“عندما يُستهدف السنّة في سوريا، نصبح كلّنا سنّة”
الشيخ صالح العلي
(بدنا نبيد العلويّة) .. كان المتظاهرون يرددونها بحماس بعد أكثر من عامٍ و نصف على اندلاع الثورة، بعد أكثر من عامٍ و نصف من استهجان شعارات مختلقة مثل (العلوية ع التابوت و المسيحية ع بيروت)،
وكان “جعفر” – الناشط في حب بلده و ثورته و المنتمي إلى هؤلاء المنادى بإبادتهم – بين أصحابه و أهل مدينته في تلك المظاهرة، أشار لرفيقه أن يرفعه على الأكتاف، و بعد أن هتف في الجمع الذي عرفه بضعة شعارات قال بثبات: (حيّوا العلويّة) و كان أن ردّد الجميع خلفه بذات الحماس (حييّنا) !
لا يمكن فهم هذه الحادثة و سواها من أحداث و مشاعر تتقاسم الرأي العام السوري ما لم نضع في بالنا و باستمرار مسألة “الوعي الجمعي” و كونه في الحقيقة يتشكّل على مدى طويل ضمن اللاوعي الجماعي و يرتبط بصور حسيّة موجودة في هذا اللاوعي.
الجماهير التي تريد إبادة العلويّين تعميماً تستذكر صور شهدائها، ضحاياها، بيوتها المهدّمة، كرامتها الممتهنة، و تستذكر أن الفاعل (يظهر) منتمياً إلى هذه الطائفة دون سواها، و يصبح هذا الفاعل من قمة هرم السلطة إلى كافة أذرعها الأمنية مختصِراً للطائفة بأسرها، فلا نساء فيها و لا أطفال و لا شيوخ و لا أصدقاء و جيران و لا أحباب و أصحاب و لا حتى معارضين للظلم و شركاء في الثورة ! عندما رأت هذه الجماهير “جعفر” و هي تعرفه بما قدّم لأجلهم و بما عانى هو أيضاً مثلهم، طغى حضوره على الصورة القاسية، و باتت صورته هي التي تختصر الآن الطائفة كلّها و هي المسيطرة في وجدانهم، فكان أن حيّوها بأسرها و كانوا قبل دقائق يريدون فناءها !
يبدو الكلام السابق عصيّاً على التصديق و المنطق، لكنّ الدارسين لأبسط مبادئ علم نفس الجماهير أو حتى الإعلام يدركون تماماً مدى واقعيته و صحّته، بل إنّ نجاح الوسيلة الإعلاميّة أو حتى القياديّ يُقاس بمدى القدرة على حشد الناس خلف التحريض العاطفي المعروض أكثر بكثير منه خلف التحليل العقلاني الموضوعي! مباشرةً سيجد كلّ فريق من المتصارعين اليوم في الساحة السوريّة ضالته في هذا الكلام للنيل من صدقيّة الآخر و موقفه و ينسى الحقيبة الثقيلة على ظهره بما فيها من اتهامات مماثلة! على كلّ حال، كنتُ قد قلت في أكثر من موضع و مقال إنّ الثورة السورية هي حقّ و استحقاق، قام بها الشعب و لا يزال يدفع ثمنها، و أمّا أنّه لم يبق أحدٌ في الأرض لم يحاول استغلالها أو ركوبها أو الطعن فيها أو إخمادها أو شراءها فتلك قصّةٌ طويلة لها يومها.
