النيل

يعتبر نهر النيل المصدر الرئيسي للحياة في تسع دول واقعة على حوضه وهي : بوروندي , رواندا , تنزانيا , زائير , أوغندا , كينيا , أثيوبيا , السودان , ومصر , حيث يجهز النهر هذه الدول بالماء لسد الحاجة المتزايدة إليه في المنطقة . وبحلول العام 2000 فإن 6 على الأقل من هذه الدول كانت تعاني من شحة حقيقية في المياه , أما بالنسبة للسودان ومصر وهما آخر بلدين

يخترقهما النهر , فمياهه تعتبر ( ثروة قومية ) .

الصراع السوداني المصري حول تملك هذه الثروة القومية ليس جديدا وإنما يعود لتاريخ يرجع الى 20 قرنا خلت , حول من هو

لذي سيتحكم بمصدر الماء الكبير في المنطقة .

الدول الأخرى في المنطقة وهي تطور قابلياتها الإقتصادية , فإن حاجتها الى المياه أصبحت في تزايد مستمر , وطالما أن قابلية نهر النيل على حمل الماء , باقية على حالها , بل ستنقص , ولن تزداد , فإن ذلك سيوسع من إحتماليات النزاعات المسلحة بسبب مياه النيل , بالإضافة الى أن مشاريع التطوير التي تهدف الى زيادة الكفاءة المائية للنهر ستبقى مهددة بالعنف وعدم الإستقرار وكذلك بالمؤثرات البيئية والأزمات الإقتصادية .

يبلغ طول نهر النيل 6650 كيلومتر , ويعد أطول أنهار العالم . وهو النهر الوحيد في العالم الذي ينبع من وسط الكرة الأرضية ليصب في منطقة مدار السرطان , حيث المعتاد أن الأنهار تنبع من الشمال وتصب في الجنوب , يشذ النيل عن هذه القاعدة بسبب إرتفاع وسط أفريقيا وإنحدار جهاتها الشمالية الى مستوى سطح البحر .

إستغرق البحث عن منابع نهر النيل أجيالا الى أن تم التعرف عليها , حيث حددت بمنطقة المرتفعات التي تحيط بحيرة تنجانيقا في بوروندي , ولم يتم التوصل إليها إلا خلال منتصف القرن العشرين .

لمدة قرون بقيت المعلومات عن مصادر نهر النيل مرتبطة بما كتبه المؤرخ اليوناني هيرودوتس ( 460 ق م ) والتي ذكر فيها أن منابع النيل تكمن في مجاهل أفريقيا وتقع بين جبلين كبيرين . أما حين أمر نيرون العلماء بتتبع مصادر النيل لحين الوصول الى منابعه , فإنهم تتبعوا النهر الى السودان وإعتبروا منابع النهر تقع فيه .

إعتقد جون هننج سبيك , أنه توصل الى المنابع الحقيقة لنهر النيل أخيرا , عندما وصل الى بحيرة كبيرة أطلق عليها تسمية ( بحيرة فكتوريا ) وذلك في العام 1862 . لكن وبعد حوالي قرن , ثبت بطلان هذه الفرضية حيث قام مستكشف ألماني مغمور يدعى ( بوركارت والدكر ) عام 1937 بالوصول الى بحيرة تنجانيقا الموجودة في بوروندي , التي تقوم بتغذية بحيرة فكتوريا .

تندفع المياه من بحيرة تنجانيقا الى بحيرة فكتوريا عبر ممر مائي ضيق ومتعرج , ثم ينبثق من بحيرة فكتوريا رافد صغير يتحد مع المياه الساقطة من المنحدرات التي تكون نهر ( النيل الأبيض ) الذي يمضي في مسيرته عبر أراضي المنطقة متحدا مع روافد صغيرة قادمة من كينيا وزائير , بعدها يندفع في الأراضي السودانية ليتحد مع نهر ( النيل الأزرق ) حيث تقع العاصمة ( الخرطوم ) .

نهر النيل الأزرق ينبع من بحيرة ( تانا ) في أثيوبيا التي تشكل مساقطها المائية الغزيرة أكثر من 53% من الحصيلة الإجمالية لنهر النيل .

