين ولسنا عرباً. لا نريد أن نكون عرباً».

لقد سمعت هذا النوع من الحديث في كل مكان زرته في سوريا. تحدثت عن الانتفاضة امرأة علوية شابة في اللاذقية، كانت قد قضت وقتاً في الولايات المتحدة، بمصطلحات عنصرية بارزة: «بدأت الاحتجاجات بشكل جيد، ولكن بعد فترة أصبح الناس المشاركون من غير المتعلمين. هم يشبهون مثيري الشغب عندكم في ديترويت عام 1967. أناس فاشلون وليسوا صالحين، يشبهون السود في الولايات المتحدة. هؤلاء البرابرة الذين نتحدث عنهم هم فقراء الريف والضواحي وغالبيتهم العظمى من السنّة وهم العمود الفقري للمعارضة، ومن المحتمل أنهم يشكلون نصف عدد سكان سوريا».

ربما تتكسّر الأساطير الوطنية السورية، ولكن من الصعب أن ترى كيف يمكن إعادة تصور الخريطة السورية بطريقة مستقرة. هناك بعض التخمينات بأن الأسد قد ينسحب إلى الجبال الساحلية، إذا انقلبت الحرب ضده، الأمر الذي لم يحدث بعد. تلك المنطقة هادئة وساكنة مقارنة بدمشق ومكتفية بذاتها نسبياً، ولكن يقال أن سكانها تضاعفوا منذ بداية الحرب بفضل تدفق المهاجرين من أجزاء أخرى من سوريا. بعض المهاجرين هم من العلويين الذين عادوا إلى قراهم الأصلية، ولكن عشرات الآلاف من السنّة استقروا هناك أيضاً باحثين عن ملجأ لهم في الساحل وقادمين من حلب والمناطق الأخرى التي مزقتها الحرب. فنادق المدينة مكتظة بأناس من الطبقة المتوسطة يحملون معهم حقائبهم الثقيلة، أما الأكثر فقراً من المهاجرين فقد تجمعوا في مخيمات في مركز رياضي ضخم، حيث يعيشون في خيم مزدحمة تفوح منها رائحة بول كريهة. حذرني موظف محلي يعمل في وزارة الإعلام بفظاظة قائلاً: «كن حذراً، فالعديد منهم مؤيدون للجيش السوري الحر. هم لا يقولون ذلك الآن ولكننا نعرف ذلك». إذا تشكلت يوماً ما دولة العلويين فستكون مخترقة بمتمردين محتملين. نشأ حافظ والد بشار الأسد في منزل مكون من غرفتين حجريتين في الجبال، وساعد في أعمال ترميم المنزل. عندما كان رئيساً كان يحب أن يذكّر الناس بأصوله. تكلم في الثمانينيات من القرن المنصرم –عندما كان الاقتصاد الاشتراكي السوري في الحضيض– في إحدى خطبه قائلاً: «أيها الرفاق الفلاحون: لن تكون يد بعد هذا اليوم فوق يدكم. أنتم المنتجون. أنتم السلطة». نشأ أولاد حافظ في القصر ولم يعوا أبداً أو يهتموا كثيراً بفقراء سوريا. أحضرت إصلاحات بشار الاقتصادية مبكراً في العقد الأول من القرن الحالي معها المطاعم والنوادي الليلية الحديثة في دمشق، ولكن الريف كان يغرق أكثر في الفقر. في أواخر عام 2010 قدت سيارتي عبر الحزام الزراعي في سوريا، وقد أدهشني حجم الضرر الذي سببته السنوات الخمس من الجفاف وإهمال الحكومة. تخلى الكثير من الفلاحين عن مزارعهم المتجففة وانتقلوا للعيش في الأحياء المكتظة الفقيرة في أطراف المدن حيث أصبحوا مادة مثالية قابلة للاشتعال بسهولة في الثورة.

ولكن كان هناك سبب آخر للوجه غير الصافي للمتمردين السوريين، سبب أشدّ وحشية. قابلت في إحدى الليالي في دمشق مبرمج كومبيوتر عمره 33 سنة اسمه أمير، وقد شارك في حركة الاحتجاج اللاعنفية منذ البداية. قال لي أمير: «لقد بدأنا الاحتجاجات بثلاثة مبادئ: لا للعنف ولا للتدخل الأجنبي ولا للطائفية»، هكذا تكلم معي أمير باللغة الإنكليزية عندما كنا نتمشى في هواء الليل البارد المنعش. «النظام استهدف المحتجّين حتى أجبرهم على التخلي عن المبادئ الثلاثة جميعها».

