النرجسيات القاتلة والتجديف على التاريخ :ـ
تاريخ المعرفة الإنسانية ملئ بمجموعة من الأفكار التي إعتقد الكثير من الناس بل الغالبية الساحقة منهم بصحتها وبداهتها ، حتى إن مجرد إعادة التفكير فيها من قِبل البعض كان يستدعي الضحك والسخرية منهم ، بل وأحيانا كان القتل والحرق مصير كل من حاول إماطة اللثام عن أُكذوبة بداهات تلك الأفكار أو إثبات خطأها وبطلانها من الأساس ، ولكن و في ذات الوقت نجد أن تاريخ المعرفة الإنسانية هذا ملئٌ أيضا بمجموعة من الأفكار التي إنتصرت رغم إعتقاد الكثريين ببداهة خطأها وكفر أصحابها وضلالهم رغم القمع الوحشي والشرس الذي تعرضوا له .
وربما الدرس الذي إستفادت منه أوروبا المعاصرة فلسفيا من تجارب محاكم التفتيش ـ والتي كان يقوم بها البعض بإسم المعصومية والصحة المطلقة لقناعاتهم والتي خولت لهم السلطة لحرق كل من يحيد عنها ـ هو الكفر بالمسلمات الإعتباطية والشك في البداهات وإخضاعها لمناهج نقدية تبدوا من فرط دقتها ذات طابع عدواني متطرف في نزعته الشكوكية .
لم يعد في المناظرات العلمية أو السياسية من يستطيع أن يُقنع المتفرجين والمتابعين بقوة منطقة وحجته بتوظيف تحيزاتهم ومعتقداتهم المسبقة أو تقاليد مجتمعاتهم أو معتقداتهم الدينية أو المذهبية ، هناك فقط وفقط الحياد العقلاني والأدلة والبراهين والمنطق ، فجميع الخطابات صارت تخضع للتفكيك والتحليل وفقا لأحدث المدارس الألسنية المعاصرة ، حيث تنقشع البداهات وتتساوى الخطابات وتنكشف الإكراهات والنزعات الذاتية في مختلف الخطابات ،وحيث يتم إماطة اللثام عن سلطة تلك الخطابات وأقنعة القداسة التي يمكن أن تتشح بها .
بالطبع تلك المجتمعات الأوربية بها بعض الأصوليين واليمينيين المتطرفيين لكنهم فضلاً عن قلتهم العددية وهامشية تأثيرهم الإجتماعي مضطرين لخوض معاركهم الأصولية باليات المجتمع المدني ، وبأسلحة الحوار العقلاني والمنطقي ، بالطبع لا قناعةً منهم بتلك الاليات وإلا لما سميناهم أصوليين ، ولكنهم مُكرهين على ذلك حتى يُكسِبوا أفكارهم السند الجماهيري المطلوب ، ذلك السند الذي لن يتأتى لها إلا بتلك الاليات العقلانية التي هي لوحدها من لها قدرة السحر على تشكيل الرأي العام الأوروبي
فعندما يُريد الأصوليون بأوروبا مثلا أن يُقنعوا مواطنيهم بأهمية الحد من ظاهرة الهجرة فإنهم لا يدفعون بتلك القناعات العنصرية أو الإستعلائية التي يستبطنونها ويستحقرون بموجبها المهاجرين كتبريرات لخطابهم العدائي للمهاجرين ، لكنهم يدفعون بحجة تفاقم ظاهرة الجريمة والبطالة بين المواطنيين وحوجة الميزانية للحد من الصرف على الأنشطة الإنسانية التي تصب في صالح غير المواطنيين الأصلاء …. الخ وذلك رضوخاً منهم ـ أي الأصوليون ـ لقواعد اللعبة هناك و التي تتضمن الحد الأدنى من العقلانية والمنطقية لا خرافات التفوق والسمو والنقاء العرقي .
