من المعروف في المجتمعات الابوية -البطريركية، كما في المجتمعات العربية عموما، هو ان العائلة أبوية- ذكورية تعمل على بناء شخصية خاضعة تميل الى الخضوع للكبار والاذعان للعائلة وكذلك للسلطة عبر تربية أبوية صارمة تعلم الافراد الخضوع والطاعة العمياء، حيث يمثل الاب القوة والسلطة والام والاولاد الطاعة والخضوع. وحينما ينشأ الاولاد، يقوم الولد بتقليد الأب ومحاكاته واخذ دوره في التسلط على اخته أولا ثم على عائلته بعد الزواج ثانيا. وتقوم البنت بتقليد الأم واخذ دورها الخاضع والانصياع الى أوامرالذكر ونواهيه. وينتقل التسلط من العائلة الى العشيرة ومنها الى المدرسة والشارع والدوائر والمصانع والى جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.
ان الخضوع وعدم مخالفة الأوامر تجعل الفرد ينفذ تلك الاوامر بدون أي رفض أو احتجاج.وبذلك يكون الطفل المطيع ” ولدا طيبا يسمع الكلام دائما”. ولكن عندما يكبر الولد المطيع ويتكيف مع ضرورات المواقف تحدث عنده ردود افعال مناقضة ويبدأ بتطوير عدوانية مكثفة ضد أبيه وضد معلمه وكذلك ضد الموظف والشرطي وغيرهم، كما يضطر، بسبب الخوف والاحترام الزائد للقيم وغيرها، الى كبت هذه العدوانية، التي من الخطر عليه اظهارها، غير انها تتحول بالتدريج الى عامل ديناميكي في بناء شخصيته وتكون لديه قلقا واضطرابا وتدفعه الى ان يخضع الى اكثر من جهة، وفي ذات الوقت، تخلق له تحديات وردود افعال موجهة الى الاخرين والى الحياة نفسها بصورة عامة. كما ان ردود الافعال هذه توثر سلبا على شخصيته وتطور بمرور الزمن سمات جديدة وتصبح جزء من شخصيته.
ومن المعروف ان السلطة الاستبدادية غالبا ما تبحث عن الانسان الضعيف الخاضع وتحاول تطويع عقله ضمانا لتطويع جسده وتستخدم لذلك آليات مختلفة من بينها قتل البعد العقلاني النقدي وتحريفه وتطوير مسلمات تبريرية، كنظرية المؤامرة والاعداء الجدد وغيرها لخلق مسوغات تساعد على فرض قيود ومحرمات وعوائق تقيد الفكر وتصب عادات وانظمة جديدة في قوالب جاهزة في البنية الذهنية تقف سدا منيعا امام أي مقاومة تبديها الفئات الاجتماعية المقهورة، التي تفضي بمرور الوقت الى تطويع الجسد واخضاع العقل واضعاف الاحساس بالمسؤولية ، التي تسهل عملية الخضوع. ولما كانت المسؤولية هي الوجه الاخر للحرية، فانها ستتحول الى شبح مخيف يهرب منه الانسان الضعيف. ونجد امثال هؤلاء الضعفاء الخاضعين في المجتمعات ذات الانظمة الاستبدادية الشمولية، الذين يعيشون سنوات طويلة تحت وطأة الاستبداد والقمع والقهر ولا يذوقون طعم الحرية، يصبحون مسلوبي الحرية والارادة والحس بالمسؤلية ويخضعون لقناعات تسوغ لهم الخضوع والتكيف معه وتجعلهم مقهورين ومضطهدين وغير قادرين على الرفض والتحدي والمقاومة وتغيير الواقع البائس الذي يرزحون تحته. ولكن الادوار قد تتبدل حلما تسنح الفرصة المناسبة. فالشخصية الخاضعة المستسلمة للأمر الواقع، والقابلة بالخضوع للقهر والظلم والاذلال، قد تتحول فجأة الى الى شخصية اخرى وتكون مناقضة لشخصيتها الطبيعية المسالمة، خصوصا عندما يكون لديها استعداد سايكولوجي لان تتحول بدورها الى شخصية عدوانية قامعة، تماما كما حدث لكثير من الاشخاص في العراق وغيره عندما تحولوا الى الانخراط في اجهزة الامن والاستخبارات أو في الميليشيات والعصابات المنظمة وغير المنظمة واخذوا يمارسون العنف بشكل او اخر . أو حين يتحول اشخاص مقهورين وخاضعين الى اشخاص ساديين متسلطين على الاخرين، وخاصة على الضعفاء والمهمشين الذين هم مضطرين الى طلب المساعدة او العون المادي أو المعنوي، أو حين يستدرج المرء لطلب ثأر قديم أو رد ظلم منسي أو تعويضا عن معاناة طفولة بائسة أو رد على عقاب فردي او جماعي كان قد تلقاه هو في المدرسة او الشارع من زمن الطفولة أو امه او احد افراد عائلته وغير ذلك.