كيف تعمّمت في الوعي الجمعي السوري صورة “العلويّ” المنفّرة؟
حسم السوريّون العلويّون أمرهم فيما بينهم عندما انتصر تيار الوحدويين على الاستقلاليين قبيل نهاية الانتداب الفرنسي و أقرّوا البقاء مع باقي إخوتهم في دولة سوريا، و شعروا أنّهم للمرّة الأولى يمكن أن ينالوا حصّتهم من الشراكة الوطنيّة، فكانوا متميّزين خلال تاريخهم الحديث بتمسّكهم بعروبتهم و التوّجهات العلمانية المتنوعة (بعثية، شيوعية، قومية سورية) في أوساطهم المتمدنة خصوصاً، و الحرص على طلب العلم و الترقّي في السياسة و الجيش، ممّا انعكس بظهور تأثيرٍ كبيرٍ لهم في مجمل التاريخ السوري الحديث من جميع النواحي، كحال كلّ “أقلّية” تحاول التعويض عن صغر عددها بالبروز في ما هو متاحٌ لها، خاصة إن كانت تغذّيها قصص المعاناة و الظلم الذي تعرّضت له منذ نشأتها و حتى الأمس القريب. و في الوعي الجمعي للسوريين العلويين و الذي يسكن وجدانهم دون تمييز طبقي أو ثقافي فتجده في فلاحٍ بسيط يؤمن بمشايخه كما في طبيبٍ متنعّم يؤمن بماركس أو سعادة، تجد قصص اضطهاد “الأكثريّة” منذ ما قبل زمن العثمانيين و إلى عهد الإقطاع السنّي الذي لم يكتف باستغلال فقرهم و تهميشهم كما بقية إخوتهم السنّيين فحسب، بل أمعن أيضاً باحتقار اختلافهم الديني و السخرية منه، لتترسّخ المزيد من المرارة و الاقتناع باستمرارية تراث الإبادة المتناقل عبر الأجيال، و حذار من المظلوم إن انقلب يوماً ظالماً!
عندما وصل حافظ الأسد إلى منصب الرئاسة، أسرّ لصديق عمره مصطفى طلاس: الآن و قد حصلنا على السلطة فلن ندع أحداً يأخذها منّا! (من مقابلة على تلفزيون الجديد مع مصطفى طلاس قبل الثورة بأعوامٍ طويلة) كان الاستبداد السياسي و القمع الأمني صفةً أساسية في النظام للاستئثار بالسلطة، و كان لا بد لضمان ثباته من ضمان الولاء بغضّ النظر عن الكفاءة. طبّق الأسد حينها مقولة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله عندما جرّد سيفه على رؤوس كبار القوم قائلاً: هذا نسبي، ثم نثر الذهب عليهم مؤكّداً: و هذا حسبي، فكان له منهم السمع و الطاعة. تحالف الأسد مع البرجوازية السنّية في دمشق و حلب خصوصاً و ضمن مصالحها و حصولها على ما تريد من امتيازات، و عمل على حشد علويي المدن في المناصب و دفعهم إلى نيل الشهادات و لو اسمياً، في حين أهمل عن عمد الريف العلوي الذي بقي أبناؤه يعانون الفاقة و الإهمال و قلة الخدمات و الاستثمارات، بالنتيجة كانوا يهجرون قراهم البسيطة إلى إبهار المدن حيث يتمّ “اصطيادهم” ليحظوا بمنصبٍ بسيط في أجهزة المخابرات و الأمن عدا الجيش، مع إطلاق يدٍ غير مشروط ليستفيدوا من مزايا الفساد الذي يتم توريطهم فيه بدعوى الانتساب الطائفي بحيث يصبحون جزءاً منه كما أصبح سواهم من أبناء الوطن أساسيين فيه بالتورط المالي، سكنوا الأحياء العشوائية و حمدوا نعمته على امتلاك سقفٍ في المدينة يتبجحون به أمام أهل ضيعهم. بالإضافة إلى ذلك، حرص حافظ الأسد على إقصاء كل أنواع الزعامات و القيادات السورية، من تصفية سياسيين بما فيهم رفاق الحزب أنفسهم، و تطويع رؤساء العشائر، و حتى تهميش مشايخ العلويين بداعي العلمانية في حين كان يهدف إلى ربط كامل الطائفة بشخصه وحده بحيث تجد نفسها متعلقة بأمره و رهن إشارته.
ساعدت أحداث الثمانينات على إقناع العلوييّن أنّ الهدف ليس التخلّص من الحكم الظالم لعموم سوريا و إنّما تصفيتهم خصوصاً، و بما أنّ الجهل و الخوف يشكّلان مزيجاً خطراً يحوّل البارانويا إلى إجرامٍ مستشرٍ باسم الدفاع عن النفس، فقد مضت سنواتٌ طويلة يتم فيها تعميق الهوّة بين العلويين و بقية إخوتهم و بحيث باتت اللهجة الساحليّة كافية لإخافة من يعترض على أيّ تصرّف، بما في ذلك استخدامها تمويهاً من بقية أبناء المحافظات!