بعد خروج النيل الى شمال مدينة الخرطوم , يتحد مع الرافد الثالث الكبير والمهم الذي يؤسس نهر النيل وهو نهر ( عطبره ) الذي يستمد ماءه من المرتفعات الأثيوبية أيضا لتصبح أثيوبيا بذلك المجهز الأول لنهر النيل بالمياه وبنسبة تزيد على 80% من مجموع مياه النهر الكلي .

يستمر النهر بالصعود الى شمال السودان ثم يخترق الحدود عابرا الى مصر . حيث إرتأت الحكومة المصرية بناء سد جديد على النهر عند مدينة أسوان .

حين يصل نهر النيل الى شمال القاهرة فإنه يتفرع الى فرعين : روزيتا ( رشيد ) الى الغرب , ودارنيتا ( دمياط ) الى الشرق . في الزمان القديم كانت للنيل تفرعات كثيرة في هذه المنطقة , لكن بطء إندفاع الماء عند مصب النهر والترسبات الملحية , والطمى , أدت الى إختفاء بعض هذه الأنهار وتوسع منطقة الدلتا .

في أيام الفراعنة , كان لنهر النيل ودلتاه رب يعبد هو الإله ( حابي ) ومنذ تلك الفترة , حاولت مصر عدة مرات السيطرة على جميع حوض النيل وذلك بإحتلال السودان الواقع الى الجنوب منها , وفي الحقيقة فالسودان تعرض الى الغزو من قبل الملكة بلقيس ملكة سبأ , ثم غزاه الرومان في عهد نيرون , ثم غزاه المصريون عدة مرات لزعمهم أن السودان قد تغلق عنهم تدفق النيل , فطالما أن تدفق النيل متباين من سنة الى أخرى , لذلك من المحتمل أن يأتي يوم لا يكون فيه ماء .

ولذلك فواحد من سلاطين مصر حين وقعت المجاعة , كان قد بعث سفيرا الى ملك أثيوبيا يطالبه بعدم إعاقة تدفق ماء النيل . وفي حادثة أخرى وقعت في القرن 18 وثَّقها رحالة إسكتلندي ذكر فيها أن ملك أثيوبيا كان قد بعث عام 1704 رسالة الى الباشا المصري هدده فيها بقطع مياه النيل عن مصر .

أما في التاريخ الحديث فإن الصراع حول نهر النيل تجدد في القرن العشرين . وكان البريطانيون أول من لاحظ أهمية نهر النيل لمستعمراتهم الأفريقية .

فخلال قرون كانت الريح وقوة مياه النهر قد نحتت سدودا طبيعية في أرض السودان كانت تحجز خلفها الماء لإستعماله لأطول فترة ممكنة من السنة , لكنها كانت تعيق الحركة الملاحية في النهر . ولهذا فعندما إحتل البريطانيون السودان عام 1898 قاموا مباشرة بتطهير مجرى النهر من الترسبات التي تعيق الملاحة فيه , وقد إستمر هذا العمل حتى عام 1904 حيث بدأ العمل بخطة ضخمة بديلة ( لإحتواء ) مياه النيل وعدم السماح لها بالتسرب .

يدخل الى نهر النيل من روافده المتكونة في أثيوبيا حوالي 80% من مائه ولهذا وقَّع البريطانيون مع ملك أثيوبيا معاهدة 1902 بعدم التعرض لمياه النهر . كما قامت بريطانيا بالضغط على الحكومتين الإيطالية والفرنسية لكي لا تقوم مستعمراتهما الأفريقية بالتجاوز في إستعمال مياه النهر . أما في العام 1929 فقد رعت بريطانيا توقيع إتفاقية مع جميع الأطراف بخصوص إستعمال مياه نهر النيل .

