الكتاب الذي بين يدي يحمل عنوان : بعد السويس : ثرثره في العهد الأمريكي . ويتألف من 166 صفحه من قطع كبير المتوسط . مطبعه آي بي توريس , 2006 . الكتاب من تأليف ( مارتن ولاكوت ) المراسل الخارجي والمحرر في الشؤون الخارجيه والمعلق في الشؤون الدوليه لصحيفة الغارديان البريطانيه , عمل مراسلاً في حرب فيتنام , حرب بنغلاديش , أثناء فترة الطواريء في الهند , في ايران أثناء عملية حلف الناتو التي أسقطت شاه ايران , أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان , وفي شمال العراق مع التمرد الكردي . وهو متقاعد الآن لكنه يزود الغارديان بين فترة وأخرى بموضوع للنشر .
في كتابه هذا الذي كتبه بعد إحتلال العراق 2003 ونشره في العام 2006 ينظر مارتن ولاكوت الى حماقة السياسة البريطانية الخارجيه , وهي تندفع مع توجه الطمع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط لتحقيق بعض المأرب أو المكاسب على حساب الشعوب , غير أنه يذكر السياسيين البريطانيين بأنهم بعد خسارتهم مواقعهم في مصر , وبعد حرب السويس التي كانت نقطة مفصليه قلبت البساط تحت أقدام التواجد البريطاني في الشرق الأوسط بأجمعه , فإن على بريطانيا أن تكون أكثر رصانة في تخطيط سياستها الخارجيه .
تم إفتتاح قناة السويس عام 1869 بعد عشر سنوات من العمل الشاق بين خبراء ومهندسين فرنسيين وعمال سخرة مصريين مات أغلبهم إثناء عمليات الحفر , وكان ذلك من خلال الشركه العالميه لقناة السويس البحريه . حفر قناة السويس غيّر موازين المواصلات العالميه التي تربط بين الشرق والغرب ولهذا أصبحت هذه القناة مطمعاً لكل الدول القوية في العالم .
بسبب الديون والأزمات الإقتصاديه تم إجبار الحاكم المصري عام 1875 على بيع أسهم مصر في شركة قناة السويس الى الحكومة البريطانيه . تمكن البريطانيون من شراء 44% من أسهم الشركه بما يقل عن 4 مليون باون إسترليني بينما بقيت الأسهم الأخرى بيد الفرنسيين .
1882 غزت بريطانيا مصر ووضعتها بلداً وقناة تحت يدها . 1888 أعلنت إتفاقية القسطنطينيه القناة نطاقاً دولياً تحت الحماية البريطانيه , حيث صادقت الدولة العثمانيه على حرية عبور القناة لجميع الدول وقت الحرب أو السلم .
ظهرت أهمية قناة السويس خلال الحرب اليابانيه الروسيه ( 1904- 1905 ) كما ظهرت مرة اخرى أثناء الحرب العالمية الأولى عندما قامت كل من بريطانيا وفرنسا بإغلاق القناة بوجه كل القوى غير الحليفه , مما أدى الى محاوله ألمانيه عثمانيه لإقتحام القناة في شباط 1915 مما برر للبريطانيين حماية القناة بقوه مكونه من 100 ألف جندي .
بنهاية الحرب العالمية الثانيه برهنت قناة السويس على أهميتها من جديد ولكن كمعبر لتصدير النفط , كما رآها البريطانيون البوابة التي من خلالها يتمكنون من الوصول الى درة التاج البريطاني وهي مستعمرتهم في الهند .
تمكن الأمريكيون بواسطة آل سعود والوهابيه من تأسيس بذرة الإخوان في أرض نجد والحجاز التي سيطلق عليها تسمية المملكه العربيه السعوديه , وحين إستكشف الأمريكان النفط في المملكه صدروا الإخوانية الى مصر من أجل أن تحارب نيابة عنهم الوجود البريطاني فيها وكان ذلك عام 1929 , وبعد ضرب الإخوان في المملكة السعوديه وإنهاء حركتهم تأسست شركة أرامكو عام 1933 .. لمزيد من الشرح أرجو العوده الى موضوعي المنشور على الموقع تحت عنوان ( دماء على أستار الكعبه ) .