ولكن يأسف المرء كثيرا لحال الكثيريين اليوم من الأصوليين عندنا والذين مروا على تلك الماسي المُضمّنة بكتب التاريخ (تاريخنا أو تاريخ أوروبا ) و التي ولّدها الإعتقاد بالصحة المطلقة وبمطابقة القناعات للبداهة الفطرية ، فرغم التاريخ الإنساني الطويل من التفلسف والتفكير والتجارب التي أفصحت لنا عن نسبية المعارف الإنسانية وعن إستحالة إحتكار المعنى والحقيقة المطلقة ، وعن ضعف مفهوم الافكار الفطرية من الناحية الفلسفية إلا أنه لا زال أصوليونا إلى اليوم في خضم النقاشات حول القضايا الحقوقية أو الفلسفية يلجؤون إلى كلمات مثل ( فطرة ، وبديهية ، وطبيعة الإنسان … الخ ) ليدّعمون بها أطروحاتهم أو وجهات نظرههم حول قضية ما .
وعندما نخوض نقاشاً مع الأصوليين عن قضايا وحقوق المثليين والمرأة ، أو نناقش مفاهيم وأفكار فلسفية مثل قضية وجود الله ، أو ننتقد الحقائق الدينية ، كثيرا ما يلجأون إلى الزعم بأن وجهات نظرهم في تلك القضايا هي عين الفطرة ، ويُوجهون لنا الإتهام بأننا ضد الفطرة والطبيعة الإنسانية ، ونريد أن نحرفها ونشوهها ، ويتكهنون بمالات كارثية لكل من ينتقد أو يحرف الفطرة والطبيعة الإنسانية .
لكنهم في خضم كل هذا ينسون أن الانسان لم يتميز عن الكائنات الأخرى إلا بمقدار نجاحه في لجم الطبيعة ومحاربتها وحرف طبيعة الكثير من الظواهر ( بما في ذلك الكثير من الظواهر النفسية وليس فقط الطبيعية ) بل وأحيانا القضاء عليها ، ظواهر بمنتهى الطبيعية مثل الفيضانات والزلازل والجبال التي تعترض الطرق البرية وتعسر عملية التنقل والغابات التي تُعيق تشييد أو توسيع المدن … الخ ، فهل حالت حقيقة كون أن الزلازل والبراكين هي ظواهر طبيعية بينها وبين تزليلنا لها ومحاربتها ؟ لماذا نحن ملزمون بالمحافظة على سلوك أو ظاهرة لمجرد إعتقادنا أنها طبيعية أو حتى لمجرد أنها بالفعل تمثل جانبا من طبيعة النفس الإنسانية ؟ أليس في خضوعنا وإستسلامنا للطبيعة الإنسانية أو الخارجية هلاكنا كنوع إنساني ؟
أليس الشر والأنانية والسعي وراء اللذات ولو على حساب الغير يشكل جزء من الطبيعة الإنسانية ؟ فهل نحن ملزمون بعدم محاربة كل تلك السلبيات فقط لأنها تمثل جانب من طبيعة النفس الإنسانية بل وتتجذر عميقا فيها ؟ سيأتي الجواب قطعا من أولئك الأصوليون حارسوا كهوف الفضيلة وكهنة الأخلاق الشرسين بالنفي ، رغم أنهم يحاربون المثليين ويتطهدون المرأة بدعوى أن المثلية إنحراف عن طبيعة النفس البشرية ، وأن المرأة بحكم تركيبها الفوسيولجي هي مصممة لخدمتنا وراحتنا وتقضية حوائجنا فقط لا غير ، فلماذا يدعوننا لمحاربة الشر بنفوسنا ونحن سيكلوجيا وعلى نحو طبيعي جدا مهيئون لإرتكاب الشرور والآثام ؟ .
