المصدر: البيان: ترجمة: نهى حوّا, بقلم: سيث جونز
فيما كانت التظاهرات الشعبية تجتاح العالم العربي في عام 2011، علق عدد كبير من صانعي السياسات والمحللين الأميركيين الآمال على أن تستهل تلك الحركات حقبة جديدة في المنطقة.
وفي شهر مايو من تلك السنة، وصف الرئيس الأميركي باراك أوباما تلك الانتفاضات بأنها “فرصة تاريخية” للولايات المتحدة “لمواكبة العالم كما ينبغي أن يكون عليه”.
ورددت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون تلك التعليقات، معربة عن ثقتها بأن التحولات سوف تسمح لواشنطن بتعزيز “الأمن والاستقرار والسلام والديمقراطية” في الشرق الأوسط.
ووجد البعض أن تلك التغييرات تبشر بنهاية طال انتظارها لمناعة الشرق الأوسط ضد الموجات السابقة من الديمقراطية على الصعيد الدولي، فيما أعلن بعضهم الآخر أن تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات المتشددة خسرت حرب الأفكار أخيرا.
تراجع التوقعات
والنتائج الأولية لحالة الاضطراب كانت ملهمة بالفعل. فقد أطاحت انتفاضات تتمتع بجمهور عريض بالرؤساء السابقين، التونسي زين العابدين بن علي، والمصري حسني مبارك، والليبي معمر القذافي، من السلطة. ومنذ سقوط أولئك الدكتاتوريين، أجرت البلدان الثلاثة انتخابات تنافسية ونزيهة برأي المراقبين الدوليين، وأصبح بإمكان الملايين على امتداد المنطقة التعبير عن آرائهم السياسية بحرية.
ومع ذلك، فإن أفق تحقيق المزيد من الديمقراطية يعيش حالة من التراجع. ومعظم البلدان في العالم العربي لم تقطع أشواطا في المسارات السياسية، والدول التي بدأت في التحرر تصارع الآن للحفاظ على النظام، ولتوطيد مكاسبها والمضي في السير قدما.
وكان النمو الاقتصادي في المنطقة بطيئا، وهو الأمر الذي يبعث على القلق، حيث انه بحسب استطلاعات مركز بيو للبحوث لعام 2012، فإن أغلبية السكان في دول عدة في المنطقة، بما في ذلك الأردن وتونس، يثمنون اقتصادا قويا اكثر مما يثمنون حكومة ديمقراطية.
وحتى مع كل هذه التغييرات، تبقى المنطقة التي تشكل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأقل تمتعا بالحرية في العالم، بحسب تقديرات منظمة “فريدوم هاوس” التي تفيد بأن نسبة 72% من الدول في المنطقة و85% من السكان فيها لا زالت تنقصهم الحقوق السياسية الأساسية والحريات المدنية.
ويبقى عدد كبير من الأنظمة الحالية ضعيفا وغير قادر على فرض القانون والنظام في أعقاب الانتفاضات في المنطقة. وفي هذه الأثناء، وكما أظهرت الاضطرابات التي انتشرت على امتداد المنطقة في سبتمبر، فإن المشاعر المناهضة لأميركا لم تظهر إشارة على أي تراجع. ويبقى الإرهاب المشكلة الرئيسية أيضا، مع محاولة تنظيم القاعدة واتباعه ملء الفراغ في كل من ليبيا وسوريا وغيرهما من الدول غير المستقرة.
وتحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى حماية مصالحهم الاستراتيجية الحيوية في المنطقة، المتمثلة في إيجاد توازن مع الدول المارقة، وفي ضمان النفاذ إلى موارد الطاقة، ومحاربة التشدد الذي يستند إلى العنف. وتحقيق هذه الأهداف سيتطلب قبول العالم العربي كما هو حاليا.
فالدول العربية التي تمكنت من إسقاط أنظمتها القديمة تواجه أوضاعا غامضة إلى حد كبير. في ليبيا، على سبيل المثال، مثلت انتخابات يوليو 2012 إنجازا رائعا بالفعل بالنسبة لدولة كانت لا زالت تترنح تحت عقود من الحكم الدكتاتوري، لاسيما وأن الخوف من العنف والتزوير أو اجتياح الإسلاميين للانتخابات لم يتجسد على أرض الواقع.
لكن عواصف من الغيوم تلوح في الأفق الآن. وكما حصل في العراق، فإن كتابة الدستور في ليبيا ستعرقلها على الأرجح الانقسامات بشأن مسألة السلطة الفيدرالية بين الأجزاء المختلفة من البلاد. والحكومة الليبية، كما أظهر مصرع السفير الأميركي وثلاثة من الأميركيين في بنغازي في سبتمبر الماضي، تصارعا لإعادة إرساء الأمن وحكم القانون.
والبيروقراطية ضعيفة، وميليشيات مدججة بالسلاح تسيطر على معظم المناطق الريفية، والمجموعات المتشددة شنت هجوما على المزارات الصوفية على امتداد البلاد.
