تزخر كتب التاريخ السورية قبل السبعينات بقصص عن المواقف الوطنية الجريئة لرجال الدين المسيحيين أمثال مطران الأرمن وكلمته الشهيرة بعد العدوان الفرنسي على دمشق في التاسع والعشرين من أيار عام 1945 حين ذهب إلى وزارة الخارجية ليقول: “لو كان الرب فرنسياً لتركت عبادته.” وطالب جميع الأرمن السوريين المنتسبين لجيش الشرق الفرنسي بالانشقاق عنه، فاستحق فيما بعد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة قلده إياه الرئيس شكري القوتلي.
وأمثال البطريرك غريغوريوس الرابع الذي تحتاج سيرته لمدونات طويلة لما له من مواقف تنم عن الايثار والتفاني في خدمة الانسان، ويكفي القول أنه حين وافته المنية عام 1928 استقبلت الحكومة السورية جثمانه على الحدود اللبنانية بمئة طلقة من المدفعية تحية له، فيما كانت الجماهير تصرخ: “مات أبو الفقير، بطريرك النصارى وإمام المسلمين، نزلت بالعرب الكارثة العظمى”! وأرسل الملك فيصل من بغداد إلى دمشق مئة فارس على الخيل ليشتركوا في التشييع، كما يُروى أن الجثمان عندما وصل إلى ساحة الشهداء في بيروت شرع أحد التجار المسلمين يرش الملبس على الطريق قائلاً : “إن هذا القديس قد أعالني أنا وعائلتي طيلة الحرب العالمية الأولى”.
لكن السؤال الذي يدور منذ عامين في خلد شريحة لا بأس بها من المسيحيين المطالبين بالكرامة والحقوق كباقي السوريين، أين كنيسة اليوم من تاريخها ؟ وأين هي من السيد المسيح الذي طرد الباعة والمتصرفين وقلب الموائد متخذاّ سوطاً من الجلد صارخاً: ويحكم جعلتم من بيت أبي مغارة للصوص..قلة من يذكرون المسيح الثائر الذي بدّل وجه العالم بالمحبة والسلام مكتفين بإدارة الخد الأيسر، والتملص من حتمية الدور التاريخي الملقى على كاهل مسيحيي الشرق الذين يقاس أثرهم بالنوع لا بالكم، مرددين ذات السقطة عن حاكم يحمي وعن نظام يحفظ البقاء، متناسين -عن جهل أو عدم رغبة بالاعتراف- قساوة الأرقام وحقيقة مدلولات هجرة تنامت بين المسيحيين خلال الأعوام الأربعين الاخيرة حتى وصلت في بعض الجغرافية لتغيير ديموغرافي ينذر بالخطر.
الأسوأ أنه كان ولايزال للكنيسة دور في تسهيل هذه الهجرة سواء بالصمت عن مخاطرها وعدم تكريس الحديث عنها كأولوية في العظات الكنسية للحيلولة والحد دون تفشيها بين أبناء المجتمع كظاهرة، لكن يبقى الأشد سوءاً هو تورط رجال الكنيسة أنفسهم بتسهيل اجراءات غير شرعية، والتوقيع على أوراق تقدم للسفارات، ولذلك امثلة سواء بمباركتهم زواج شبان بفتيات أجنبيات، زيجات يعلمون أنها لن تدوم بل هي لقاء مقابل مادي وستنتهي بمجرد الحصول على أوراق الهجرة، وكذلك تسهيلهم إعطاء ورقة “مطلق حال” للمتزوجين والتي بموجبها يحق للمتزوج/ـة أن يتزوج مرة ثانية بأجنبي/ ـة زواج هو الآخر لأجل محدود، وهذا يعتبر انتهاك صارخ لسر الزواج أحد أسرار الكنيسة السبعة المقدسة والذي نصّ عليه الانجيل.
إن الحديث عن الفساد المستشري في هجرة الشباب المسيحي يكاد يقشعر له الأبدان ليس لهول المبالغ التي تدفع، وليس لأعداد المهاجرين المتزايدة، بل وللوسائل أيضاً، فحتى إن كنت عازباً يمكنك ببساطة الحصول على دفتر عائلة مقيد عليه اسم زوجة وأطفال، ويمكنك أيضاً في حال كنت غير متعلم الحصول على شهادة جامعية وملكية أراض وعقارات وسيارة وكشف حساب بنكي وشهادات لغة…حتى غدا كل ذلك التزوير حدثاً طبيعياً لا يخجل منه أحد ولا يخشى أحد من افتضاحه بل على العكس مدعاة للفخر…الكنيسة تعلم كل ذلك وتصمت عنه، وأجهزة المخابرات أيضاً.
رغم أن سوريا تمتلك أقدم الارث المسيحي في العالم من كنائس ومخطوطات وأيقونات حافظ السوريون عليها لآلاف السنين وما زالوا ، لكن الوجود المسيحي فيها مهدد بخطر جسيم – ليس اليوم فقط بل منذ عشرات السنين- خطر لن يزول بل سوف يشتد ليصبح كابوساً رهيباً إن لم يعوا حقيقتهم ويلتقطوا فرادة اللحظة التاريخية ويتعاملوا مع الاستحقاقات الراهنة على أنهم ليسوا ضيوفاً بل كأصحاب أرض وقضية، وحتى إن سلّمنا جدلاً بوجود مؤامرة لافراغ الشرق من مسيحييه – كما يعتقد كثيرون – فإن التحديات الجسيمة التي واجهها المسيحييون الأوائل والتضحيات التي بذلوها لنشر دينهم والدفاع عنه والحفاظ على جوهره النقي تجعلنا نتساءل لماذا و كيف صمد أولئك في زمن الأسود المفترسة والعذابات المهولة؟ أليس من المؤسف أن نعفي أنفسنا من المسؤولية بالانكفاء والاكتفاء بالحديث عن مؤامرة في القرن الحادي والعشرين بينما تقول الأرقام أن المسيحية هي الدين الأوسع انتشاراً في العالم؟
أما بالنسبة لرجال الدين فليس هناك أحوج للكنيسة اليوم من اعادة التمعن في عظة السيد المسيح الأولى على الجبل وشرعة الحياة المسيحية التي حددها من خلال التطويبات الثمانية، فذاك الذي جاء قبل ألفي عام فقيراً، متواضعاً، معزياً للحزانى واليتامى والأرامل والخطأة، نقي القلب واليد واللسان، ما زال يلح ويقول: ” أريد رحمة لا ذبيحة”.
سيلفا كورية – زمان الوص