صبيحة العاشر من يونيو عام 2000 كان خبر وفاة حافظ الأسد قد تسرّب إليّ متأخراً، انتظرت في صمت حتى ساعة إعلانه عصراً و شاهدت تعابير الصدمة في عيون الناس في دمشق، كان هناك بعض الحزن و الكثير من الخوف من المستقبل المجهول، و الازدحام على أشدّه في مواقف الباصات العائدة إلى حمص و اللاذقية و طرطوس، لقد كان لسان حال العلويين يهدس بأمرٍ واحد: ماذا سيحل بنا الآن؟ هل سينتقم “الآخرون” منّا دون تمييز؟ .. كان ذلك هو النجاح الأخير لحافظ الأسد.
إنّنا نتكلّم إذاً عن عقودٍ طويلة تمّ فيها تصوير العلوي – بما في ذلك على الشاشات المحلية بداعي الكوميديا و الدراما – بصورة القرويّ الحاقد على المدنيّة، بصورة رجل المخابرات المتسلّط الفاسد، بصورة المسؤول الجاهل لأبسط تفاصيل ما يدير، بصورة المتعلّم المزوّر الذي يحمل شهادات اسمية أو مشتراة بعد أن ابتعثه النظام دون استحقاق لنيلها، لتقابل الصورة المتوارثة في أذهان العلويين خاصةٍ البسطاء عن “الآخر” الذي انقلبت به الدنيا من موضع السيد المستبد و يتربّص بهم ليسومهم العذاب أسوأ مما كان.
مع بداية الثورة السورية، عمل النظام على حشد كافة “أنصاره” لمواجهة السقوط المحتّم، عمل على إقناع أهل المدن أنّها غضبة ريفٍ حاقد على تقدّمهم،عمل على إقناع طبقة الأغنياء أنّها احتجاجات الرعاع و الفقراء على رخائهم، و عمل بشكلٍ حثيث على إقناع الأقليات الدينية عموماً و العلويين خصوصاً أنّها هجمة إبادة من متطرفين وهّابيين. أبسط الأمثلة استحضار القرضاوي بكثافة بصفته شيخ التحريض الديني في الأسابيع الأولى للثورة قبل أن يخرّ صريع المرض، صار إعلام النظام يبحث عن أي شخصيّة يمكنها ملء الفراغ لتبرير ادعاءاتهم قبل أن يجدوا ضالتهم في شيخٍ متطرّف مغمور له بضع سنوات من الصراخ في بوق المذهبية، و لشهورٍ طويلة سيكون عدنان العرعور صنماً تجسيدياً للفتنة الطائفية – يتم تبنيه بغباءٍ منقطع النظير من قبل العديد في الثورة أيضاً – قبل أن يغيب ذكره مع وصول التطرّف الحقيقي الذي نراه في أيامنا. نذكر أيضاً استغلال الملابسات الغامضة لمقتل نضال جنّود ليتم استخدامها في تبرير كل المجازر و المواجهة العنيفة للمظاهرات السلميّة و شيطنة “الآخر” في ذهن المؤيدين العلويين. كان لا بدّ من استحضار المتطرّف بغية التبرير لخروج التطرّف الذي في دواخلهم.
في منحى آخر، لا يمكن نكران من ركب على ظهر الثورة لغاياته و مصالحه فحسب، سواءً كأفراد طائفيين أو يرغبون في تصفية حساباتٍ شخصية، أو جماعات مدفونة في تاريخٍ طويل من الأحقاد لا يرحم أحداً من المتورطين فيه. كان أولئك الشواذ في قاعدة السلمية، و قد عمل النظام على الإفراج عنهم دون تردد (يمكن للمشككين التأكد من شمل قائد “جيش الإسلام” زهران علّوش مثالاً بالعفو العام سنة 2011) مقابل اعتقال و تغييب السلميين و قتلهم (يحيى شربجي و غياث مطر و عبد العزيز الخيّر كغيضٍ من فيض).