بسبب المستنقعات تضيع الكثير من مياه النيل الأبيض من خلال عمليات التبخر في هذه المنطقة الحارة المكشوفة من أفريقيا فلا تصل الى النهر الرئيسي , ولذلك نصح أخصائيو العلوم المائية في مرحلة مبكرة من القرن العشرين بحفر قناة مائية شرق منطقة المستنقعات لجمع المياه وإيصالها الى النيل الأبيض مباشرة , ولهذا تم تصميم ( قناة جونجلي ) التي درستها الحكومة المصرية عام 1946 ( أيام كان الملك المصري – البريطاني التحالف _ ملكا على مصر والسودان ) وخطط لتنفيذها بين الأعوام 54 – 1959 .

لكن الإنقلاب الأمريكي الذي حول مصر الى جمهورية عام 1952 , ثم فصل عنها السودان عام 1956 حتّم إيقاف العمل بهذه القناة . وما أن بدأ العمل حتى عمَّت حالة عدم الإستقرار السياسي في السودان وعرقلت العمل حتى عام 1984 . في العام 2008 وافقت حكومتا مصر والسودان وبعد توقف لمدة 24 سنة على إعادة العمل بالمشروع .

بعد الحرب العالمية الثانية قامت الحكومة البريطانية بالإعداد لدراسة عن كامل حوض النيل , لكن هذه الدراسة لم تتمكن من إشتمال معلومات عن حوض النيل في أثيوبيا التي تجهز النيل بحوالي 80% من مائه , بسبب التدخل الأمريكي بالضغط على دول المنطقة وبضمنها أثيوبيا . لكن الدراسة صدرت عام 1958 بعد أن كان الأمريكان قد قلبوا نظام الحكم الملكي في مصر وفصلوا عنها السودان , ولا تدري كيف وافقت مصر أو سكتت على فصل السودان عنها وهي دولة داعية وحدة بين العرب .. خططت الإنقلابات والحروب في الوطن العربي بحجة الدعوه الى هذه الوحده!!!

الأمريكان وهم يبحثون عن مصلحة أنفسهم في الشرق الأوسط وأفريقيا , كانوا قد وجدوا أن ( مصر والسودان كدولة واحدة ) سيكون من الصعب عليها خدمة أغراضهم المتعددة , لذلك فصلوا كيانها في العام 1956 الى : ( جمهورية مصر ) و( جمهورية السودان ) حيث كان على مصر إدارة الصراع الأمريكي في الشرق العربي , بينما السودان تدير للأمريكان الصراعات الخفية والمعلنة في أفريقيا , ولا بأس من صراع مصر مع السودان لزيادة الحبكة .

وخلال عشر سنوات تقريبا , كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد ( نظفت ) حوض نهر النيل من جميع القوى الخارجية المسيطرة عليه , ليتحول منذ بداية الستينات من القرن الماضي الى حوض ( أمريكي ) خالص , ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم يعيش سكان الحوض بجميع أقطارهم في حالة نزاعات عرقية وقبلية .. وتحت خط الفقر المتعارف عليه دوليا بأنه : دولار أمريكي وربع لكل إنسان في اليوم الواحد .

منذ العام 1908 كانت زائير تدعى ( الكونغو البلجيكية ) وبسبب كونها من دول حوض النيل فقد كان ينبغي طرد البلجيكيين منها , وهكذا حصلت على ( إستقلالها ) عام 1960 . إندلعت فيها أعمال العنف منذ عام 1965 ثم حكمها موبوتو سيسي سيكو حتى عام 1997 . عاصمتها ( كينشاسا ) وهي دولة أفريقية فقيرة تنحرها النزاعات .

تنزانيا كانت مستعمرة ألمانية ورثتها بريطانيا حين فرضت عليها الإنتداب بعد الحرب العالمية الأولى , ولأن تنزانيا تشرف على بحيرة تنجانيقا التي تعد المصدر الأول لنهر النيل لذلك كان ينبغي طرد بريطانيا منها , وعملية الطرد لم تكن سهلة أبدا , لذلك تمت على مرحلتين : الأولى حين حصلت تنجانيقا على ( إستقلالها ) عام 1961 أما الثانية فكانت حين حصلت زنجبار على ( إستقلالها ) في كانون الثاني 1964 .

