النصف الثاني من الحياة

أحيانا تُدهشك الصدفة إلى حد الذهول، فتتساءل: هل هي مجرد صدفة أم خطة بالغ الكون في دقتها؟
……….
لا أحد من أولادي يعي عمق تعلقي بالقراءة ومدى ادماني عليها كصغيرتي أنجيلا. لذلك، تحمل لي كل عيد ميلاد ماهبّ ودبّ من الكتب كهدية تتوخى منها رسم البسمة على وجه أمها. هذا العام جلبت لي عشرة كتب ووضعت الفاتورة في الكيس كي أعيد إلى محل بيع الكتب مالا أحبه منها (على حد تعبيرها)
مالا أحبه منها؟؟؟؟ وهل أملك قلبا لأقول: هذا الكتاب أو ذاك لا أحبه؟طبعا لا…. حتى الكتاب الذي لا أتفق مع فكرته يساهم في توسيع مداركي! ومع هذا سأعيد أربعة كتب وأستبدلها بكتب أخرى، ببساطة لأنني أملكها في مكتبتي، وليس لأنني لم أحبها.
………………
الصدفة أنني وبعد أن غادر أخر ضيف من ضيوف عيد الميلاد، ركضت إلى غرفتي كي أستمتع بتلك الهدية الثمينة. أول كتاب وقعت عليه يداي، كان بعنوان
The Second Half of Life
(النصف الثاني من الحياة) والنصف الثاني يبدأ عادة بعد الخمسين…. أذهلني الفصل الأول، والذي لم أقرأ غيره بعد. في ذلك الفصل تصرّ الكاتبة، وطبعا بناءا على دراسة تاريخية ومن ارض الواقع، تصرّ على أن الإنسان يميل في النصف الثاني من حياته إلى قراءة الكون بطريقة رمزية! اصرارها هذا وضع حدا لاتهامي لنفسي بأنني بدأت أخرّف، فبعد نصف قرن كنت أتعامل خلاله مع الحياة كجدول الضرب، بدأت أقرأ الكون بطريقة رمزيّة وأقل حدّية. عبارتها أعادت إلي بعضا من توزان عقلي كدت افقده، وأكدت لي أن الإنسان ـ على مايبدو ـ مسلك دماغيا (مبرمج سلكّيا) على أن يبدأ في النصف الثاني من حياته فهم الكون بطريقة رمزية وبالتالي يستوعبه روحانيا…..
……………..
أجمل مافي الفصل الأول ان الكاتبة استشهدت بقول للفيزيائي والفيلسوف الروماني
Basarab Nicolescus
جاء فيه:
What keeps me alive is found between the images, between the words, between thought, the emptiness of feeling, and in the emptiness of the body…..There arises the fullness and significance of life
(ما يساعدني على الاستمرار في الحياة هو ما أراه بين الصور، بين الكلمات، بين الأفكار ما أراه عند غياب المشاعر…وفي الفراغ الذي يبقى بعد أن تتلاشى المادة… من هذه الأمور تنبثق حقيقة الوجود وعظمة الحياة)
……
نعم في النصف الثاني من الحياة يبدأ الإنسان بالبحث عن معنى الوجود، وهل حقق الغاية من حياته. لن يجد ضالته إلا في الأماكن التي لم يزرها بعد… ولذلك، يترك الكلمات ليركز على ما بينها…. ويترك الصور ليركز على الثواني التي تفصلها…
ويترك المشاعر ليركز على لحظات غيابها… ويترك الجسد وكل ماهو مادي ليركز على الفراغ الذي يبقى في حال زوالها…
عندها وعندها فقط يبدأ بفك شيفرا الكون، كي يفهم لغزه ويشعر بالحبل السري الذي يربطه به.
…..
أفتح باب بيتي في الصباح الباكر لأرى سنجابا يقف على بعد خطوات مني محملقا في عيني، وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة
أتساءل: أي رسالة تحمل لي يا جاري العزيز؟ ويأتني الجواب فكرة مجنونة، لأراها تتحقق في نفس اليوم….. أذهب في رحلة تأمل واستجام بين أشجار حقلنا، وإذ بأرنب صغير ـ يبدو أنه ولد لتوه وقد ضيّع أمه ـ ينط أمامي، فيتملكني شعور خاطف من أن صغيرتي أنجيلا في مأزق وستتصل بي اليوم من أجل حاجة ملحة، وفي اللحظة التي أدخل بها البيت يرن جرس الهاتف ليداعبني صوتها الرخيم متوسلا…. وهكذا دواليك….
…..
قرأت الفصل الأول من الكتاب في آخر الليل، لأتفاجئ في الصباح برسالة كونية جاءت لتعزز فكرة الكتاب، ولتبدد حالة من القلق تملكتني منذ حوالي اسبوع…. كان منشأها قضية تتعلق باعمالي، واعياني انتظار حل لها! كنت على يقين من أنني سأسمع عنها بعد عيد الميلاد مباشرة، ولذلك استفحل القلق ذلك الصباح….. المهم توجهت فور استيقاظي إلى مطبخي كي أخرج منه إلى الحديقة الخلفية لبيتي حيث أمارس طقوسي الصباحية…. لم أكد ألقي نظرة على الجمال الطبيعي الذي يتمادى خلف نافذتي ، حتى صعقتني رؤية عصفور صغير ينط من مكان إلى آخر داخل المطبخ. كل مساء أدير جهاز الأنذار في البيت وقبل الذهاب إلى النوم، وجهاز الانذار من المستحيل أن يشتغل إذا كان هناك شباك أو باب مفتوح، فمن أين دخل هذا الزائر الجميل؟ وماذا يحمل لي من رسالة؟؟ لا شكّ أنها رسالة جميلة ومطمئنة! بعد حوالي ساعة رن جرس الهاتف ليحمل لي نبأا بدد مخاوفي
واستبدل قلقي بفرح عامر…..
…..
افضل طريقة لتبرهن بها على أنك تملك عقلا, اعطه اجازة واستمتع بلحظة خرف….. فقط في لحظة كهذه تستطيع أن تتوحد مع كونك……
******************************************

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.