كشاهدٍ على التطورات، كنتُ أسمع من العلويين خصوصاً عبارات الهلع و التهديد المبطّن بالرعب، كانوا في لا وعيهم متأكدين أنّهم مهما كانوا بعيدين عن النظام سيتوجّب عليهم دفع فاتورة أخطائه، و بالنسبة للكثيرين كان الحلّ أن تقتل قبل أن تُقتل أو “تُهمّش” من جديد، و قلّة رأت – و لا تزال ترى- أنّ العمل على استقلال دويلةٍ شوفينية صغيرة خير ضمانة لتجنّب سفك الدماء. لم يكن من الصعب فحسب إقناعهم بالعكس، بل وقع المعارضون السوريّون الذين ينتمون مذهبياً لهذه الطائفة بين فكيّ كمّاشة: فهم في نظر أبناء مجتمعهم الطائفي ليسوا عدوّاً يمكن فهم عداوته كما البقية، بل خونة بكلّ خطورة الكلمة يستوجب التنكيل بهم أكثر من البقيّة، و يشهد الكثير من المعتقلّين المحرّرين كم كانت نسبة العلوييّن في المعتقلات عالية بالمقارنة مع سواهم. و الطرف الثاني من الكمّاشة هم من أبناء الثورة نفسها! إذ يتعرّضون للتشكيك الدائم في ولائهم الوطني و حرصهم على الثورة، و يتم نسب أيّة حركة مخالفة أنّها “ردّة” باتّجاه النظام و الطائفة. لقد باءت محاولات هذه المجموعة للخروج من هذه المصيدة المزدوجة بالفشل، إذ تمّ نبذهم و تناسيهم تماماً في كلا الجبهتين، و لم يتم دعم بياناتهم الضعيفة و تفعيلها لاستعادة هذا الجزء الأصيل من شعبنا.
لقد تعقّد المشهد السوري خلال ثلاثين شهراً بحيث بات من السّهل تخليط الحقائق و الوقائع، و نجح النظام إلى حدٍّ بعيد في كسر قوة الثورة الشعبية بتحويلها إلى حربٍ فاشيّة مماثلة لتلك التي قام بها نازيّو الرايخ الثالث و رجال الغستابو ضد الألمان أنفسهم، فقام بتوريط العلوييّن خصوصاً بإظهارهم في فيديوهات التعذيب المسرّبة (من المعروف منع التصوير في الجيش و معاقبة من يقوم به بشدّة) و بصفتهم المسؤولين عن جماعات “التشبيح” (رغم أنّ النسبة الأكبر من هؤلاء هي من طائفة “الأكثريّة السنيّة” كما يحلو للمتعصّبين مناداتها) و المرتكبين المباشرين للمجازر العديدة المروّعة في حقّ مدنيين عزّل من نساءٍ و أطفال. و بالمقابل تمّ استجلاب كل أشكال التطرّف و التطرّف المضاد، و بتّ تجد الشيشاني يقاتل العراقي و الأفغاني يصارع اللبناني، وحده السوري هو القتيل و المهجّر و الطريد!
لقد دفعنا كشعب، على اختلاف أدياننا و مذاهبنا و أعراقنا و توجهاتنا، حصّتنا من المعاناة و الموت. تجد عائلات من يبعث بهم النظام إلى حتفهم السلوان في الإيمان أنّهم قضوا في سبيل الوطن، و يتهامسون في تمجيد هؤلاء الشباب الذين يردّون عنهم مصيراً محتوماً بالفناء.
هل هذه مجرّد بارانويا لا أساس لها من الصحّة؟ ربّما يجب أن نقنع بخطئها كثيراً من بقيّة الشعب قبل أن يقتنع بها العلويّون أنفسهم! ربّما يجب أن يقتنع الجميع أوّلاً أنّ هذا النظام ليس بطائفي أساساً، فلو كان حقّاً معنمداً على طائفةٍ وحيدة لانهار مبكّراً مهما كبرت أو قويت شوكتها، و لو كان همّه مصلحة طائفته و قبيلته لتصرّف بما يجنّبها الويلات الآن و لاحقاً بغض النظر عن بقية الجماعات و وجد مخرجاً مشرّفاً للتنازل عن السلطة، لكنّه ببساطة استخدم الطائفيّة و جميع الطوائف و أوّلهم الطائفة المُختَطفة وقوداً لحربه علينا في سبيل عرشه.