وكانت الولايات المتحده الأمريكيه تطمح الى الحلول محل بريطانيا في السيطرة على مصر وقناة السويس . بريطانيا لم تكن غافله عن هذا التوجه ولذلك فكرت بإستعمال العرب للقتال نيابة عنها اذا وقع ما يتهدد أمن وجودها في المنطقه , ولذلك قام البريطانيون بتأسيس الجامعة العربيه عام 1945 . للمزيد من التفاصيل حول الدور البريطاني في تأسيس الجامعة العربيه أرجو العوده الى موضوعي المنشور على الموقع تحت عنوان ( تيران وصنافير ) .
سقوط باريس تحت الإحتلال الألماني أثناء الحرب العالمية الثانيه جعلها تستنجد بكل الحلفاء من أجل تحريرها .. وهكذا بإنسحابها من مستعمرتيها في الشام وهما سوريا ولبنان عام 1944 دفعت ثمن قدوم الجيش الأمريكي وقتاله على الأرض الفرنسيه لتحرير باريس ومنذ ذلك التاريخ تحولت سوريا ولبنان الى جمهوريتين أمريكيتين .
بتواجد الأمريكان في الشام بدأوا يخططون للإستيلاء على فلسطين وهي التي تحتوي ميناءاً طبيعياً مهماً هو ميناء حيفا كما أنها تطل على البحر الأحمر من خلال خليج العقبه . وفي حين سمح وعد بلفور لليهود بأن يعيشوا في فلسطين على أنها ( وطن ) قومي لهم إلا أن بريطانيا لم تسمح لهم بتأسيس ( دوله ) لكنها كانت تخطط لتمنحهم تلك الدوله في ( أفريقيا البريطانيه ) أو في ( نيوزيلندا ) ومدينة أوكلاند التي أعيش فيها الآن بنيت كي تكون ( تل أبيب ) ولدينا الكنيست الذي بنته بريطانيا لهم وجلبت حجارته من جميع المدن الفلسطينيه حيث محفور هذا الكلام على الأحجار , وتستعمل حكومة نيوزيلندا هذا البناء الآن كمتحف وطني لنيوزيلندا .
أصر الأمريكان على أن تكون دولة اليهود في فلسطين , لأنهم من خلال هذه الفكره سيتمكنون من فرض سيطرتهم على التراب الفلسطيني , عندها قامت بريطانيا ومن خلال الجامعة العربيه بتهييج مشاعر العرب فوقعت حرب 1948 .
إثناء مباحثات الهدنه بين العرب والأمريكان الذين فرضوا ( الدوله ) العبريه على أرض فلسطين , تعرف ضابط المخابرات الأمريكي كيرمت روزفلت على عبد الناصر ومجموعته من الضباط , وكان كيرمت روزفلت قد قدم نفسه وقتها إليهم ك ( رئيس جمعية الصداقه الأمريكيه العربيه ) .
المهم , تمت قيادة هذه المجموعه من الضباط بواسطة جمعية الصداقة الأمريكيه , الى أن نجحوا بالقيام بإنقلاب عسكري أطاح بالحكومة الملكية بما يعرف بثورة يوليو 1952 .
يوم 19 أكتوبر 1954 وقّع عبد الناصر مع بريطانيا معاهدة إجلاء قواتها عن قناة السويس وجميع مصر على مدى عشرين شهراً من ذلك التوقيع .
كما حدث في المملكة العربية السعوديه حين حرم الملك عبد العزيز الجهاد على الإخوان مما دفعهم عام 1928 الى مطالبته بتفسير لماذا يحرم عليهم الجهاد ؟ قالوا له أنهم يخافون من الله أكثر من خوفهم من الملك , وأن الجهاد حد من حدود الله فلماذا يعطل عليهم هذا الحد ؟ لكن الملك أصر على السلام , وبطبيعة الحال كان الأخوان يرون الأمريكان وهم يقومون بالحفر في أنحاء بلادهم ويعرفون ما القادم , لذلك لم يقنعهم إصرار الملك على السلام عندها وقعت الحرب بينهم وبين الملك في آذار 1929 , أعقب ذلك إنهاء الإخوانيه في المملكة العربية السعوديه من أجل أن تتأسس شركة النفط العربيه الأمريكيه ( أرامكو ) .
