تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي- الحلقة الثانية
رياض الحبيّب
تناولت في الحلقة الأولى من هذا البحث موضوع الفواصل بين الآيات القرآنية، نقلاً عن كتاب الشخصيّة المحمّدية- الذي ألّفه الأديب العراقي الراحل معروف الرصافي في مدينة الفلّوجة العراقية سنة 1933. حيث رآى ((إنّ قوام أسلوب القرآن مبنيّ على جمل تنتهي بفواصل والفاصلة نوعان؛ أمّا الأوّل فكلمة واحدة تنتهي بها الآية، ويكون الكلام في الآية مبنيّاً عليها وتكون هي ممتزجة به. وأمّا الثاني فجملة تجيء في آخر الآية فتفصلها عمّا بعدها فصلاً تامّاً في اللفظ والمعنى، أو فصلاً في اللفظ فقط وتبقى الآية مرتبطة في المعنى بما بعدها. وأردف: والظاهر أنّ المقصود من تقسيم الآيات إلى سور متعددة هو تسهيل قراءتها وحفظها على القرّاء والحُفّاظ ليس إلّا)) انتهى.
وقد تناول الرصافي في الصفحات التالية من هذا العرض موضوع الفروق ما بين الفواصل {بين الآيات} والقوافي {التي في الشعر العمودي المعروف قديماً بالتزام الوزن (أي التفعيلة) والقافية حتى يومنا هذا- أي حتى تغيّر مفهوم الشعر في العصر الحديث فتحرّر بعضه من الوزن والقافية معاً} فلا أظن أنّ قارئاً ناطقاً بالعربية يجهل الشعر الموزون والمُقفّى، كالشعر الذي كتبَ اٌمرؤ القيس والنابغة الذبياني والمعرّي والمتنبي ومعروف الرصافي. وللكاتب قصيدة عمودية- في الحوار المتمدن- يعارض بها قصيدة “البُردة” للشاعر كعْب بن زهير، عبر الرابط:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=167717
ويعلم الشعراء- خصوصاً- معنى الضرورة الشعريّة التي في القصيدة العموديّة، منها ما يتعلّق بقواعد اللغة ومنها ما يتعلّق بالقافية، لكنّي ألفت الإنتباه إلى أنّ الضرورة الشعريّة- أيّاً كان مقتضاها- تنآى بحالها عن الوقوع في غلطة ما من جهة اللغة (إملاءاً ونحواً) ومن جهة العروض (أي أوزان الشعر) ومن جهة القافية بما فيها من حرف الرّويّ- وهو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة فتنسب إليه، إذ يُقال قصيدة رائيّة أو لاميّة أو ميميّة. فلا يجوز رفع منصوب ولا نصب مرفوع بحجّة الضرورة الشعريّة! علماً أن من أنواع الضرورة الشعريّة ما هو مقبول لا يؤاخذ الشاعر عليه ومنه ما هو قبيح ومبتذل(*) وسأضرب مثالاً على النوع المقبول؛
قال الشاعر الجاهلي أميّة بن أبي الصّلت مخففاً الهمزة- التي في البارئ- لكي يستقيم الوزن الشعري:
هو الله {باري} الخَلْق والخلق كلّهمْ… إماءٌ له طوعاً جميعاً وأعبُدُ
أنتقل بعد هذا التقديم الموجز إلى الصفحة المرقمة 561 من كتاب الرصافي مباشرة، متجاوزاً توضيح الرصافي للفروق ما بين الفواصل (القرآنية) والقوافي (الشعريّة) ففي هذه الصفحة يبدأ كلام الرصافي تحت عنوان مثير “مراعاة الفواصل” ورد فيه:
((إنّ أسلوب القرآن قد أطلقتْ فيه الفواصل من القيود التي كانوا يتقيّدون بها في الكلام، فاتسع بذلك فيه المجال لصوغ الكلام على مناحيَ شتى، ولكنّ إطلاق هذه القيود لم ينتج لها السلامة من كلّ عيب، ذلك أنّ محمّداً كان يراعي الفواصل كلّ المراعاة ويعتني بها كلّ الإعتناء، لأنها هي الطابع الذي يمتاز بها أسلوبه. والإنسان إذا عُنيَ بأمر فرُبّما شغلته العناية به عن مراعاة غيره من الأمور التي تلزم مراعاتها أيضاً، ولا يُنكَر أنّ عنايته بالفواصل قد جاءت بكثير من المحاسن، ولكنها مع ذلك لم تخل أحياناً ممّا يُعاب.
