.. وحدث ذلك في الثالث عشر من تشرين الأول، لتنتصب الذكرى الخامسة والعشرون لهزيمة الجنرال في «حربه» التحريرية على الوصاية السورية. وما أبدع المصادفات عندما يكون هذا الشهر الذي انتصر فيه نظام الأسد على «انتفاضة عون العسكرية، هو الشهر الذي انهزم فيه هذا النظام أمام اسرائيل. من اكتوبر إلى اكتوبر! ومن تشرين إلى تشرين! ومن 13 الرقم الملعون إلى 13 الرقم الميمون. وها هو النائب عون، يعود اليوم إلى القصر الجمهوري، رمز «حربه» ومركز «قيادته» ومقر حكومته العسكرية (من لون واحد!) وكأنه يعود إلى أطلال! فكأنما لا حدثت حرب ولا كان متحاربون.
بل كأن السوريين لم يكونوا هناك ولا كان الجنرال. حرب أشباح، دمرت البلاد وجعلت الوصاية السورية تهيمن على كل البلد. فالتحرير الذي أراده عون «لدق المسمار الأخير في نعش نظام حافظ الأسد» فتح أمام هذا الأخير كل الطرق التي كانت بعيدة من متناوله. بعد «تحرير» عون وانتصاره من خلال هروبه ولجوئه إلى السفارة الفرنسية، و»نجاته بجلده» ها هو النظام البعثي يبسط هيمنته على كل لبنان.
كأنما تحرير عون حرّر المناطق اللبنانية المستعصية على الأسد إلى مناطق مفتوحة لهم. رائع! لكن هل حدث كل ذلك فعلاً: تدمير القصر، والمناطق واعدام الطاغية حافظ الأسد جنوداً وضباطاً ومدنيين كانوا «يحررون» أو يدافعون عن القصر؟ ربما! حدث! نعم! وربما لا! فالشاهد المادي هو القصر، مسرح «التحرير» والهزيمة معاً. مسرح الاقامة والهروب. مسرح الصمود والفرار. مسرح المواجهة ومسرح الاستسلام. انه القصر الجمهوري تركه عون «خربة» وطَللاً وحرائق ودماً ودمعاً، وها هو في ذكرى «الذل»، ذل الحجارة والحيطان والنفوس، يعود إلى هناك بكل ابهة القائد الذي لا يقهر!
وشتان بعد الرحيل والعودة. غادر عون القصر «وحيداً» مذعوراً معزولاً، محملاً بالخسارة، تاركاً كل شيء وراءه «عدماً» ورماداً، وها هو اليوم يرجع إليه بالزمامير، والهيصات والشعارات والخطب والوقفة التاريخية الشامخة! أما لماذا خطر ببال الجنرال أن يتوجه إلى هناك وأن يتذكر الأحداث الأليمة عليه وعلى كرامته السياسية والعسكرية والوطنية ويرفع الشعار الذي شهره قبل 25 عاماً «التحرير»؟ غريب كأن في هذه الكلمة «الملعونة» عليه، لم تعد تجافيه، بل آلفته، وآنسته في منامه وفي صحوه: نعم! من تحرير لبنان من الوصاية السورية (نتذكر دور ياسر عرفات وصدام حسين!) إلى «تحرير» القصر نفسه اليوم بعد 25 عاماً من الفراغ. تحرير يجر تحريراً، وأحياناً هزيمة تجرجر «نصراً»! فاذا كان الجنرال قد اندحر في تحرير لبنان من السوريين، وحلفائهم (حزب الله، البعث، ودائع حافظ الأسد وعملائه) فها هو يأتي لتحرير القصر بمعية كل هؤلاء وطبولهم وشاراتهم. فصور السيد حسن نصرالله ترفرف (السيد الذي كان يعتبر عون عميلاً اسرائيلياً). رائع! وصور الجنرال طبعاً وأطباق البرتقال الطائرة… ووقفة عز! يبدو أن الجنرال نسي رفع صور حافظ الأسد! ولو! انت وفيّ «لاعدائك» أكثر مما انت وفيّ لاصدقائك! وأين صورة بشار الأسد؟ ولو! ألم يفرش لك السجادة الحمراء في قصره، لتدخل دخول أصحاب الفخامات، تماماً مثلما فرش والده طريق بعبدا بدماء الجنود اللبنانيين. فاللون الأحمر واحد، للتكريم والهزيمة، للذبيحة والانبعاث. عاد مع صور واعلام حزب الله (ولم ينس بوتين! المنقذ الجديد!) لتقوده هذه المرة، لا إلى داخل القصر، بل إلى ذكرياته، وأعماقها، وأغوارها. فعون كالقصر شاهد على ما حدث. القصر بدماره وعون بفراره. لكن اذا كانت أزيلت معالم بربرية نظام آل الأسد عن القصر، وتمت اعادة بنائه، وصار «أجمل» مما كان فان الشاهد الآخر عون نسي شهادته في كل الأمكنة التي عاشها وعاناها وعاينها وها هو «الشاهد» يعود بلا شهادة وبلا ذاكرة. وبلا أحداث، وذكرى شهداء بلا شهداء، وتحرير بلا تحرير، واعداء لم يعودوا أعداء. وهنا تنقلب الشهادة رأساً على عقب. فيصير المجرم بريئاً، والهارب بطلاً، والحليف عدواً وتخفى كل أدوات الجريمة. فكأن ما حدث فعلاً حدث مع غير الجنرال، ومع غير النظام السوري. (ربما مع الجنرال قهوجي والرئيس سليمان).