وتستمر انتهاكات حقوق الإنسان، فيما يبقى الألوف من السجناء المعتقلين خلال الصراع للإطاحة بالقذافي في مرافق اعتقال غير قانونية، حيث يواجهون سوء المعاملة والتعذيب وحتى القتل خارج نطاق القضاء.
وعشرات الألوف من النازحين، وكثيرون منهم اجبروا على الهرب من منازلهم، يعانون في مخيمات اللاجئين حول البلاد.
واليمن أيضا يعيش في حالة من الفوضى. وبعد عمليات قمع دموية عدة ضد حركة الاحتجاج في البلاد خلال عام 2011، وافق أخيرا الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح في نوفمبر من تلك السنة على نقل السلطة إلى نائب الرئيس، عبدربه منصور هادي. لكن خلال الانتخابات الرئاسية، كان هادي المرشح الوحيد على لائحة الاقتراع.
وحكومته الضعيفة تصارع الآن تمرداً في الشمال، وحركة انفصالية وتمرداً لتنظيم القاعدة في الجنوب، وتسيطر ميلشيات قوية وقبائل على أجزاء واسعة مهمة من الأراضي. وكل الدلائل تشير إلى استمرار العنف وبقاء الاقتصاد في حالة من الركود.
ومصر عقدت، أخيرا، أول انتخابات رئاسية تنافسية في تاريخها، لكن ليس للبلاد سبيل سهل للوصول إلى الاستقرار والازدهار.
ولقد انتزع الرئيس المصري محمد مرسي، المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، حيزا مهما من السيطرة السياسية والعسكرية من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ومثل سلفه مبارك، حاول أن يحصن نفسه بسلطات هائلة، وهو يمسك حاليا بسلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية مهمة، وحاول أخيرا إسكات وسائل الإعلام.
لكن قادة العسكر يستمرون في ممارسة نفوذهم عبر مجلس الدفاع الوطني المصري، والليبراليون العلمانيون يتحدون توطيد مرسي لسلطاته عبر المحاكم. وأقوى التحديات السياسية أمام الإخوان المسلمين لا تأتي من الليبراليين ولكن من حزب النور السلفي الذي يدعم تطبيق الشريعة بشكل صارم.
وستستمر تلك الحالة من عدم الاستقرار السياسي واستمرار فترة صعبة من العلاقات المدنية العسكرية في أن تنوء بثقلها على الاقتصاد، الذي شل بانعدام الاستثمار الأجنبي والانقطاع في التصنيع والتراجع في السياحة.
استثناء واعد
وكانت تونس قد برزت بوصفها واحدة من القصص الناجحة القليلة في انتفاضات المنطقة. فتطورت من دولة استبدادية إلى ديمقراطية منتخبة حيث دعم قادتها الجدد الحداثة والحريات المدنية وحكم القانون. والصحافة في تونس نابضة بالحياة والمجتمع المدني مزدهر، والقيادة تبدو ملتزمة بمعالجة الفساد.
وعلى الرغم من أن تونس تواجه بعضاً من المشكلات نفسها كما جيرانها، والمتمثلة في الدولة الضعيفة والتحدي الذي يمثله السلفيون المتشددون، إلا أن البلاد على الأقل تتحرك حتى الآن في الاتجاه الصحيح. ومما يثير الأسف أن مستقبل عدد محدود من البلدان الأخرى في المنطقة يبدو واعدا كما في تونس.
ولطالما كان المراقبون في حيرة من أمرهم حول العقبات التي تقف أمام الديمقراطية في الشرق الأوسط، لا سيما مع التوسع السريع للحرية في أماكن أخرى من العالم. ونظرية التحديث الكلاسيكية تذهب إلى القول إن الديمقراطية ستلي وصول المجتمع إلى مستوى معين من التطور الاقتصادي.
لكن حتى في البلدان العربية الأكثر ثراء، لم تتجسد الديمقراطية بعد. وافتراض آخر شائع لكنه خاطئ يفيد أن التخلص من الدكتاتورية يؤدي بالضرورة إلى الحرية
. لكن كما أشار صامويل هنتنغتون وغيره من المراقبين، فإن الأنظمة الاستبدادية عندما تسقط أحيانا تفسح المجال أمام أنظمة استبدادية أخرى لتحل مكانها بدلا من الأنظمة الليبرالية.
وعلى الرغم من التطورات في السنتين الأخيرتين، فان عوامل بنيوية معينة ستستمر في إعاقة انتشار الديمقراطية في الشرق الأوسط.
ولا يجب أن تبني واشنطن سياستها نحو الشرق الأوسط الكبير على افتراض أن المنطقة تتحول إلى الديمقراطية بسرعة أو بشكل مستديم.
ويتعين على الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية تشجيع الإصلاحات الليبرالية، ودعم المجتمع المدني، وتأمين المساعدات الفنية لتحسين الدساتير والأنظمة المالية للبلدان.
لكن الوعود المنتظرة من الانتفاضات العربية لا ينبغي أن تؤدي إلى تغاضي أميركا عن أولوياتها الاستراتيجية الرئيسية في المنطقة.
