تبادل الأفكار وتوالدها

يقول آرنولد توينبي: استسلم الشرق في القرن التاسع عشر إلى التكنولوجيا الصناعية ولم يستسلم للتكنولوجيا الاجتماعية, وبصراحة السبب هو عدم قبول الشرق لعملية تبادل الأفكار كما سيأتي بعد قليل.

تبادل الأفكار أهم من تبادل المنتجات الزراعية والصناعات المعدنية والإلكترونية, تبادل الأفكار يؤدي إلى توالد أفكار جديدة , وفي كل عملية تبادل يؤدي إلى زيادة في الأفكار وليس إلى النقصان, فالفكرة التي تعطيها لإنسان آخر لا تؤدي إلى ذهابها من عقلك نهائيا, إن العقل يبقى محتفظا بأفكاره كلها…والشعوب العربية تفتقر إلى السلام بين الجماعات والأفراد لأنها في الأصل لا تحب مشاركة الآخرين في أفكارهم ومعتقداتهم وطريقة حياتهم فهي لديها في مجمل الوقت فكرة واحدة لا تحب تسويقها ولا تحب أن تتبادل فيها مع غيرها من الشعوب الأخرى, وحتى نؤسس لعملية السلام في الدول العربية يجب علينا أن نقوم بتدريب الناس على تبادل الأفكار مع الآخرين, فأنت لديك فكرة وأنا لدي فكرة فتعال وهلم بنا لنتبادل أنا وأنت في الأفكار, عندها سنتطور أكثر وسنتبادل أيضا في المشاعر والأحاسيس , وسنقترب من بعضنا أكثر, نحن بعيدون جدا عن هذا العالم القريب منا أصلا, لأننا لا نبادله في أفكارنا ومعاشنا ومشاعرنا وأحاسيسنا , نحن نعيش في خوف دائم لأننا لا نملك أفكارا جديدة نطور فيها أنفسنا وطريقة حياتنا.

مرة من ذات المرات سألت رجلا قديما في السوق كم مضى عليك في هذه الدكان التي تديرها مع أولادك؟,قال : أربعون عاما, فسألته عن الرجل الذي يلبس ملابس رثةً متسخة جدا جدا جدا ويمشي حافيا وشعر رأسه مثل الغوريلا أو الغربال, فقال: إيه يا ولدي!!!من قبل أن أفتح الدكان, قلت:وما السبب في سلوكه؟ : قال: سمعت من أقاربه بأنه كان ذكيا جدا والذي أذهب عقله عدم قبول الناس لفكرته, فقلت متطفلا : وما هي فكرته؟ قال: أنت مثلا لديك دجاجة أو أرنبا ورجل آخر لديه مثل ما لديك, فإن أحببت أن تتبادل معه في الأرنب أو الدجاجة فلن يقدم الموضوع شيئا ولن يؤخره, يعني سيصبح لديك دجاجة واحدة أو أرنبا واحدا, وعملية التبادل لن يستفيد منها أحد, فقلت له: أمممم هو يقصد فكرة (برناردشو), فسألني الرجل المُسن عن برناردشو,فقلت له: هو صاحب مصنع للأفكار في لندن,وابتسمت ابتسامة خفيفة.

المسكين يبدو أنه كانت لديه أو في رأسه فكرة عن تبادل الأفكار والخبرات الثقافية والعلمية,ولأن الناس لم تستمع له جن جنونه أو أنهم اتهموه بالجنون وأسقطوه وهو أيضا زاد من عملية سقوطه.. ولكن هل نحن العرب المسلمون لدينا فكرة عن هذا الموضوع؟ هل نرغب حقيقة في تبادل الخبرات والثقافات بين الأفراد والجماعات والدول؟ وكم لدينا من الأفكار المستوردة؟ هنا كل فكرةٍ أجنبية محترمة يقولون عنها بأنها أفكار مستوردة, ويقصدون الذم بكلمة مستوردة وليس المديح,الناس هنا لا ينظرون إلى فكرة تبادل المعلومات والأفكار إنهم يتحسسونها بأصابع يديهم وكأنها سلك كهربائي عاري يصيب كل من يلمسه بصعقة, وفكرة برناردشو تقول:

لو كان عند كل واحدٍ منا تفاحة وتبادلنا في التفاحتين مع بعضنا فسيكون عند كل واحدٍ منا تفاحة واحدة,وهذا واضح ومفهوم,ولكن لو كان عند كل واحدٍ منا فكرة واحدة وتبادلنا الأفكار كأن أعطيك أنا فكرتي وتعطيني أنت فكرتك, فسيكون عند كل واحدٍ منا فكرتان,انتهت مقولة برناردشو, والآن جاء دور رغبتنا نحن بأن نستورد من الشعوب الأخرى أفكارهم عن الدين والحياة والمعتقدات, يجب أن نتبادل مع المسيحيين في نظرتهم إلى الله, كيف ينظرون إلى الله؟ كيف يتصورونه؟ كيف يتعاملون معه, أين هي حدوده الجغرافية؟ومع من يتكلم ومن هو الذي يقبله في ملكوته, لا يمكن أن يقنعني بعض الناس بأن فكرة المسلمين عن الله هي نفس فكرة المسلمين,لا الطريقة مختلفة جدا والنظرة مختلفة والتشريع مختلف, والدليل على ذلك طريقة الحياة والنظرة للمرأة والنظرة للفرد, والمسيحية تطورت وتبادلن في الأفكار مع المصلحين الاجتماعيين ومع الفلاسفة والمنظرين لعلم الاجتماع , وكيف نتقرب نحن إلى الله؟وكيف يتقربون هم منه؟ فكرتان من الممكن لنا أن نصنع بهما أشياء كثيرة, وتخيل معي لو كان أيضا عند كل واحدٍ منا سيارة وتبادلنا السيارتان كأن تعطيني سيارتك وأعطيك سيارتي فسيصبح عند كل واحدٍ منا سيارة واحدة وليس سيارتان, وسيصبح عند كل واحد منا بيتا واحدا وليس بيتان إذا ما تبادلنا بالبيت, لكن لو كان عند كل واحدٍ منا فكرة أو فكرتان أو عشر أفكار, وتبادلنا بالأفكار فسيصبح لدينا عدة أفكار مطروحة على ساحة العمل الثقافي والفكري.

هذا الفعل يدهشنا على الصعيد الفكري الفردي ويلملم جراحاتنا , ولكن على المستوى الجماعي ستكون ردة الفعل كبيرة جدا, وسنتعلم على كيفية تبادل الأفكار وأيضا المشاعر والأحاسيس, فبتبادل الأفكار نتعلم على طريقة لذيذة في حب التشارك مع الآخرين في حياتهم الفكرية, ونتعلم على كيفية تشبيك العلاقات الفكرية والعقائدية مع بعضنا البعض, نتبادل في الأفكار بين الشرق والغرب والشمال والجنوب, وبين الشخص والشخص والمرأة والرجل والطفل والعجوز, لتسأل نفسك:كم مرة تبادلت فيها بالأفكار مع غيرك من الناس؟ ومتى كانت آخر مرة تبادلت فيها الأفكار مع غيرك؟ وكم لديك الآن من الأفكار الجاهزة؟ وهل أضفت خبرات غيرك من المفكرين إلى خبراتك؟ لماذا أنت تكره أفكار الآخرين ولا تعيرها انتباهك بالمرة, جرب أن تتبادل معي في الأفكار لنقترب مع بعضنا ولتزداد الأفكار في عقولنا وقلوبنا,ما هي آخر فكرةٍ أخذها غيرك منك؟ومتى أثرت في حياة الآخرين؟وما هو الشيء الجديد الذي أضفته إلى الآخرين؟هل استفاد منك أحد؟وهل استفدت أنت من أفكار الآخرين؟متى وأين وكيف تم ذلك؟,كيف تستجيب لأفكار الآخرين وكيف يستجيبون هم لك؟كم فكرة الآن لديك؟

About جهاد علاونة

جهاد علاونه ,كاتب أردني
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.