ان الانسان الضعيف والعاجز امام القوة الابوية المتسلطة التي يفرضها الحاكم او الشرطي او الشيخ او المعلم او الموظف الذي يمتلك صنع القرار اذا لم يستطع التملص من التسلط فليس امامه سوى الرضوخ وبذلك يفقد السيطرة على مصيره ومستقبله. وبدلا من المقاومة والرفض يقوم بسلوكات تعويضية كالتزلف والاستسلام والمبالغة في احترام المتسلط وتبجيله ، اتقاء لشره من جهة، والطمع في رضاه من جهة ثانية، والامل في العيش بسلام لانه لا يستطيع الرفض والتمرد والمجابهة من جهة ثالثة. وفي هذه الحالة تنعدم علاقة التكافؤ لتحل محلها علاقة التشيؤ، وذلك لعدم وجود اعتراف بالأنا كقيمة انسانية.وهكذا تتطور علاقة جديدة ومن نوع آخر حيث يصبح “الآخر هو الجحيم”. وكلما تتضخم ذات المتسلط تفقذ ذات العاجز أهميتها واعتبارها وفاعليتها، حتى لتكاد تفقد انسانيتها مثلما تفقد الاحساس بمعاناة الاخرين والتعاطف معهم وكذلك تزداد المخاوف من الاخر والحاجة الى الامن والطمأنينة ويصبح الانسان نهبا للقلق واللامبالات، بحيث ينطبق عليه قول المتنبي :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح ميت ايلام.
ان هذه العلاقة ليست جامدة دوما، حيث تغلب عليها حالة التذبذب حين يحاول الانسان العاجز الانتقام لدونيته باساليب خفية وملتوية، كالامبالات والتخريب واستخدام اساليب رمزية اخرى كالتنكيت والتبخيس والتشنيع والدعاية المضادة وكذلك الغش والتملق والمراوغة والتضليل، وهي سلوكات مزدوجة في العلاقة مع الاخر تعكس رضوخا ظاهريا من جهة، وعدوانية خفية من جهة اخرى، وهي محاولة تضليل ونوع من الشطارة في رد المتسلط من قبل العاجز الذي يتربص به الدوائر لينال منه ما يستطيع ويثأر لذاته الجريحة. ولكن عندما لا يستطيع المضطهد والعاجز عن رد الاضطهاد والنيل من المتسلط، فانه يوجه عنفه وغضبه وثاره نحو الاخر وبالاسلوب االذي تسمح به الظروف، وهو حل وسط بين التمرد والخضوع. فهو يفتش احيانا عن آخر يحمله وزر قهره واضطهاده وعجزه واخطاءه وكذلك عدوانيته، وهو لا يكتفي بادانة ذاته، وانما يدين الآخرين ويشركهم معه ويوجه اللوم اليهم ، بل ويحملهم المسؤولية، وبالتالي يصب غضبه وعدوانيته عليهم، محاولا بذلك اسقاط الاحساس بالذنب وإلقائه على الآخرين، ليس على المتسلط الحقيقي، وانما على المقهور والمستضعف والاكثر عجزا. وهنا نلاحظ ايضا ان الانسان الخاضع قد يستخدم اساليب المتسلط نفسه ولغته ، مع الاختلاف في دوافع كل منها.