سألته إذا كان مازال ناشطاً في الثورة فقال: «لقد وضعوني في السجن مدة يومين. لم يتم تعذيبي، ولم يوجه لي أحد كلمة سيئة، ولكن بالنسبة لي.. (تعثرت كلماته ثم استدار تجاهي وقال:) هل تعرف كيف ذهب دانتي إلى الجحيم وسمح له بالعودة؟ تلك الزنزانة كانت مساحتها 10 أمتار مربعة، وحشر فيها 152 شخصاً تحت الأرض بطابقين. لم يكن هناك هواء. تشعر دائماً أنك ستختنق. كان لديهم نظام غير معلن: الأسبوع الأول يجب أن تبقى واقفاً نهاراً وليلاً ثم يسمح لك بالاستناد إلى الحائط عدة أيام ثم يسمح لك بالجلوس. عندما تكون واقفاً تخاف أن يأخذك النوم لأنه وقتها لن تستيقظ أبداً. البعض هناك كان قد أمضى ساعات والبعض الآخر أياماً أو أسابيع. البعض جرى تعذبيه بطرق لا يمكنني تخيلها. بالنسبة للطعام تحصل على قطعة خبز وبعض الماء، ولكن لم يكن ذلك مهماً. تقضي في الحمام حوالي 30 ثانية مرة واحدة في اليوم، ولكن صدقني لم يكن ذلك مقلقاً لأن هناك أناس في الزنزانة كانوا يطلبون الموت حرفياً». توقف عن الكلام، وبعد برهة سألته لماذا تم توقيفه، فأجاب: «لأنني أشعلت شمعة في ليلة الجنازة».

هل كان يجب أن يحدث ذلك بتلك الطريقة؟ العديد ممن يقاتلون حكومتهم الآن كانوا يرون بشار الأسد خلال عقد مضى كنوع من مخلّص. شخص لطيف سيقودهم بعيداً عن الوحشية. لم يكن بشار معنياً بالرئاسة، فأخوه الأكبر باسل كان الوريث الظاهر، وفقط بعد موت باسل في حادث سيارة عام 1994 جرى سحب بشار –ذي العنق الطويلة، الهادئ الأخرق– من مدرسة طب العيون في لندن وتم تنصيبه. كان شخصاً غامضاً منذ أول يوم له في الرئاسة عام 2000، حين بدا كرجل يريد قيادة سوريا في مسار مختلف، ولكنه لم يفعل ذلك أبداً.

قابلت مناف طلاس (أحد أقدم أصدقاء بشار) في شهر نيسان، وطلبت منه أن يحكي لي عن طبيعة الصراع من وجهة نظر بشار. طلاس، الذي كان أبوه وزيراً للدفاع مدة ثلاثة عقود، كان جنرالاً في الحرس الجمهوري في سوريا حتى انشقاقه في شهر تموز المنصرم. عرف مناف بشاراً في طفولته، وكان أحد أعضاء الحلقة الداخلية له لسنوات عديدة. التقينا في مقهى بباريس في عصر يوم دافئ. كان طلاس يبدو أحياناً ساخراً بازدراء كشخص متأنق غندور. كان يلبس وقتها قميصاً حريرياً أزرق مفتوح الأزرار وسط صدره، ويضع نظارات شمسية مما يلبسه الطيارون. قال طلاس: «في اليوم الذي اندلعت فيه الأزمة في منتصف آذار من عام 2011 في مدينة درعا، أثناء الشغب الذي اندلع إثر أمر ابنة خالة الأسد مدير الأمن المحلي بحبس وتعذيب مجموعة من الصبيان الذين كتبوا الجرافيتي ضد النظام على الجدران، حثثت الأسد على زيارة درعا بنفسه، وعلى أن يصدر أمراً باعتقال مدير الأمن المحلي». آخرون أيضاً، بما فيهم رئيس تركيا وأمير قطر، أسدَوا له النصيحة نفسها. قال طلاس أنه استمر في حث الأسد على معالجة الأزمة عبر المفاوضات أكثر من استخدام القوة، وبموافقة الأسد بدأ طلاس بلقاء مجموعات أهلية في المدن التي اندلع فيها الشغب وأحياناً كان يلتقي بـ 300 شخصاً. استمع طلاس إلى شكاواهم، وكتب قوائم بالحلول الممكنة لفساد الشرطة المحلية ونقص المياه والكهرباء ومشكلات أخرى. كان قادراً على تعيين هوية القادة المحليين الذين يمكن الوثوق بهم، وقدم قائمة بالقضايا المثارة والأسماء لأتباع بشار، وفي كل مرة كان سرعان ما يتم اعتقال القادة. أخبرني طلاس أنه في النهاية واجه أفراداً من عائلة مخلوف أولاد خال الأسد الذين هم الآن أقرب ناصحيه. «كان هناك خلاف كبير، فقد كانوا يريدون التعامل مع المشكلة بواسطة المخابرات بالطريقة القديمة». قرر طلاس التكلم مباشرة مع الأسد، ولكن صديقه القديم جعله ينتظر أسبوعين، وعندما التقيا أخيراً أظهر الأسد أنه لم يعد مهتماً بنصيحة طلاس. «عرف بشار منذ البداية أن هذه أزمة كبيرة، وقرر أن يلعب على غرائز البشر».