ولهذا، فمن الظلم أن يشهد على حدث كان سواه فيه. فذاكرته غُسلت جيداً، وتصريحاته وكل ما ارتكب السوريون لا علاقة له بها لا من قريب ولا من بعيد ولا كذلك السوريون. لا أحد؟ فالتاريخ يكذب! اما عون فصادق. والجغرافيا تموه أما عون فواضح! ولكي يعبر عن صدق الشهادة، (وهذا من فضائل الكبار والعظام!) فها هو ينقل الحدث من الماضي إلى الحاضر. من الأسباب والوقائع إلى ما بعدها. فالتاريخ يمكن أن يقفز فوق قرون وأجيال من الأحداث، فما بالك بربع قرن أو بنصف قرن. لا! التاريخ نطناط. وعون ثابت. وها هو وبمعية «أعدائه» السابقين، يُعلن حرباً تحريرية جديدة! ليس على إيران أو اسرائيل… بل على الدولة والجيش والدستور والميثاق والحكومة. لكن هذه الرزمة التحريرية هي من وصفات حزب الله خطها دكاترته وخبراؤه وعسكره وسراياه! واذا كانت وصفة التحرير اليوم من عيادة حزب الله (لتدمير كل شيء في البلد) أترى وصفة حرب التحرير ضد السوريين كانت من دكاترة آخرين كانوا على خلاف مع النظام السوري آنئذ كصدام حسين وياسر عرفات؟ أترى كل وصفات عون التي تتضمن تأملاته «الفكرية» ومشاريعه الاستراتيجية، وبرامج التغيير والثورة والاصلاح كلها مستعارة أو مستظهرة؟ وعندما تسأل عن دور ياسر عرفات وصدام حسين في حرب عون ضد السوريين ألا يجب ان تسأل عن دور حزب الله في حرب عون على الجمهورية، وكل ما يمت بها والتعطيل وكل ما يتصل به، والصوت العالي وكل ما يرفعه والتحدي وكل ما يدفعه والتهديد وكل من يحركه و»التمرجل» وكل من يحث عليه. ولن أقول هنا ان عون «صوت أسياده» لا! فالمسألة اكثر تعقيداً من ذلك. فصوت عون من حنجرة عون. وأصابعه التي يرفعها هي أصابعه. وأفكاره هي من بنات أفكاره الصافية! لا! والدليل ان كل ما قاله في اطلالته الأخيرة التلفزيونية البهية، وكل شعاراته، سبق أن تفوهها النظام السوري (من قبل اليوم) وإيران وحزبها (الذي هو كعون سيد صوته وأفكاره وسلاحه وحروبه التحريرية). فاذا بات عندك «مُحرر» واحد اسمه ميشال عون فما بالك اذا كان عندنا محرر آخر لا يقل اخلاصاً ووفاء هو السيد حسن نصرالله!
محرر واحد قد يكفي أحياناً لتدمير أمة وبلد! فما بالك بمحررين مظللين: واحد حرر الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي ووهبه لاحتلالين سوري وايراني، وآخر حاول تحرير لبنان من سوريا ففتح لها كل لبنان لتهيمن عليه! تاريخ مشترك.