لأجل كلّ ذلك باتت هذه المعركة الوجوديّة أهم بالنسبة للبعض مما هي للنظام نفسه، و هي حربٌ خاسرة في جميع الأحوال إذ حتّى في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً بنصرٍ ساحق مستحيل للنظام، سيتم ترحيل الحسابات و المآسي إلى ما بعد ثلاثين عاماً أخرى يدفع فيها أبناء سوريا ثمن جرائم ليسوا مسؤولين عنها. و أما عندما يسقط النظام سواءً بشكلٍ فجائي أو تدريجي، فإنّ الرعب الذي سينتشر سيكون سمّاً قاتلاً في جسد الوطن، و ستكون حالة الانفلات الأمني أفضل حاضن لمجازر متبادلة بين مختلف المجموعات، يمكن أن تنتهي بعد شهور من أنهار الدماء إلى تدخّل قواتٍ أممية للفصل بين مناطق تمّ “تنقيتها” ديموغرافياً لتحقيق تقسيم دولة سوريا إلى دويلاتٍ طائفية و كانتوناتٍ قبليّة، تجعل غورو يضحك في قبره و إسرائيل سيدة المنطقة بصفتها الكيان العنصري الأنقى و الأرقى وسط باحةٍ من الهمج.
على كلّ السورييّن الوطنيين أن يتحرّكوا قُدماً لمنع استمرار السير في هذه المأساة، و لعلّ الجهد الأكبر يقع على عاتق السوريّين العلويّين بصفتهم مستهدَفين رئيسيين فيها، بغضّ النظر عن كوننا مؤيدين أو معارضين، علينا جميعاً أن نفكّر في غد هذا الوطن حتّى لو لم يطلع علينا، لأجل أولادنا و لأجل أن يستمرّ الوطن، و أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألّا تأتي أبداً، و لكن أفضل ما يمكن فعله هو البدء في لحظة هدوء بين مجزرتين و بينما لا يزال العلويّون يبدون في موقع القوّة لا موقع المغلوب المنافق.
بالدرجة الأولى لا بد من التوقف عن إرسال المزيد من الشباب إلى الجيش الذي بات منقسماً و يقاتل في غير أرض معركته الحقيقية و ضدّ أبناء بلده، تلك أهمّ إشارة يبعثونها للنظام بوصول درجة التململ لديهم حدّاً لم يعد يطاق، و بالطبع سيكون الردّ عنيفاً، من طينة “غزوة” على ريف الساحل لقواتٍ متطرفة تقوم بسبي النساء و قتل الأطفال و الشيوخ، ينهيها النظام خلال أيام بعد أن تصل رسالته: ليس لكم من حماية دوني و دون إطاعتي.
أفضل ما يمكن القيام به حالياً هو المشاركة بفعالية في حملات الإغاثة ليس للنازحين إلى مناطقهم فحسب، بل التحرّك باتجاه المناطق المنكوبة كما في حمص و المعضمية و على صعيدٍ شعبي معلن ليضربوا عصفورين بحجر: إحراج النظام و عجزه عن منعهم تحت مسميات الإرهابيين و جهاد النكاح، و إعلام بقية إخوتهم في الوطن أنّ الوجع واحد و الهم واحد. يمكنهم أيضاً افتتاح مياتم يتكفّلون فيها بأبناء الضحايا و مدارس ميدانية يكونون فيها الآباء و الأمهات و المعلّمين لأولئك الذين فقدوا عائلاتهم.