في إحدى الصباحات المبكرة من شهر أيار، قدت سيارتي مع علياء علي وأخيها عبد الحميد إلى بلدة أسلافهم دريكيش، في جبال العلويين الخلفية. تسلقنا الطريق الصاعد من الساحل على طول المنعطفات الحادة، حيث المناظر الطبيعية الخلابة من تلال ذات مصاطب وبساتين وفيرة. توقفنا فترة قصيرة للنظر إلى نصب تذكاري حديث لموتى الحرب من أهل البلدة. لوحة رخامية مهيبة (25 قدماً) حفر عليها مئات الأسماء. ركنّا السيارة أسفل شارع التلة الضيق والمسمى باسم جدّ علياء ومشينا صاعدين إلى منزل العائلة، وهو بناء حجري عمره 100 سنة، وله آجرّ من السيراميك الذي بدأ بالاهتراء… وقف عمّ علياء عامر بانتظارنا. عامر رجل عمره خمسون سنة، ويبدو قوياً مع شعر شائب قصير جداً. قادنا إلى أعلى الدرج إلى غرفة كبيرة ذات سقف مرتفع حيث ضوء الشمس يتناثر عبر جدارين مفتوحين. كان بانتظارنا في الداخل الكثير من الناس.

جمع عامر علي هؤلاء الناس كي يخبروني عن قصص أقربائهم وأزواجهم الذين قضوا في الحرب. استمعت لهم واحداً واحداً. كانوا من الطبقة العاملة: جنود وعمال بناء وشرطيون. كلهم علويون بقدرِ ما عرفت. ومن المحتمل أن بعضهم كان من الشبيحة بالرغم من أحداً منهم لم يستخدم هذه الكلمة. أحدهم، وهو عامل بناء في منتصف العمر اسمه أديب سليمان، سحب جواله وأظهر لي رسالة تلقاها بعد أن خطف المتمردون ابنه يامن: «لقد نفذنا إرادة الله وقتلنا ابنك. إذا كنت ما تزال تقاتل مع بشار فسنأتي إلى بيوتكم ونمزقكم إرباً. لا تقاتلوا أبداً ضدنا».

أخبرني شاب عمره 20 سنة، أصيب مرتين بطلق ناري في الرأس وفقد بعضاً من ذاكرته ونصف سمعه، بأنه سيعود للجبهة حالما تشفى جراحه. حدق والده بي، وقال: «سأكون فخوراً لو أن ابني أصبح شهيداً. أنا الآن في خمسينيات العمر ومستعد للتضحية بحياتي أيضاً. هم يعتقدون بأننا أصبحنا ضعفاء في هذه الأزمة، ولكننا أقوياء».

بعد تناول وجبة الغذاء أراني عم علياء المنزل. كان يعلق على الحائط سيف علي –وهو رمز مهم للعلويين– مع أشعار نقشت على نصله. كانت هناك أدوات زراعية قديمة وعصا لالتقاط الأفاعي وسكاكين للصيد وبندقية قصيرة عمرها 100 عام (نوع من التاريخ البصري للعلويين). كانت هناك قوارير فينيقية وصورة مؤطرة لحسن نصر الله قائد حزب الله. فيما بعد، قادني عامر إلى السطح، حيث حدقنا في البلدة التي عاشت عائلته فيها مئات السنين. كانت التلال تبدو جميلة في ضوء الشمس الذهبي عصر ذلك اليوم. يمكنك رؤية الينبوع القديم جداً مع القوس الحجري فوقه والمسجد الذي بناه أحد الأسلاف قبل 240 سنة. وقفت علياء جانبي في التراس تنظر للبلدة بتعبير منتشٍ وفخور. سألتها كيف تشعر عندما تعرف أن مجموعات حقوق الإنسان الغربية وثّقت فظاعات ارتكبها النظام السوري، وبعضها ربما قام بها أناس مثل الذين تحدثنا معهم الآن؟ نظرت علياء للأسفل بسرعة وقالت: «نعم كان هناك فظاعات ولا يمكنك أبداً نفي حدوثها، ولكن عليك سؤال نفسك: ماذا سيحدث إذا سقط بشار؟ لذلك أنا أؤمن بأن النصر هو الخيار الوحيد. إذا سقط بشار ستسقط سوريا، وحينها سنصبح كلنا هنا نرتدي النقاب، أو نموت».

قبل أن ننزل ثانيةً عائدين، أراني عمّ علياء منصباً ثلاثيّ القوائم أبيض صدئاً، موضوعاً على السطح في المنتصف وتظلّله خيمة مفتوحة الجوانب، وقال: «إنه من أجل التلسكوب للنظر إلى النجوم». نظر عالياً إلى السماء الخالية من الغيوم ذلك المساء، ثم نظر إلى أسفل الجبال حيث تفسح التلال المكان للسهل السوري الفسيح ثم قال: «ولكن يمكننا استخدامه لوضع بندقية قنّاص والدفاع عن أنفسنا هنا».

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.