[تعليقي: أرى من الحكمة ترك التعليق على ما تقدّم “أنّ محمّداً كان يراعي الفواصل كلّ المراعاة ويعتني بها كلّ الإعتناء” للقارئة اللبيبة والقارئ اللبيب، علماً أنّ الرصافي لم يتكلّم عبثاً إنما جاء بحجج دامغة وهي بيت القصيد في هذه الحلقة من البحث]
وها نحن- والكلام للرصافي- نذكر لك بعض ما وقع في سبيل مراعاة الفواصل من التقديم والتأخير،
كقوله- في سورة سبأ: 40 (أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون) والأصل فيه: أهؤلاء كانوا يعبدونكم، فقدّم المعمول على عامله!
وقوله- في سورة القمر: 41 (لقد جاء آل عمران النذر) فقدّم المفعول وأخّر الفاعل مراعاة للفاصلة!
وقوله- في سورة النجم: 25 (فلله الآخرة والأولى) فقدّم ما هو متأخر في الزمان، ولولا مراعاة الفاصلة لقدِّمتِ الأولى كما قدّمت في قوله الذي في سورة القصص: 70 (له الحمد في الأولى والآخرة)
وقوله في سورة طه: 70 (قالوا آمنا برب هارون وموسى) فقدّم الفاضل على الأفضل مراعاة للفاصلة، كما أخّر هرون في سورة الصافات: 114 مراعاة للفاصلة أيضاً إذ قال (ولقد مننا على موسى وهارون)
وقوله- في سورة طه: 67 (فأوجس في نفسه خيفة موسى) فقدّم الضمير [الهاء] على ما يفسّره مراعاة للفاصلة،
وقوله- في سورة الإسراء: 13 (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) فقدّم الصفة التي هي جملة على الصفة المُفردة مراعاة للفاصلة، والأصل فيه {كتاباً منشوراً يلقاه} ويجوز أن نعرب {منشوراً} حالاً من ضمير المفعول في {يلقاه} وحينئذ لا يكون في الآية تقديم وتأخير.
[تعليقي: إنّ التقديم والتأخير وارد كثيراً في كلام العرب- ولا سيّما الشعر الجاهلي- فهل يحتاج الله (العليم والخبير) إلى التقديم والتأخير؟ فما الجديد إذاً وما الإعجاز إمّا كان الخالق والمخلوق متشابهَين بطريقة التفكير؟ وبما أني من المهتمّين بالشعر الجاهلي فسأورد مثالين من أصحاب المعلّقات العشر؛
قال الحارث بن حلّزة اليَشْكري:
واٌعلَموا أَنَّنا وَإِيّاكُم في*** ما اٌشترَطْنا يَومَ اٌختلَفنا سَواءُ
فغاية القول في هذا البيت: واٌعلَموا أَنَّنا وَإِيّاكُم سَواء في ما اشترطنا… إلخ
وواضح أنّ {سواء} وقعتْ في محلّ رفع خبراً ل{أنّ} مؤخّراً
ولعلّ أكثر الأبيات ما استحق منّي الإنتباه في موضوع التأخير هو قول الأعشى:
يَكادُ يَصرَعُها لَوْلا تَشَدّدُهَا*** إذا تقومُ إلى جَاراتِهَا الكَسَلُ
وقد قام الأعشى بتأخير {الكسل} وهو اسم {يكاد}- إذ كاد: من أفعال المقارَبَة- على جملة الخبر الفعليّة {يَصرَعُها} التي تقدّمته مراعاة للقافية {التي تقابل الفاصلة قرآنيّاً} علماً أنّ الأمثلة التي في حوزتي كثيرة ولا يمكن إحصاؤها]
الحذف مراعاة للفاصلة
أورد الرصافي في الصفحة المرقمة 562 من كتابه المذكور أمثلة عدّة:
قوله في سورة القمر: 18 (فكيف كان عذابي ونذر) والأصل فيه {ونذري}
وفي سورة غافر: 5 (فكيف كان عقاب) والأصل فيه {عقابي}
فحذف ياء الإضافة مراعاة للفاصلة!
وقوله في سورة الرعد: 9 (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) وفي سورة غافر: 32 (إني أخاف عليكم يوم التناد) فحذف ياء المنقوص المعرّف وهي لا تحذف إلّا في المنكر في حالتين وهما الرفع والجرّ، ولكنّه حذفها مراعاة للفاصلة! وذلك جائز كما وقع منهم في القوافي المقيّدة.