بنفس هذه الطريقه وعبد الناصر يستعد لعقد تحالف قوي مع الأمريكان بعد خروج البريطانيين فإنه وبعد أسبوع واحد فقط من توقيعه معاهدة الجلاء مع بريطانيا وقعت ( حادثة المنشيه ) يوم 26 أكتوبر 1954 , تلك الحادثه التي بررت له أعتقال أعداد كبيرة من الإخوان المسلمين وإعدام عدد منهم وجعل تنظيماتهم محظوره , وبقي هذا الحظر حتى وفاته ومجيء السادات .
في آب 1956 نشر المعهد الملكي للشؤون الدوليه تقريراً بعنوان ( بريطانيا وقناة السويس ) ركز على الأهمية الستراتيجيه لقناة السويس وأن بريطانيا تلتزم بكلمتها في اتفاقاتها مع الأمريكان بموجب معاهدة مانيلا للشرق الأقصى , ومعاهدة بغداد , ومؤتمر طهران , وأعطت بريطانيا تعهدها أنه في حالة وقوع حروب في أوربا فإنها ستستعمل القناة لنقل الجنود الى اوربا من نيوزيلندا واستراليا , وأن بريطانيا ملتزمة بكلمتها اليوم أكثر من أي وقت مضى , وأنه وفقاً لمعاهدة الجلاء فإن قناة السويس ستبقى تحت الإدارة البريطانيه حتى 16 نوفمبر 1968 .
سحبت بريطانيا آخر جندي لها على أرض مصر يوم 13 حزيران 1956 , فقام عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس البحريه يوم 26 تموز 1956 مما اثار حفيظة بريطانيا وفرنسا واسرائيل حليفة فرنسا فتعاهدن بمعاهدة عسكرية سريه على توجيه ضربة عسكرية الى مصر رغم ممانعة آزنهاور الشديده لتلك الضربه .
وقعت الضربه العسكريه على قطاع غزه الذي كان قد ألحق بمصر بعد تقسيم فلسطين ومدينة السويس المصريه يوم 29 أكتوبر 1956 وإستمرت تسعة ايام منتهية في 7 نوفمبر 1956 بهزيمة مصر العسكريه حيث إحتلت اسرائيل سيناء حتى آذار 1957 . أما بريطانيا وفرنسا فقد أجبرتهما الولايات المتحده الأمريكيه على الإنسحاب القسري من مصر دون تعويض عن ممتلكاتهما في قناة السويس , لأن تلك الممتلكات أعتبرت تعويض لمصر عما لحق بها في أيام حرب السويس التسعه .
في ثرثرته هذه يتذكر مارتن ولاكوت أن خسارة بريطانيا لمواقعها في قناة السويس جعلتها تفقد بعد ذلك موقعها في خليج عدن , وبقية مناطق الشرق الأوسط , وعليه فإن من المحتم على السياسة البريطانيه أن تكون أكثر عقلانية في الإندفاع وراء نزواتها .
فمن دواعي السخريه أن يندفع البريطانيون أو سواهم مع الأمريكيين على أمل أن يحصلوا على بعض الجزاء , لأن كل ما يمكن أن يفعل الآن في الشرق الأوسط هو حث اسرائيل على فهم أن السلام أهم من الأرض . أما الولايات المتحدة الأمريكيه فعليها فهم أنها يجب أن تبقى متحفزة للفعل حين تتطلب المواقف , لكنها يجب أن تحتفظ بجهودها حين لا يكون هناك داع للجهد .
العباره التي يختم بها مارتن ويلاكوت كتابه ( بعد السويس : ثرثره في العهد الأمريكي ) تقول : مهما تكن النتائج النهائيه لغزو العراق فهي أقيام مضافه الى سجل المسؤوليات والديون التي على الولايات المتحده الأمريكيه وحليفتها بريطانيا تسديدها في المستقبل . ميسون البياتي – مفكر حر؟