كما لا بدّ من التشاور و التدبير مع جهاتٍ عسكرية فاعلة في النظام و المعارضة بهدف التنسيق و التحضير للجان حماية تحمي مناطق تجمعاتهم في لحظة انفلات الغضب عند السقوط المدوّي للنظام، و ربما سيكون من الضرورة إنشاء حواجز مشتركة من كلّ فئات الوطن الغرض منها قبل الحماية رسالة واضحة أنّنا لن نتفرّق، و أنّنا جميعاً سوريّون لن ندع لنزوات الانتقام أن تتمكّن منّا.
إنّ العدالة التي يحققها القانون تكاد تكون الضمانة الوحيدة لتعافي الوطن، و بقدر ما ستكون مرّة لكنّها ستشفي جراحاً عميقة، و لن توفّر أحداً، أولئك الذين في طرف الثورة قبل الذين في طرف النظام. بينما يتم تفعيلها يجب إصدار إعلان عام ينزل العقوبة القصوى بمرتكبي أية أعمال انتقامية خلال الفترة الانتقالية و عدم شملها بالأعذار المخفّفة للجرم مع فقدان مرتكبها لكافة حقوقه. يمكن الاستفادة من تجربة رواندا في إنشاء محاكم محليّة منعاً ليأس الناس من الانتظار في أروقة المحاكم لسنواتٍ طويلة، و التركيز في القصاص على الذين قاموا بجرائم شنيعة فلم يكتفوا بالقتل دفاعاً أو في أرض المعركة، بل تورّطوا بالتعذيب و التنكيل و الاغتصاب. يمكن تفعيل مبدأ الديّة و المصالحة، و الحكم ما أمكن بأحكام مخفّفة لا تتجاوز أحكام سجنٍ طويلة تبقي المُدان على قيد الحياة و أهله على قيد الأمل، و يُستفاد منهم في العمل في المقالع لبناء ما تهدّم من البلد.
و من المهمّ التركيز على دور الإعلام البنّاء بعد كل الهدم الذي ساهم فيه بقوة، إذ يجب إظهار جهود جميع أبناء البلد بمن في ذلك “المتربَّص بهم” في مداواة جروحه من نشاطات و أعمال خيرية، و قد ينفع القيام بسهرات سمر يجتمع فيها الضيوف لسرد ذكريات الحياة المشتركة و قصصاً تثير الشجن و الضحك عن الأيام التي جمعتنا و كادت تفرّقنا.
فلنكفّ جميعاً عن اشتراط ضماناتٍ للأقليّات في سوريا الغد، فكلّ المتصارعين اليوم في الساحة ضعفاء لا يملكون أن يضمنوا شيئاً، العهد الوطني يُكتب بالدم و الدمع و بالعمل الصادق، حرصنا على بعضنا و أخوّتنا هو أفضل ضمانٍ لغدنا، غدٍ ننسى فيه الصورة المقيتة التي عمل النظام على رسمها لسورييّن علويّين في صورة وحوشٍ منفلتة، غدٍ يعودون فيه خير رفاق أيام الجامعة، و عيون ابنة الجيران الضاحكة، يعودون فيه مسرحياتٍ لسعد الله ونّوس – الرّجل الذي زرع فيّ الثورة باكراً – و رواياتٍ لسمر يزبك و أشعار لهالة محمد و رشا عمران، يعودون فيه نصّاً بديعاً لعادل محمود إذ يكتبنا:
ذات صباح استيقظت الشجرتان الجارتان، منذ خمسين عاماً، فركتا أوراق الفجر، كما يفعل النائم عند الصباح، و فيما تعدّ إحداهما ركوة القهوة، كما في كل يوم، وجدت فأساً مغروسة في المسافة الفاصلة بين الشجرتين. ذعرت الشجرة، و سقطت القهوة على الأرض، فاقتربت من جارتها ناقلةً إليها خبر الفأس كمقدمةٍ لكارثة… فحيث توجد فأس توجد شجرة على أهبة القطع ! لكن الشجرة الثانية ابتسمت، و أصدرت ذلك الحفيف بين الأوراق، علامةً على الغبطة … وقالت حكمتها: إذا لم تعط إحدانا ذراعاً لهذه “الفأس” فهي قطعة حديد تصدأ و تطمرها الفصول!
منقول عن سيريانيوز