وقوله في سورة الفجر: 3-4 (والشفع والوتر* والليل إذا يسر) فحذف الياء من فعل غير مجزوم مراعاة للفاصلة!
وقوله في سورة الضحى: 3 (ما ودّعك ربّك وما قلى) أي {وما قلاك} فحذفَ الضمير [الكاف] مراعاة للفاصلة!
وقوله في سورة طه: 7 (يعلم السرّ وأخفى) أي وأخفى منه فحذف متعلّق أفعَل التفضيل وما ذلك إلّا مراعاة للفاصلة!
زيادة ما هو غير لازم
قوله في سورة الأحزاب: 10 (وتظنون بالله الظنونا) وقوله فيها أيضاً- الآية 66 (وأطعنا الرسولا) وقوله فيها أيضاً – الآية 67 (فأضلونا السبيلا) فقد زاد الألف كألف الإطلاق التي تزاد في قوافي الشعر إطلاقاً للصوت- كقول المتنبي:
فمرّت غير نافرة عليهمْ*** تدوسُ بنا الجماجمَ والتريبا
ولو كانت هذه الفواصل نكرات لكان الوقف عليها بالألف، ولكنها معرفة فالألف فيها زائدة كألف الإطلاق في الشعْر.
صرف ما لا ينصرف
وهو من الضرورات الشعريّة الشائعة [التي أشرتُ إليها أعلى] كقوله في سورة الإنسان: 15-16 (كانت قواريراً* قواريراً من فضّة قدّروها تقديراً) وقد جاء في إحدى القراءات قواريرَ قواريرَ بلا تنوين في الإثنتين [أي وردتا ممنوعتين من الصّرف] وعلى هذه القراءة لا تكون قوارير الأولى فاصلة لعدم مشابهتها للفواصل التي قبلها وبعدها فلا تعَدّ آية، بل هي جزء من الآية التي تنتهي بقوله قدّروها تقديرا. [يستكمل الرصافي حديثه في الصفحة 563] وجاء في قراءة أخرى تنوين الأولى وعدم تنوين الثانية، فعلى هذه القراءة تكون قواريراً الأولى المنوّنة فاصلة، وإنما نُوِّنتْ وهي ممنوعة من الصّرْف مراعاة للفاصلة، فتعدّ حينئذ آية، وما بعدها آية أخرى. وهناك قراءة ثالثة هي تنوين الإثنتين، فتكون الأولى نونتْ للفاصلة والثانية نونت للإتباع. قال الزمخشري في الكشاف والسيوطي في الإتقان ج2 ص 100- في تفسير الآيتين 15-16 من سورة الإنسان: هذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنّه فاصلة!
[تعليقي: ورُبّ سائل يسأل بهذه المناسبة: أيّ القراءات المذكورة مكتوب في اللوح المحفوظ؟ أفما يكون السؤال (أو التساؤل) من حقّ السّائل إمّا سأل السؤال المنطقي التالي: ألا يلبّي إختلافُ القراءات الشرطَ المذكور في سورة النساء: 82 (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا) وها هي ذي اختلافات- لا تُحصى- في محاور عدّة كاللغة والتاريخ والجغرافية والعلم- فما هي النتيجة التي تقتضي الإعتراف بها؟
ومن جهة أخرى: منْ يصدّق- بعد ما تقدّم من اختلافات- بأنّ الله أحْكمَ آياته؟ إذ قرأت في الآية الأولى من سورة هود (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيم خبير) فأين الإحكام بعد اختلاف القراءات- والمصاحف أيضاً- وما الحكمة من وجود الإختلاف، بل أين ضاعتْ حكمة إله الإسلام وخبرته؟
وما هذا الغموض الذي اكتنف الحروف المقطّعة التي في مطالع بعض السّوَر القرآنية، مما جعل المفسّرين يختلفون منهم العلماء ومنهم الفقهاء، فما بالنا نحن الناس البسطاء؟
فلا أظنّ تالياً بأن الإله في حاجة إلى الغموض- أيّاً كان شكله ونوعه- لو كان إلهاً حقّاً؟]
وللحديث بقيّة
_______________________________________________________
(*) من الممكن مراجعة كتيّب “ميزان الذهب في صناعة شعر العرب” حول الضرورة الشعرية وعلم العروض وعلم القوافي
لمؤلفه السيّد أحمد الهاشمي، دار الكتب العلميّة في بيروت- لبنان