محمد جميل أحمد
مأزق الآيدلوجيا بصورة عامة، يكمن في التناقض الأصلي الذي ينبثق من كونها إطارا نسقيا، ليس له القدرة الفكرية على اختراق الواقع، ومن ثم العجز عن قراءته بطريقة موضوعية قادرة على رؤية الواقع كما هو لاكما يتخيله أصحابها.
بيد أن أخطر ارتدادات الآيدلوجيا على الواقع بنتائج كارثية تكمن في الرؤية الدينية الطهورية كمرجعية للعمل السياسي. فهنا سنجد أنفسنا أمام إشكالات بنيوية مأزومة في قراءة أي واقع بحسب تلك الرؤية، بل والأخطر من ذلك أن تلك الرؤية الطهورية ستنطوي، عبر خاصية الانشقاق، على خطر التفكيك المستمر للكيانات التنظيمية ذاتها، والحال أن نسق الآيدلوجيا بحسب الرؤية الطهورية سيكون فوضى مستمرة سواء بالنسبة للتنظيمات التي تتبناها، أو بالنسبة لمفاعيل تجربتها السياسية في الواقع.
هكذا، وكما كان متوقعا، بدأت الانشقاقات بين السلفيين، الذين هم الشكل “السياسي” الأكثر عرضة لتلك الايدلوجيا الطهورية. فبحسب الخبر الذي نشرته إيلاف فقد بدأت (الانشقاقات داخل حزب النور السلفي، بتقديم رئيس الحزب و150 من قياداته استقالاتهم وإنشاء حزب جديد باسم “الوطن”)
وبطبيعة الحال فأن ما يجعل تلك القابلية للانشقاق ليس فقط طبيعة العمل الحركي والتنظيمي الذي قد يكون من ظواهر العمل السياسي العام، وإنما يكمن الأمر في ذلك الانسداد النظري العميق للرؤية السلفية. فبحسب هذه الرؤية وعنوانها المتصل بالسلف الأقدمين كمرجعية للفهم والتأويل سينشأ انسداد نظري طهوري متوهم من فكرة استعادة واقع تاريخي مفارق تماما في معطياته وسياقاته ومنظوماته ونظم ادراكه ومحاولة تركيبه على اقعنا المعاصر، وبطريقة يمكننا القول معها : أن العمل بمثل تلك الرؤية الطهورية في واقع سياسي معقد كالواقع المصري ليس فقط مشروعا للانقسام في هياكل السلفيين التنظيمية فحسب ؛ بل وكذلك للبنية التنظيمية التي تصدر عنها حركات الإسلام السياسي جميعا.
إن البنية الطهورية للخطاب السلفي لا تفكر من خلال أنساق المعرفة النظرية للعالم الحديث، أومن خلال نظم ادراكه، والقوانين التي تحكم الواقع الموضوعي، وإنما تحاول باستمرار التماهي مع تصورات مجردة، وتنظر إلى معطيات الواقع عبر كتلة صلبة غير قابلة للتسييل، ومن ثم تقع في تفاصيل لامتناهية من المشكلات المتجددة. ذلك أن النظر إلى العالم الذي نعيش فيه برؤية طهورية مغلقة هو في الحقيقة نظر للعالم من خارجه، لا من داخله. وهنا سيكون التفكير في الأطر السياسية الحديثة كـ(الوطن) مثلا، مجرد تفصيل صغير داخل مفهوم (الخلافة) المتعالي، ومن مفهوم (الحزب) الذي يعني : جزء من كل هو الشعب، تفصيل صغير جدا في مفهوم (الأمة الإسلامية) الأكبر وهي هنا يمكن أن تضم 56 شعبا من شعوب العالم المعاصر.
وهكذا وبما أن مفاهيم مثل (الخلافة) و(الأمة) تعتبر اليوم وفق نظم الإدراك التي توافق عليها العالم الحديث وتم تأطيرها بمرجعيات سياسية للحداثة، مفاهيم مجردة وغير قابلة للتمثل في واقع مادي منضبط، ستكون لدى السلفيين في سوق السياسة أشبه بشيك بلا رصيد، أو أشبه باللعب خارج الحلبة.
كما أن البنية الطهورية من ناحية ثانية تنطوي على دوغمائية مجافية لمفاهيم العمل التكتيكي في ملاحقة متغيرات السياسة وضمن قواعد اللعبة التي يفرضها الواقع السياسي. وهنا سيكون الرأي والرؤى النسبية مجالات خصبة للخلاف، لا الاختلاف، الذي سيؤدي في النهاية إلى الشقاق والانشقاق.
لا يمكن للأحزاب السلفية وحركات الإسلام السياسي أن تتماسك في شكل وحدوي إلا في ظل مراحل أنظمة القمع. ولهذا فإن تماسكها ذاك لا ينبع من إدراك لقواعد الوحدة الموضوعية، بقدر ما هو تماسك تفرضه حالة الشدة والقمع. أما في واقع طبيعي حر للعمل السياسي العام، فإن الحركات الإسلامية والسلفية ستشهد انشقاقات في المستقبل نتيجة فقط لرؤيتها الايدلوجية الطهورية.
وبطبيعة الحال أن الغائب الأكبر عن تلك البنية الطهورية المؤدلجة هو الوعي المعرفي المتصل بالنظر والإدراك الواعي سواء للنص أو للواقع. وغياب هذا الوعي المعرفي سببه واقع التخلف الذي يعيش فيه هذا الجزء من العالم المسمى عربيا. ففي ظل التخلف وبنيته الشاملة ينطوي كل فهم سواء للإسلام أو للعلمانية على وصمة التخلف وخاصيته الأساسية وهي : العجز عن امتلاك ملكة الحكم الموضوعي على الظواهر والأشياء.
هذا لايعني أن السلفيين فقط هم ضحايا تلك الايدلوجيا الطهورية، بل كذلك بقية الأحزاب الاسلامية كالإخوان وغيرهم، بالرغم من أن هؤلاء يطرحون رؤية تزعم وعيا أعمق من الوعي السلفي بالواقع.
ومن الطرائف التي تحكى في هذا الصدد عندما سُئل (حسن الترابي) إبان الديمقراطية الثالثة في السودان (1986 ـ 1989) عن الفرق بين (الجبهة الإسلامية القومية) وبين السلفيين (أنصار السنة) أجاب زعيم الجبهة الإسلامية مبتسما ابتسامته المعروفة : (نحن في حرب مع الأحياء، وهم في حرب مع الأموات) ــ يقصد محاربة السلفيين لأضرحة الصوفية ــ في إشارة واضحة إلى اهتمام الإخوان المسلمين بالواقع أكثر من السلفيين. لكن الأحداث، بعد ذلك بسنوات طويلة، كشفت أن الاختلاف كان فقط في الدرجة وليس في النوع.
أن الطبيعة الانشقاقية من أهم خاصيات الفهم التأويلي لحركات الإسلام السياسي، وهذه الطبيعة اللازمة لهذه الظاهرة هي التي تفسر لنا اليوم أسباب انشقاق الحركة الإسلامية السودانية بعد توليها للسلطة. وهو للأسف انشقاق صدر عن فكر تأويلي أدى في النهاية إلى انقسام السودان ذاته.
المصدر ايلاف