الحنين القديم
لكن اذا كان عون رجع إلى القصر بمشاعر حنين وتوق وهيام ممزوجة بمرارة الفقدان، لتخلط بأحاسيس «الانتصار» (على من؟) والأمل واذا كان رجع ونسي ذاكرته في مكان آخر، فها هو يعود بمخيلة (هي أيضاً من ترتيب اطباء الحزب الالهي) لوناتيكية تُنتج ما تسقطه على الواقع، وعلى الطموحات والاشخاص والأحداث. مخيلة مونودرامية لكن مأهولة بالهواجس، تركب الأحداث التي لم تعد لها أسماء ومناطق واذا استحضر ذاكرته السابقة من حاضر المكتظ بالتحرير فهو يقلب الصور والأشكال والكلمات والدماء رأساً على عقب. فكل «محرر» مُفترض او حقيقي يحتاج إلى «عدو» يمارس عليه حربه، ولا بأس ان تكون افتراضات عون المعلبة أقوى من الواقع. وهو لا يختلف كثيراً عن السيد حسن نصرالله محرر الجنوب من اسرائيل وتسليمه إلى إيران. فهذا الأخير لكي يواصل «مقاومته» المزعومة عليه ان يقنع العالم بأنه ما زال يحارب اسرائيل، لكنه يحارب الشعب السوري، وما زال يدافع عن الحدود، وهو ينتهك الحدود ليدافع عن بشار الأسد، وما زال يتكلم على فلسطين لكن طريقها تمر بالزبداني وليس بالجولان. مثلاً! لكن وعليه، وهذا هو الأساس ان يجترح «أعداء» وعملاء له، لكي يكون لتحرير سوريا من شعبها نكهة «الانتصار» ونكهة الشهادة ونكهة الدم. فنصرالله دائماً مقاوم حتى ولو صار حزبه (وراءه خامنئي) ممثلاً وهكذا عون. فعليه ان يصدق انه «محرر» دائم للبنان: من الفساد (ومن هو مفسد الكهرباء!) والدستور من منتهكيه (وهو المنتهك!) والدولة من مهدميها (وهو هادمها) والميثاق من متجاوزيه وهو أول من تجاوزه: الف أول حكومة عسكرية وأول حكومة من لون طائفي واحد! انه انجاز اذ حرّر «الميثاقية من الميثاقية!» وهو حامي الديموقراطية من اعدائها! لكن من هم اعداؤها: عون لا يعترف بالمجلس النيابي الذي هو تجسيد لديموقراطية الانتخابات ولا بالربيع العربي في مراحله السلمية الأولى ([لأنه قام لإسقاط حليفه) ولا بالتظاهرات إلاّ اذا هو نظمها! ولا يعترف بالحكومة (وكتلته من اعضائها) ولا يعترف بالتمديد لقائد الجيش، ولا برئاسة الجمهورية ولا برئيس المجلس النيابي ولا بالمعارضة! لكن يعترف بالقصر الفارغ الذي «عَاده» ومن يعيد تفقد ما يخطر للمكسور ان يعزي نفسه! واذا كان بشار الأسد بمثابة «القائد» الذي يفصل بين الحقيقة وما يجافيها، واذا كان خامنئي هو «المرشد» التاريخي حامل الكلمة الفاصلة الأخيرة، واذا كان السيد حسن يعطل انتخاب رئيس للجمهورية، لكي يستمتع بمرشديته الأحادية على لبنان، فان عون سبق الكثيرين منهم. فهو الوحيد الواحد الأحد. الذي لا أحد مثيله؛ فهو «الزعيم» «المختار» للمسيحيين ورئيس جمهوريتهم غير المنتخب واذا كان هناك من رئيس عتيد فهو ينتخبه اي ينتخب نفسه. (عادة المجلس ينتخب رئيساً وبما ان عون هو المجلس والنواب نعم، لا ينتخب نفسه بنفسه (تماماً كحافظ الأسد وخامنئي وصدام حسين…) فهو صوت المسيحي الوحيد. يقرر عنهم جميعاً ما يريده: من القانون الارثوذكسي التافه، إلى انتخاب الشعب المباشر للرئيس، إلى قانون انتخابات يقوم على النسبية، إلى أمور أكثر دقة: فهو إذا كان ذات يوم قائداً للجيش، فما زال اليوم قائداً للجيش! وقهوجي غير شرعي. واذا كانت التراتبية في النظام العسكري تعين قائد الجيش فعون هو التراتبية وهو الوحيد الذي يحق له، بين الناس والمسيحيين والمسلمين ان يعين قائد جديداً للجيش. فهو رئيس الجمهورية ايضاً لأنه اقام في القصر الجمهوري كرئيس لوزارة تقسيمية، ومن حق المكان أي القصر أن يمنح سكانه (أي عون) أحقية رئاسة الجمهورية. أما الزعماء المسيحيون الآخرون فلا وجود لهم. ولا عقد «هدنة» مع سمير جعجع في الوقت الذي عقد فيها حلفاً مع حزب الله! لكي يضعف الأحزاب والشخصيات المارونية. وهذا تطور: أحادي الذهن يصير ثنائي الأحلاف: إذاً جعجع يشاطرك الزعامة فلماذا لا يحق له، كحليف لك اختيار رئيس جمهورية؟ اما «الأنا» رفيقته المعظمة رفيقة العظماء في التاريخ كنابليون وهتلر وموسوليني وصدام حسين وحافظ الأسد وبشار…. فهي رفيقته المحورية الممزوجة بكائنه وبشخصيته وبأحلامه ومخيلاته وهواجسه. فعون النائب المحلي يواجه وحده حرباً كونية عليه: «حرباً كونية عالعونية» كما قال في اطلالته الأخيرة. ويرد على هذا الكون الملياري من أميركا وأوروبا والحلف الأطلسي والسعودية والعرب متحدياً هؤلاء كلهم (ما بيعرفوا قوة العونيين!) رائع! لكن لو عاد عون إلى الانتخابات النيابية الأخيرة لتذكر جيداً انه فاز حيث فاز بأصوات سواه: نجح بأصوات الطاشناق في المتن، وبأصوات الشيعة في بعبدا، وبأصوات الشيعة في جبيل وكذلك بأصوات الشيعة والأرمن في كسروان…
أصوات مستعارة
رائع! فمن الطبيعي لمن هو الزعيم الأقوى عند المسيحيين ان ينتصر على خصومه بأصوات مستعارة! (نتذكر ظاهرة تجنيس السوريين في المتن الشمالي أيام الوصاية السورية وسواه لترجيح كفة حلفاء سوريا!). عال يا سيدي: اذاً نحن نعرف «قوة العونيين منيح» . فظاهرة الثبات عند حالة واحدة ابدية «Cristalisation» ملهمة المخيلات اللوناتيكية: فبشار الأسد ما زال يؤمن بنفسه قائداً أوحد في سوريا، وما زال يعتقد انه الرئيس الشرعي وانه يمثل الشعب السوري، والآخرون ارهابيون عملاء وشذاذ وآفاق: فسجين قصره وفضاءات سيطرته (مع ايران) تقلصت إلى 15 بالمئة من الجغرافيا السورية، وها هو يصدق انه ما يزال يمثل سوريا! (ما رأيك يا جنرال) وعلي صالح الذي خلعه الربيع اليمني، لم يصدق انه ما عاد رئيساً للجمهورية بل يتصرف (مع الحوثيين) وكأنه الزعيم الأوحد، والرئيس الخالد لليمن!
وميشال عون يحذو حذو هؤلاء! فهو ومهما ضؤلت شعبيته ما يزال يظن أنه الأقوى شعبية (أين صار الاستفتاء بين جعجع وعون عمن هو الأقوى مسيحياً: يا للتخلف، ويا للكانتونية!(.
ونتذكر أيضاً «الرئيس» إميل لحود، الذي كان يتصرف وكأنه باق بقاء من عينه رئيساً. وأنه يحق له تجديد ولايته لأنه الأقوى بين الآخرين. كل هذه «الأمثال» و»الحكايات» و»أليس في بلاد العجائب» و»اسماعيل ياسين في مستشفى المجانين» و»اسماعيل ياسين في الجيش» وهما فيلمان كوميديان، ما زالت كلها موجودة بمخيلاتها وتهيؤاتها وكوابيسها وحالاتها «الاستثنائية»، وكلها تنشر أن بعض «العباقرة» من «القيادات» والرئاسات، لديها فكرة عن نفسها مختلفة عن فكرة الآخرين لها: ويذكر في ذلك (أي الميغالونيا، أو عقدة العظمة) كيف يرى الهر نفسه في المرآة أسداً«..
إنها مشكلة عمومية! ومن هذه النرجسية بالذات، وهذه المَرَضية «الأنوية» طلعت كل هزائمنا، وطفرت كل حروبنا، لتوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم: النرجسيون المرضى وخصوصاً العدائيين منهم، يدمرون كل شيء حولهم، يعطلون كل شيء لتظهير وجودهم: من تعطيل رئاسة الجمهورية إلى مجلس النواب إلى الحكومة، إلى القضاء، فإلى الاقتصاد، فإلى مصير البلاد!
مصير كل شيء بالنسبة إلى هؤلاء «الممروضين بذواتهم» رهن بأوهامهم وجرائمهم وخياناتهم وعمالتهم وفسادهم: أنا أو لا أحد يعني لا أنا موجود ولا أحد موجود: فقط الغربان تنشد مواويل النصر عندما يكون النصر هزيمة، والعظمة عندما يكون أصحابها… في أسافل الانحطاط والحضيض!
*نقلا عن “المستقبل”