في نيسان 1964 توحدت تنجانيقا مع زنجبار بما أطلق عليه ( جمهورية تنزانيا المتحدة ) حيث جاء الإسم تنزانيا من دمج كلمتي تنجانيقا وزنجبار .

عاصمتها هي ( دودوما ) أما مدينة دار السلام فهي واحدة من مدنها الكبرى . وتعد تنزانيا اليوم واحدة من أفقر دول العالم , والأكثر تدنيا في التطور ومواكبة الحياة , والأكثر إعتمادا على المساعدات الخارجية .

بوروندي أيضا كانت مستعمرة بلجيكية , حصلت على ( إستقلالها ) عام 1962 ومساحتها 28 ألف كيلومتر أي أنها ليست أكثر من مدينة صغيرة وفيها حي صغير يدعى العاصمة ( بوجمبورا ) وتعد بوروندي واحدة من الدول العشرة الأفقر في العالم .

رواندا حصلت على ( إستقلالها ) عن بلجيكا عام 1962 أيضا , وتدعى ( بلاد الألف تل ) تسقط فيها الأمطار بغزارة وهي أحدى دول حوض النيل . وقعت فيها مجازر الهوتو والتوتسي عام 1994 راح ضحيتها حوالي مليون قتيل , لكن هذا ليس مهم في عصر الديموقراطية فرغم هذا الموت الأسود ( وياللفرحه ) أصبحت رواندا أول بلد في التاريخ ينتخب مجلسه االتشريعي وغالبية أعضائه من النساء .. بينما ثلاثة أرباع سكان البلد يعيشون تحت حد الفقر ويموتون جوعا . عاصمة البلد هي ( كيغالي ) .

أوغندا هي الأخرى واحدة من دول حوض النيل وكانت مستعمرة بريطانية . حصلت على ( إستقلالها ) عام 1962 ولحد اليوم فإن ما يزيد على نصف سكانها يعيشون تحت خط الفقر . عاصمتها ( كمبالا ) .

أثيوبيا التي تدفع الى نهر النيل ما نسبته حوالي 80% من مائه كانت إمبراطورية أفريقية عاصمتها ( أديس أبابا ) . خضعت أثيوبيا للنفوذ الإيطالي منذ عام 1936 وحتى عام 1941 .

لكي تتم السيطرة على مقدرات هذا البلد , تم دفع حكومة شيوعية الى قلب نظام حكم الإمبراطور ( هيلاسي لاسي ) عام 1974 فعمت الفوضى التي إستغلها الأمريكان لتهريب يهود ( الفلاشا ) الأثيوبيين الى إسرائيل _ وحتى العام 1991 كانوا قد نجحوا في تهريب 36 ألف أثيوبي الى إسرائيل , وشقوا عن أثيوبيا ساحلها على البحر الأحمر مؤسسين به دولة أرتيريا , إضافة الى فرض السيطرة على منابع نهر النيل .

كينيا وهي اليوم ( جمهورية شبه رئاسية ) كانت قد حصلت على ( إستقلالها ) عن بريطانيا عام 1963 وقبل هذا التاريخ كانت تعرف بإسم ( شرق أفريقيا البريطاني ) . عاصمتها ( نيروبي ) وهي لا تختلف عن بقية جارتها في حوض النيل من حيث الفقر والنزاعات .

بعد هذه اللمحة السريعة عن دول حوض النيل نجد أن عملية طرد النفوذ الأوربي منها بدأت من مصر عام 1952 وإنتهت في زنجبار عام 1964 ورغم أن هذه الدول جميعا هي دول زراعية , إضافة الى غنى أراضيها بمناجم الماس واليورانيوم والنحاس والذهب .. إلا أنها من أفقر دول العالم .

سد أوين في مدينة جنجا الأوغندية من المشاريع الكبرى المنفذة على نهر النيل , حيث يوفر الطاقة الكهربائية لكل من أوغندا وكينيا بالإضافة الى قابلياته الإروائية . أقيم السد على نهر النيل حال خروجه من بحيرة فكتوريا . وقد تم إنجاز العمل كاملا في العام 1954 حين كانت أوغندا مستعمرة بريطانية .