سواء طاب لها الأمر أم لا، فان أميركا تعتمد بين حلفائها على دول استبدادية، وهذه الدول شركاء رئيسيون في حماية مصالحها. والأمل بان الديمقراطية الليبرالية قد تزدهر في المستقبل يجب موازنته بالحاجة إلى العمل مع الحكومات والمجتمعات الموجودة حاليا.
الحقيقة الصعبة
ويتمثل أحد الأهداف المركزية لأميركا في مواجهة التحديات الإقليمية في المنطقة، إلى جانب هدفين آخرين يتمثلان في الحفاظ على التدفق الحر لمصادر الطاقة بأسعار مقبولة ومحاربة الإرهاب.
والحقيقة الصعبة هي أن بعض الحكومات الديمقراطية في العالم العربي سوف تكون بالتأكيد أشد عداء للولايات المتحدة من سابقاتها الاستبدادية، لأنها ستكون اكثر استجابة لشعوب بلدانها، التي هي في أغلبها مناهضة لأميركا.
وبحسب استطلاع للراي أجراه مركز بيو للبحوث عام 2012، فإن صورة أميركا في عدد من دول العالم الإسلامي تراجعت بشكل حاد على مدى السنوات الماضية. قبل الانتفاضات العربية، على سبيل المثل، فإن 27% من المصريين و25% من الأردنيين الذي جرى استطلاع آرائهم، كانت لديهم مواقف إيجابية نحو الولايات المتحدة. وبحلول عام 2012، فان تلك الأرقام تراجعت إلى 19% و12% على التوالي.
والتظاهرات المناهضة لأميركا في سبتمبر 2012 في المنطقة، والتي انتشرت من مصر إلى ليبيا وعلى امتداد الشرق الأوسط، وفرت أيضا تذكيرا إضافيا بأن المشاعر المناهضة لأميركا وللغرب لا زالت موجودة في العالم الإسلامي.
الديمقراطية ليست قريبة
يبقى عدد كبير من الأنظمة المحلية في العالم العربي ضعيفا وغير قادر على فرض القانون والنظام ،في أعقاب الانتفاضات في المنطقة.
فسوريا انزلقت في حرب أهلية دموية على خطوط طائفية، فيما تبقى دولتا العراق واليمن غير المستقرتين أصلا منقسمتين بالعمق ومعرضتين لأعمال العنف. أما الحكومة المركزية الليبية الهشة فقد فشلت في نزع سلاح قادة الحرب والميلشيات التي تسيطر على أجزاء كبيرة من المناطق الريفية في البلاد.
وحتى في مصر التي تعد مثالاً للإصلاح السياسي في المنطقة، فإن الحكومة التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين حاولت تعزيز سيطرتها وإسكات وسائل الإعلام من خلال استخدام تكتيكات تذكر بحقبة الرئيس المصري السابق حسني مبارك.
وفي هذه الأثناء، وكما أظهرت الاضطرابات الذي انتشرت على امتداد المنطقة في سبتمبر، فإن المشاعر المناهضة لأميركا لم تظهر إشارة إلى أنها تتراجع. ويبقى الإرهاب المشكلة الرئيسية أيضا، مع محاولة تنظيم القاعدة واتباعه محاولة ملء الفراغ في كل من ليبيا وسوريا وغيرها من الدول غير المستقرة.
وقد تحين نهاية الاستبداد في الشرق الأوسط في نهاية المطاف. لكن هناك أسبابا قليلة تدعو للاعتقاد أن هذا اليوم آت عما قريب، وأسبابا أقل للاعتقاد أن أميركا يمكنها أن تزيد فرص حدوث هذا الأمر بشكل كبير.
وأي جهد من قبل واشنطن لجلب الديمقراطية إلى المنطقة سوف يفشل إذا لم تنضج الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحلية، وإذا كانت المصالح المنتفعة من الأوضاع في تلك الدول تعارض الإصلاحات السياسية.
واقعية سياسية
قد ينتهي الاستبداد في الشرق الأوسط في نهاية المطاف. لكن هناك أسبابا قليلة تدعو للاعتقاد أن هذا اليوم آت عما قريب، وأسبابا أقل للاعتقاد أن أميركا يمكنها أن تزيد بشكل كبير من فرص حدوث هذه النهاية.
وأي جهد من قبل واشنطن لجلب الديمقراطية إلى المنطقة سوف يفشل إذا لم تنضج الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحلية، وإذا كانت المصالح المنتفعة من الأوضاع في تلك الدول تعارض الإصلاحات السياسية.
وطبعا القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة كان لها في أفضل الأحوال تأثير هامشي فيما يتعلق بتوجه البلدان تاريخيا نحو الديمقراطية. وإلى أن تنجح موجة جديدة من الانتفاضات المحلية في تحويل المنطقة نحو الديمقراطية، فإنه لا ينبغي أن يعرقل السياسة الأميركية تركيز مفرط ضيق الأفق على نشر الديمقراطية.