ما الذي يجعلنا متأكدين من أن تلك الحقائق ـ والتي تستمد مشروعيتها من أننا نثق بشيوخنا واباءنا وعاداتنا ونصوصنا المقدسة و سلطات معرفية زائفة مشابهة ـ أقول ما الذي يجعلنا متأكدين من فطرية تلك الأفكار ونستبعد فطرية أفكار شعوب أخرى لها سلطات معرفية مثل نصوصنا وشيوخنا وتقاليدنا ؟ هل يمكن لفكرة أن تكون فطرية وأن يكون نقيضها أيضا فطريا في ذات الوقت ؟ مثلا هل يمكن أن تكون فكرة وجود الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فكرة فطرية مزروعة بأعماق الإنسان ومجبولٌ على الإيمان بها ، وتكون في ذات الوقت فكرة الله الذي يلد وله شركاء في الالوهة فكرة فطرية أيضا ومزروعة بدواخل الإنسان ومجبول على الإيمان بها ؟ ولماذا نعتقد مثلا كمسلمين بأن القناعة الأولى ( قناعة الله الفرد الصمد ) فطرية والقناعة الثانية ( الالهة المتعددة ) ليست فطرية رغم التشابه في الآليات التي أوصلت كلا الطرفين لنتيجة فطرية أفكارهم ؟.
لذلك على هؤلاء الأصوليين أن يتحلوا ببعض التواضع الفكري والتقى المعرفي ، وأن يكفوا عن إحتكار الحقيقة بإسم أوهام مطابقة أفكارهم وقناعاتهم مع الفطرة والطبيعة الإنسانية الحتمية وإلا عليهم أن يتقبلوا بحقيقة تناقض الأفكار الفطرية والذي يقتضي ضمنيا لا فطريتها ، و حتى ولو كان ثمة الكثير من الظواهر التي تبدوا غامضة علمياً ولا نجد لها تفسير منطقي أو عقلاني اليوم فهذا لا يمنح الحق لأن تنسب فرضياتك التي تأتي بها لسد هذا الفراغ المعرفي إلى الفطرة وتمارس الإرهاب المعرفي على الاخرين ، ليس من حقك أن تقول لي مثلا : طالما لم نعرف أصل الحياة أو كيف تكونت فالفطرة تجعلنا نذهب إلى فكرة الله ؟ فالذي يجعلنا نذهب إلى فكرة الله هو عجزك العلمي والمعرفي عن إيجاد تفسيرٍ ما ، وليس فطرتك كما تزعم .
ليس من حقك أن تزعم أننا نحب الخير لأن الله زرع فينا ذلك الحب ، فمن ناحية نحنا لسنا جميعا نحب الخير وتاريخ الإنسانية الملئ بالحروب والقتل والإرهاب والعنف الديني يخبراننا أن جزور الشر أعمق فينا من الخير على حد تعبير أحد الأصدقاء . ومن ناحية أخرى حتى لو كنا نحب الخير بالفعل فهذا لا يُدلل على فكرة فطرية حبنا للخير إطلاقاً بقدر ما يعني أنا ظروفاً ربما إجتماعية أو نفسية جعلتنا نحب الخير كفكرة المنفعة أو المحافظة على نوعنا من الإنقراض ..الخ .
حسنأ فالنفترض أن هناك ما يُسمى بالفطرة : كيف يستطيع الإنسان أن يحاربها كما يزعم الأوصوليون أننا نفعل ذلك عندما ننادي بحقوق المرأة أو المثليين أو نشكك بالحقائق الدينية والإجابات الكبرى التي يدّعون أنهم يملكونها ؟ طالما أنها فطرة فيجب أن أكون مصمم على عدم الخروج عن سلطتها ، فكيف إستطعنا أن نتمرد نحن على الفطرة ؟
أليس تمردنا هذا دليل على إمكانية أننا نستطيع أن نتحكم بفطرتنا ، بل أننا نحن من صنعنا فطرتنا ، وأن ما ينسبونه إلى الفطرة ما هي إلا قناعة أو سلوك بحكم العادة والقِدم إعتقدنا زيفا بأن وراءه سرا إلهيا مزروعا بنا يدفعنا لسلوكه ؟ ألا يدل ذلك على أن الأفكار والممارسات والقناعات والخطابات هي نتاج إنخراطنا في هذا العالم حسيا وذهنيا مع الوضع بالإعتبار الإكراهات الذاتية والإجتماعية التي تفرض سلطتها على خطاباتنا وقناعاتنا بإسم تلك السلطات المعرفية التي تحدثنا عنها سلفا ( التقاليد ، النصوص الدينية ، الشيوخ …الخ ) لذلك إعتقدنا أنها فطرة ؟ وما هي بالحقيقة إلا نتاج لإنخراطنا في تلك المعركة أو الملحمة الإجتماعية التي دشنها البشر على كوكب الأرض ووظفوا فيها قدراتهم الفذة والعبقرية على الخداع والكذب وشحذوا بها أسلحة المكر والدهاء تدعيما لمصالحهم وتعزيزا لمواقع خطاباتهم وتكرسيا لسلطاتها .