بعد عامين من حرب السويس التي كانت مصممة لطرد الفرنسيين والبريطانيين من مصر , دعت مصر الى إنشاء مشروع ضخم على نهر النيل ينظم عملية إستهلاكها لمياهه . ولهذا تقرر بناء سد أسوان العالي . يبلغ طول السد 3,6 كيلومتر وإرتفاعه 111 متر أما سمك الحاجز الإسمنتي للسد الذي يحجز خلفه مياه النهر فقد بلغ 980 متر . المياه التي تجمعت في الوادي الموجود خلف السد دعيت ( بحيرة ناصر ) ويبلغ طولها 500 كيلومتر .

أما لماذا دعي هذا السد ب ( العالي ) ؟ فبريطانيا كانت تسيطر على مصر ما بين 1882 _ 1952 ولهذا كانت قد بنت للمصريين سدا تم الإنتهاء منه عام 1902 يدعى ( سد أسوان ) وهذا السد قائم وموجود حتى اليوم الى الشمال الغربي من سد أسوان العالي الجديد .

عند شروع مصر في التخطيط لبناء السد العالي وقَّعت مع السودان إتفاقية 1959 التي نصت على رفع كمية الماء التي يحق للسودان إستهلاكها من 4 مليار متر مكعب في العام التي تم الإتفاق عليها عام 1929 الى 18,5 مليار متر مكعب , كما منحت الإتفاقية للسودان الحق في المباشرة بتنفيذ مشاريعه المائية مثل ( قناة جونجلي ) و ( سد الروصيرص ) وفي المقابل منحت الإتفاقية الحق لمصر في إنشاء السد الذي سيكوِّن بحيرة تبلغ مساحتها 6,500 كيلومتر مربع وستغمر العديد من القرى السودانية الواقعة على الحدود مع مصر .

بإعتبار أن مصر هي آخر دولة يمر بها نهر النيل , فليس من حقها أن تتخذ أي إجراء يتعلق بقفل النهر أو إقامة سد عليه , دون الرجوع الى جميع دول حوض النهر , لأن تصرفها هذا قد يؤدي الى مشاكل محددة حالية أو مستقبلية نتيجة تصاعد مستوى الماء في عموم الحوض بسبب الإقفال .

أثيوبيا بالتحديد التي تنتج 80% من مياه النيل لم تتم حتى إستشارتها بالموضوع , وكانت مصر عند شروعها ببناء السد العالي لا تقل فرعنة وعنجهية وأنانية عن تركيا حين باشرت بناء سد أتاتورك على الفرات .. رغم الفارق الكبير بين الدولتين .. لأن تركيا دولة منبع , بينما مصر دولة مصب .

ولهذا حين بدأت أثيوبيا بعد ذلك تحاول إيجاد حلول لنسبة المياه الكبيرة التي بدأت تنحصر في أراضيها .. بدأت تعلو نبرة إتهامها بأنها تسعى الى تحويل مجرى نهر النيل .. أو حتى أنها ( ستقوم ببيع مائه الى إسرائيل ) .

ورغم توقيع إتفاقية 1959 بين مصر والسودان إلا أن سكان المنطقة التي ستغرقها بحيرة ناصر في البلدين لم يأخذ رأيهم بشأن أملاكهم وأرضهم , ولهذا ففي الستينات من القرن الماضي خسر ما يزيد على 100 ألف نوبي من سكان منطقة ( النوبة ) السودانية المصرية مساكنهم وأراضيهم .. وتم ترحيلهم من النوبة الى مناطق أخرى .

