الشرق الاوسط اللندنية
أستبعد أن تكون المنطقة العربية قد شهدت نماذج لـ«الدولة الفاشلة» كالنماذج التي نشاهدها هذه الأيام.
العراق «الرسمي» – ممثلا برئيس الحكومة نوري المالكي – يلاحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي ووزير المالية رافع العيساوي، ويهدّد بطرد الوزراء الأكراد، ومع ذلك يصرّ على التصرّف كما لو أن الأمور «تمام التمام»، ولا تؤثر في شرعية السلطة سوى بضعة تفجيرات هنا وهناك تحصد العشرات أسبوعيا، ولا تزكّي حضورها عند الحاجة سوى وجبات من أحكام الإعدام.
وعبر الحدود في سوريا، يصعب على المرء، وسط أنهار الدم وصورة الدمار، أن يطمئن إلى كلام وزير الإعلام عمران الزعبي حول مستقبل العروبة والوحدة الوطنية وحتمية النصر المؤزّر على الصهيونية، طبعا، تحت قيادة السيد الرئيس بشار الأسد.
ومع متابعة السير غربا، نرى لبنان الذي تدير شؤونه اليوم «حكومة تصريف الأعمال»، وينتظر حكومة جديدة بديلة يصرّ فريق من اللبنانيين على وجوب أن تكون «سياسية تمثّل الجميع»، بينما يدعو آخرون لأن تكون حكومة متواضعة الأهداف ينحصر دورها في إجراء انتخابات نيابية درءا لفراغ دستوري يقرّب البلاد من حضيض «الدول الفاشلة»…
ولا تقتصر الكارثة على الدول الثلاث المذكورة، إذا ما تذكّرنا حال بعض ما تمرّ فيه بعض دول «الربيع العربي» من مشاكل، ناهيك من حال فلسطين بأجزائها المحتلة رسميا وواقعيا.
هنا، في اعتقادي، نحن أمام مشكلتين: المشكلة الأولى، انعدام الظروف الموضوعية المساعدة على نشوء مفهوم «الدولة». فأي من الكيانات التي يمكن أن ندعوها بـ«المشرقية» لتمييزها عن كيانات المغرب العربي، لم يوفّق منذ عقد الأربعينات من القرن الماضي إلى بناء «دولة» بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل كان ما عشناه مجرّد توافقات فوقية لنخب متنوّعة تلاقت مصالحها الآنية قبل أن تهزّها التحدّيات الإقليمية مثل تأسيس إسرائيل، والمشاريع الدولية كأحلاف الحرب الباردة. وبالتالي، خرج «العسكر» من الثكنات في سوريا والعراق لكنهم طبعوا المرحلة بطابعهم الإلغائي، وضبط التدخّل الخارجي الوضع اللبناني بشيء من الصعوبة حتى 1975.
أما المشكلة الثانية، المتّصلة بالأولى، فتتعلّق بالمجتمع نفسه في هذه الكيانات، حيث ظلّت روح المواطنية ضعيفة، وفي غالبية الحالات مغيّبة. وبعد فترة «انفتاح» إبّان العقود الثلاثة الأخيرة من «الحرب الباردة» شهدت رواج الطموحات القومية ومقولات الصراع الطبقي، وحدثت عودة إلى ولاءات الماضي. وبفعل تشويه الطرح القومي وتحويل مساره لخدمة الطائفة ثم العائلة، وكنتيجة مفهومة لانهيار الاتحاد السوفياتي كمثال سياسي لقوى اليسار، كان طبيعيا الانكفاء إما داخل كنف الإثنية والقبلية والطائفية، أو انتهاج البديل الديني مرحليا … كما حصل حتى في بعض دول الكتلة السوفياتية سابقا.
واليوم، بعد «الربيع العربي» وتداعياته، ومع الأخذ في الاعتبار ثقل الحضور الإقليمي للقوى غير العربية في المنطقة، نجد أن ما تعيشه الكيانات «المشرقية» بات يهدّد جدّيا بتفتيتها، وهو نتيجة منطقية لفشل الدولة. وكنموذج صارخ لهذا الفشل لنتوقف عند مخاض تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة أمام خلفية نية لبنان «الرسمي» رفع قضية «الانتهاكات» السورية في أقصى شمال شرقي البلاد إلى جامعة الدول العربية.
الحاج محمد رعد، رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الله، قال في خطاب له خلال الأسبوع الماضي إن «مصلحة البلد تقتضي إعادة اللحمة والاستفادة من أخطاء الماضي وتشكيل حكومة، لا نقول حكومة وحدة وطنية لأن البعض يستنفر ويستفز عندما نقول حكومة وحدة وطنية بسرعة ويذهب ذهنه إلى الثلث الضامن لحكومة الوحدة الوطنية». وتابع: «نحن نصرّ على حكومة الشراكة الوطنية ونصرّ على الحكومة التي تتمثل فيها كل الأطراف بأوزانها وأحجامها وهو حقٌّ لهم، ونصرّ على إدارة شؤون البلاد من موقع رؤيتنا المتكاملة التي ينبغي أن تصب في المصلحة الوطنية التي دعا لها الرئيس المكلّف والمصلحة الوطنية لا يقررها طرف بذاته المصلحة الوطنية يقرّرها الأطراف».
لم يحدّد النائب رعد هويّة مرتكب «أخطاء الماضي»، ولم يقل إذا كانت تلك الأخطاء تشمل الانقلاب الذي نفّذه «الحزب» على «اتفاق الدوحة». ولم يحدّد معنى «الشراكة الوطنية»، ولا سيما إذا كان الطرف الذي يطالبه بقبول الشراكة مرميا بشتى التهم منها الخيانة وطعن المقاومة في الظهر. ثم إن تمثيل الأطراف «بأوزانها وأحجامها» – كما يريد النائب رعد – كلام يستحق التوقف عنده، لأنه من الأهمية بمكان التذكير بأن ثمة أحجاما تضخّمت بفعل احتكار السلاح، وأن أحجام لاعبين آخرين ضخّمتها رافعات الآخرين المستقوين بالسلاح.
وأخيرا، تحتاج عبارات من نوعية «الرؤية المتكاملة» و«المصلحة الوطنية» هي الأخرى إلى تذكر بضع حقائق. ومن هذه الحقائق أن «الرؤية المتكاملة» تربط واقع لبنان الداخلي بالوضعين الإقليمي والدولي، وأن لحزب الله مرجعيته المعروفة، وربما كان «الواجب الجهادي» الذي يدفع «الحزب» إلى القتال في سوريا جزءا من تعليمات هذه المرجعية.
ثم هناك إثارة قضية «الانتهاكات» السورية الحدودية في ضوء قصف «الجيش السوري الحر» على بعض قرى منطقة الهرمل (أقصى شمال لبنان).
دفاع السلطات اللبنانية عن سيادة الأراضي اللبنانية مسألة ضرورية ومحسومة، لكن الغريب أن تلك الانتهاكات لم تستدع الشكوى إلى جامعة الدول العربية عندما استهدفت قوات جيش النظام السوري في قصفها مناطق في عكار (أقصى شمال لبنان) وعرسال وجوارها (في الشمال الشرقي).
دول فاشلة؟… نعم – مع الأسف – فاشلة جدا.