إن الذين يتحصنون خلف قناعاتهم ضد النقد والتحليل والفحص والإختبارويمارسون من مواقعهم الجبانة تلك أحط النرجسيات الكاذبة بإسم فطرية أفكارهم وإتساقها مع الطبيعة الإنسانية هم كالواقعين في حفرة عميقة ورغم ذلك يصرون على مواصلة الحفر ،لأنهم مشدودون إلى الأصل الزائف المعتم لأنهم لو سلطوا عليه النور سينفضح أمره وتنكشف ظلاميته ، أي أن التنوير العقلاني سيُعري أفكارهم ويكشف تاريخانيتها ويجردها من فطريتها المزعومة .
إن ذلك ما هو إلا تجديف ضد التاريخ وضد العقل والمنطق وسينتهي بهم حتما إلى الغرق . لذلك فحذار أن تعتقد أن أفكارك فطرية وأنها تطابق المعنى النهائي للوجود ، لأنك حينها لن تتوانى عن إتباع أشرس الطرق للدفاع عنها معتقدا أنك بذلك تسدي صنيعا لاولئك الذين تأذوا من شراستك ، وحينها ستندم ندم اباء الكنسية اليوم على خطايا أجدادهم عندما حرقوا فلاسفة ومفكري ومبدعي أوروبا في عصور الظلام وأخروا مسيرة الإنسانية والتنوير لقرون وقرون .
ــــــــــــــــــــــــــ
معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !
خير الكلام .. منافع ذي عقل ودل ؟
١: بداية تشكر على الفكر التنويري الذي أدرجته في المقال والجهد
٢: لقد أعجبتني عبارة ( حارسوا كهوف الفضيلة ) ياليتهم كانو صدقا كذالك حارسو قيم وفضيلة ، فما موجود في كتب السيرة والتراث لابل في القران نفسه من ايات تشيب حتى شعر اليافع ولامجال لذكرها ( كايات السلب والنهب والقتل ( الغنائم والخمس + ايات الفسق ) التي جعلت من جنات ربهم مأخورا فسق ودعارة ) ؟
٣: فعلا من يتحصنون خلف قناعاتهم ضد النقد والتحليل والفحص ( والمصيبة بالدلائل والبراهين ) هم فعلا مرضى نرجسيون ، لأنهم يحللون نقد كتب واديان وأفكار الآخرين ويحرمون نقد مالديهم من كوارث ، وأمثال هولاء مكانهم المصحات العقلية وليس المنابر والقنوات الفضائية ؟
٤: ان سلوك سلاطين الكنيسة المخزي في الحقبة المظلمة لم يكن متأتيا من جوهر الدين بعكس الاسلام ، بل كان متأتيا من فكر ذواتهم وكبرياءهم وجهلهم ( فكر دكتاتوري سلطوي لايقبل النقاش ) فمثلا عندما حاكمو العالم الجليل كاليلو لقوله بكروية الارض لم يكونو يعلمو ان ماقاله حقيقة إيمانية موجودة في التوراة قبل كاليلو المسكين ب734سنة ق .م في أشعيا ٢٢:٤٠ ( الجالس على كرة الارض وسكانها كالجندي …) ؟
٥: واخير: يصدق قول المسيح على الكثيرون كما بالامس كذالك اليوم ، مكررا على اليهود قول نبيهم هوشع في ٤:٦( هلك شعبي من عدم المعرفة ) كما قال لهم ( فتشو الكتب ) وقال لاتباعه ( وتعرفون الحق … والحق يحرركم ) اي لاتحرير دون معرفة ، وعذرا للإطالة ؟