غيران هذا التماهي بالمتسلط هو قلب للادوار وتبريرها والتصرف بعقلية المتسلط واساليبه ، التي يحاربها. فهو يتعالى ويستبد ويظلم ويمارس اعمال القمع والقهر التي كان يرفضها. وبذلك يصبح القاتل والضحية واحدا. كما ان التماهي بعدوانية المتسلط تجر الافراد الى ممارسة التسلط على من هم دونهم او اضعف منهم، عن طريق تلمس الحضوة والتقرب من المتسلطين وتقديم الخدمات لهم وذلك من خلال استعراض القوة او حمل السلاح او المباهاة بها والتعالي على المقهورين واستغلال الفرص السانحة، كأستعمال النفوذ وفرض ” الخاوة” والتهديد والخطف والابتزاز واخذ الرشوة. وهذا يعني تبني قوة المتسلط واستغلالها لحسابه وفرضها على الاضعف و تمثل قيم واسلوب حياته ونظرته الى الامور وتقليد شعاراته وازيائه وحركاته وكلماته، كما عمل بعض العراقيين في تقليدهم لصدام حسين او الليبيين لمعمر القذافي في أوج قوتهما وتسلطهما. وهكذا تتحول تطلعات المتسلطين الصغار الى مزيد من الخضوع والرضوخ لشروط المتسلط الذي يرمي لهم بالفتات، مما يحولهم الى ادوات مطيعة لتنفيذ غاياته وتحقيق اهدافه.
وغالبا ما تبدو الميول السادية مقنعة بالحب، حيث يزعم البعض بان التحكم بالشخص الاخر هو تعبير عن الحب. غير ان العامل الجوهري في ذلك هو الاستمتاع بالهيمنة والتسلط والتلذلذ بها.ولكن في حالات قليلة اخرى ينقلب المقهور الخاضع الى شخص متمرد فيثور ويتخطى قهره وعجزه فيكسر حاجز الخوف ويحطم سادية المتسلط وجبروته. واذا لم يستطع تحقيق ذلك، يتجه الى الانسحاب والتقوقع على الذات بدل المجابهة، بسبب الشعور الداخلي بالعجز وقلة الحيلة، لان طموحاته محدودة واهدافه قريبة المنال. فهو يحاول ايهام ذاته بتقبل هذا المصير المفروض عليه، الذي يبرره بالقضاء والقدر و” المكتوب في الجبين لازم ترآه العين “.
ان هذا التبرير يحدد بدوره طموحاته ويقلل الفرص امامه ويضطر الى ترك ذلك الى الظروف تسير حياته وترسم مستقبله، تحاشيا الى كل ما يعرضه للخطر وتجنب أي علاقة مباشرة بالمتسلط ويتهرب من كل مسؤولية ويقف كالمتفرج ويقول ” انا شعلية”.
ان الوقوف على السطح واللا مبالاة بما يجري على مسرح الاحداث يعتبر آخر مراحل الاستسلام والدونية، ويشكل في الحقيقة ستارا واقيا يخفي المرء فيه ضعفه وبؤسه واستلابه ويكون عنده “جرحا نرجسيا” هو اكثر عناصر الوجود الانساني ضعفا ومهانة. وهو يحاول تغطية ذلك والتستر عليه باشكال من الاستعراض الاستهلاكي والادعاء والتبجح وخداع الاخرين بالمال والجاه والقوة والحيلة وغيرها.
وهناك من يبرر التمادي في اضطهاد المواطنيين واخضاعهم ويوجه اللوم اليهم بسبب عجزهم واستكانتهم معللا ذلك بان البلد رضخ منذ مئات السنيين الى انظمة استبدادية قمعية حولته الى شعب اعزل لا حول له ولا قوة وجعلته يستهين بالرضوخ لحاكم يمنحه سلطة الأب البطريركي القائد من جهة، ويقول بان مثل هذا الشعب لا يستطيع ان يمارس الحرية والديمقراطية، واذا سمح له بذلك فسوف تعم الفوضى ويتحول المجتمع الى غابة والناس الى ذئآب يأكل بعضهم بعضا من جهة اخرى. وبالرغم من ان هذه التعميمات غير دقيقة وتبريرية، فقد تكون لها مصداقية في ظروف تحولات بنيوية قاهرة تمر بها بعض المجتمعات. ولكن يجب ان لا تستغل مثل هذه التعميمات في نشر واشاعة ان الناس هم بحاجة الآن الى “كارزما” ومخلص ينقذهم من هذه الفوضى. وبمعنى آخر، الدعوة الى سلطة قائد قوي يلوي رقابهم من جديد حتى تستقيم أمورهم. ان هذه الدعوة هي مؤشر على ميل الانسان الضعيف والمقهور للخضوع الى دكتاتور يحسم امرهم، لانهم غير قادرين على ان يكونوا احرارا ومتساوين ومسؤولين عن حياتهم وقدرهم.
المصدر ايلاف