البرفسور فاروق مواسي، صديقنا أبو السيد يعني، لا يكلّ ولا يملّ. أقع أحيانا على مقالة له مصادفة، وأنا أتنقّل على غير هدى في الإنترنت، بلا قصد ودونما مرشد، فأقرؤها معجبا سائلا: من أين لصديقنا هذا الوقت وهذا الجلد. صرت أخاف عليه من الكتب تقع عليه فتؤذيه، كما حدث لسابقيه!
على هذا النحو، وصلت دونما قصد مسبق إلى مقالة له، عنوانها: “مع ليل امرئ القيس في معلّقته”. مقالة قصيرة نسبيّا، يمكن أن يفيد منها كلّ معلّم أو تلميذ يتناولان وصف الليل في الشعر الكلاسيكي.
الصديق فاروق يحيل في مقالته تلك إلى كثير من المراجع ذات الصلة بوصف الليل، في شعرنا الكلاسيكي طبعا، ولا ضرورة أو حاجة إلى ذكرها في مقالنا هذا. لكنْ لي ملاحظتان، أثارتهما فيّ المقالة المذكورة، وجدتني أسارع إلى تسجيلهما هنا، بعد انتهائي من القراءة:
الملاحظة الأولى أنّ الشعراء الكلاسيكيّين يعمدون عادة إلى تشبيهات، أو موتيفات، معروفة في شعر سابقيهم، ويكون فضلهم في القالب، أو الصياغة التي يصبّون فيها الموتيف لا أكثر. ألم يعترضوا على الشاعر أبي تمّام إذ جاء بما “لم تقلْه العرب”؟ وصف الليل وطوله أيضا يتكرّر في شعر كثيرين غير امرئ القيس، وإن كان هذا من أقدمهم. ومن يدري، لعلّ شعراء أقدم منه سبقوه إلى هذا الموتيف لكن لم تصلنا أشعارهم.
الملاحظة الثانية تتّصل بأبيات امرئ القيس ذاتها في وصف الليل. كتُب كثيرة تورد الأبيات، كما ذكرها بروفسور مواسي، على هذا النحو:
1) وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله / عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
2) فقلتُ له لمّا تمطّى بصلبه / وأردف أعجازا وناء بكلكلِ
3) ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي / بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ
4) فيا لكّ من ليلٍ كأنّ نجومه/ بكلّ مُغار الفتلِ شُدّتْ بيذبلِ
5) كأنّ الثريّا عُلّقتْ من مصامها / بأمراس كتّانٍ إلى صمّ جندلِ
إلّا أنّ بعض المصادر تجعل هذه الأبيات، من معلّقة امرئ القيس، أربعة لا خمسة. وذلك بإدماج البيتين الرابع والخامس في بيت واحد: فيا لك من ليل كأنّ نجومه / بأمراس كتّان إلى صمّ جندلِ. هذا ما نجده كثيرا في اختلاف الروايات عند تحقيق المخطوطات القديمة.
وكنت دائما إذ نقرأ هذه الأبيات من المعلّقة، أسأل التلاميذ: أيّ الروايتين في رأيكم هي الأصليّة ولماذا؟ وأسجّل هنا أنّ طالبة وحيدة في الصفّ التاسع، خلال السنوات الطويلة، شفتْ غليلي، فأجابتْ إجابة كافية شافية.
ذكرت التلميذة النجيبة تلك أنّ رواية الأبيات الأربعة بالذات هي الرواية الموثوقة أو الأصليّة، وشرحتْ رأيها بالتفصيل، دونما معرفة بقواعد تحقيق المخطوطات طبعا:
ذكرت الطالبة الذكيّة تلك أنّ التشبيه نفسه في وصف ثبات النجم في موضعه لا يتحرّك، كناية عن طول الليل، كأنّما هو مربوط إلى جبل يذبل أو إلى صخرة ثقيلة، يرد في البيتين المتتاليين. وهذا لا يمكن وقوعه في قصيدة شاعر مجيد. لا نتوقّع ذلك من شاعر كبير كامرئ القيس!
أضافت أيضا أنّ البيت الأصلي – فيا لك من ليل كأنّ نجومه / بأمراس كتّان إلى صمّ جندلِ- فيه طبعا إشكال نحوي. كأنّما هناك كلمة محذوفة هي متعلّق الباء في كلمة “بأمراس”. وهذا ما دعا النسّاخ إلى إضافة هذا البيت على المعلقة. لا يمكن طبعا أن يكون الشاعر كتب الروايتين. أصعب الروايتين عادة تكون هي الرواية الأصليّة!
بهرتني التلميذة المذكورة يومها. وفّرتْ عليّ ما دأبت على شرحه للتلاميذ كلّما عرضنا لهذه الأبيات. عجبت أن تتوصّل تلميذة في الصفّ التاسع إلى قواعد تحقيق المخطوطات، وإن كانتْ طبعا لم تشرح ذلك بكلماتنا نحن هنا.
على هذا النحو، تعلّم تلاميذ الصفّ يومها، بمساعدة هذه التلميذة النجيبة، وشرحي المستفيض بعدئذ، إحدى قواعد تحقيق المخطوطات. طبعا دونما مصطلحات!
فهل يتّسع مقال صديقنا، بروفسور مواسي، لإضافة هذه الملاحظة في هوامشه؟
jubrans3@gmail.com