لكي تبني مصر السد العالي , كان عليها إقتراض مليار دولار من الخارج , وقد رفض البنك الدولي الأمريكي إقراضها هذا المبلغ ( ولا تدري لماذا ؟ مع أنها جمهورية أمريكية ) هل كان عبد الناصر وقتها مغلوبا على أمره فطلب العون من الإتحاد السوفييتي لبناء السد ؟

لماذا إذن شيدت سوريا سد ( طبقة ) بجهود سوفييتية أيضا مع أنها جمهورية أمريكية منذ منتصف الحرب العالمية الثانية ؟ لماذا خبرات الري التي عملت في كل مشاريع العراق الجمهوري ( الأمريكي ) كانت سوفييتية ايضا ؟

أليست هذه لعبة مقاولات دولية ؟ يتسلم فيها المستعمر الأمريكي بلداننا بحجة التحرير ثم يسلم ( مقاولات من الباطن ) الى مقاولين آخرين يعملون معه في نفس الشركة .. لكي يعم النفع ويبقى الشركاء متحدين بوجه خصم عتيق يراد تسليبه كل البقاع التي يسيطر عليها ؟

هل كانت الحرب الباردة إذن ضد الإتحاد السوفييتي ؟ أم كانت ضد بريطانيا وفرنسا وبقية الإمبراطوريات الإستعمارية القديمة التي يراد تسليب مستعمراتها بحجة الحرب على الشيوعية ؟ تماما كما يحصل الآن في الحرب على الإرهاب التي بدأت مباشرة بعد إنهيار الخصم التقليدي القديم عند تفكيك الإتحاد السوفييتي ؟ والضحية هي شعوب الأرض التي لاناقة لها في هذا القتال ولا جمل

مع أن أصول الإرهاب في الحقيقة هي صناعة أمريكية ؟

عادة وفي كل الصراعات السياسية التي تقع بين الدول المتشاطئة على أنهار مشتركة , فالأزمات الكبرى تقع بعد الإنتهاء من بناء السدود والبدء بملء خزاناتها الكبرى , لأن هذه العملية تخل بالموازنات المائية للمنطقة وتؤدي الى تفجر الصراع . الآن ونحن نقف عند مرحلة الإنتهاء من بناء سد أسوان العالي .. وكان على مصر أن تبدأ بملء بحيرة ناصر , وهذا العمل يستغرق سنوات طويلة لكي تمتليء البحيرة , فيبدأ السد بالعمل بكامل طاقته الفعلية .

قلنا إن إتفاقية 1959 بين مصر والسودان نصت على أن تكون حصة السودان من ماء النيل هي 18,5 مليار متر مكعب سنويا .. مقابل 55 مليار متر مكعب لمصر تؤمن لها سرعة ملء بحيرة ناصر , ولتأمين هذه الكمية كان ينبغي التفكير مرة أخرى بشق قناة جونجلي المتوقف العمل بها منذ عام 1952 عندما تحولت مصر الى جمهورية .

ما أن فكرت الحكومتان المصرية والسودانية بإحياء المشروع القديم ( قناة جونجلي ) وإقترضتا من أجل ذلك 100 مليون دولار من البنك الدولي الأمريكي .. حتى كان ( من محاسن الصدف الديمقراطيه ) العثور على خزين من النفط في جنوب السودان عام 1978 .

السودان دولة فقيرة شعر فيها أهل الجنوب أنهم بثروة النفط من الممكن أن يغيروا واقعهم المر خصوصا وأن أغلبهم من المسيحيين وبينهم بعض القبائل الوثنية , وهذا حاجز آخر يفصلهم عن شمال السودان المسلم .. عندها قويت لديهم نزعة التمرد .

من محاسن الصدف ( الديموقراطية أيضاً ) أن زعيم حركة التمرد ( جون قرنق ) كان قد حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ( أيوا ) الأمريكية عام 1981 عن أطروحته الموسومة (( أثر قناة جونجلي على السكان المحليين لجنوب السودان )) وبعد ان كانت القضية حرب نفط .. صارت الآن حرب ماء ونفط .. عندها إندلع القتال في جنوب السودان منذ عام 1983 ولم ينته إلا عند العام 2005 .

هذه الأحداث في جنوب السودان أدت الى وقف الحفر في قناة جونجلي عام 1984 ولم يستأنف العمل بها حتى عام 2008 .

الحاجة المتزايدة للماء تدفع جميع الدول المشتركة بنهر النيل للصراع فيما بينها , فهناك تقارير تؤكد أن مصر كانت قد خططت للقيام بغارة جوية على الخرطوم في آب 1994 لكنها ألغتها في آخر لحظة , وكانت بسبب سد جديد تنوي الخرطوم العمل على بنائه .

كما تواصل التصعيد السياسي بين البلدين الى حد إتهام السودان بمحاولة إغتيال حسني مبارك في صيف 1995 . كما وقعت بين لبلدين العديد من المعارك والمناوشات الحدوديه .

مثلما وقفت مصر ضد مصلحة أثيوبيا بالإنتفاع بنهر النيل عند إنشاء السد العالي , قامت في أوائل عام 1990 بالحيلولة دون أن يقدم ( البنك الأفريقي للتنمية ) قرضا لاثيوبيا للقيام بمشروع تدَّعي أنه يقلل من تدفق مياه النيل إلى مصر . وترى ( الوكالة الأمريكية للتنمية ) هذا السلوك المصري غير مبرر نظرا لتنبؤ الوكالة أن مصر سوف تعاني من العجز المائي بنسبة 16 _ 30% بحلول نهاية القرن إن لم تفعِّل مصر مشاريعها الوطنية لإستغلال مياه النيل .

لهذا قررت الحكومة المصرية شق قناة الوادي الجديد معتمدة على مبدأ الإكتفاء الذاتي , وهذه القناة ستتدفق عبر الصحراء الغربية لتربط الواحات الموجودة مع بعضها , مما سيوفر فرصة نشر السكان على منطقة واسعة من أرض مصر وبعيدا عن نهر النيل حيث يعيش قرابة 62 مليون إنسان على 4% فقط من أرض البلد كما أنها ستتيح الإستفادة من مقدار أكبر من أرض مصر التي هي أصلا تربة جيدة وتصلح للزراعة فيما لو توفر لها الماء .

كلفة هذا المشروع 2 مليار دولار .. لا تملكها مصر , وهذه ليست مشكلة , لأن المشكلة الحقيقية هي : من أين ستحصل مصر على الماء الذي يؤمن إنسيابية هذه القناة بمبدأ ( الإكتفاء الذاتي ) ؟

أليست هذه حلقة مفرغة من الصراعات المتزايدة حول إستغلال مصدر محدود ؟ فهل ستتحقق نبؤة المطرب عبد الحليم حافظ في أن ( اللي شبكنا يخلصنا ) ؟

هل الذي شبك المنطقة بهذه الطريقة ناوي يبيع سلاح للفرقاء لحل نزاعاتهم بطرقهم الخاصة ؟ أم ناوي يملي حوض النهر كوكاكولا ما دام الحل الإنساني الشامل والعادل غائب عن العقول ؟ ميسون البياتي – مفكر حر؟

About ميسون البياتي

الدكتورة ميسون البياتي إعلامية عراقية معروفة عملت في تلفزيون العراق من بغداد 1973 _ 1997 شاركت في إعداد وتقديم العشرات من البرامج الثقافية الأدبية والفنية عملت في إذاعة صوت الجماهير عملت في إذاعة بغداد نشرت بعض المواضيع المكتوبة في الصحافة العراقية ساهمت في الكتابة في مطبوعات الأطفال مجلتي والمزمار التي تصدر عن دار ثقافة الأطفال بعد الحصول على الدكتوراه عملت تدريسية في جامعة بغداد شاركت في بطولة الفلم السينمائي ( الملك غازي ) إخراج محمد شكري جميل بتمثيل دور الملكة عالية آخر ملكات العراق حضرت المئات من المؤتمرات والندوات والمهرجانات , بصفتها الشخصية , أو صفتها الوظيفية كإعلامية أو تدريسة في الجامعة غادرت العراق عام 1997 عملت في عدد من الجامعات العربية كتدريسية , كما حصلت على عدة عقود كأستاذ زائر ساهمت بإعداد العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الدول العربية التي أقامت فيها لها العديد من البحوث والدراسات المكتوبة والمطبوعة والمنشورة تعمل حالياً : نائب الرئيس - مدير عام المركز العربي للعلاقات الدوليه
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.