شكا المسيحيون في لبنان طويلاً من تهميش أصاب حضورهم السياسي منذ اتفاق الطائف عام 1989. شارك المسيحيون في أعمال مؤتمر الطائف وفي صياغة بنود الإصلاحات الدستورية التي يفترض نظرياً أنها أنهت الحرب الأهلية البيتية. وافق سمير جعجع على الاتفاق وبشّر به، فيما رفضه ميشال عون ثم قاومه إلى أن طردته الوصاية السورية من القصر والبلد.
دفع المسيحيون كثيراً ثمن هيمنة دمشق على قرار بيروت. دخل جعجع السجن ولم يخرج إلا حين خفّت قبضة دمشق عن عنق النظام السياسي اللبناني، فيما أصاب النخب السياسية علّة وجودية جراء ذلك الاغتصاب لساسة البلد موالين ومعارضين. من ذلك المشهد تحوّل التهميش من حالة طارئة أصابت المسيحيين إلى «عقيدة» يدورون حولها أو يسقطون داخل أتونها.
تولّت المسيحية السياسية حكم البلد وإدارة خياراته منذ ما قبل الاستقلال. وحين أخرجها الوصي من تزعم القرار وجعلها ملحقة بأجندته، باتت تقارب البلد بصفتها فرعاً لا أصلاً ووافداً لا جزءاً مؤسساً لكينونة البلد. ذهب المسيحيون كثيراً في التراجع إلى الصفوف الخلفية تبرماً، أو التطفل على الصفوف الأمامية تملقاً. وحين أعاد اغتيال رفيق الحريري الاعتبار للوجه المسيحي البارز للبنان، بدا أن المسيحيين يطلون على بلد لا يعرفونه يتلمسون خطاهم في زواريبه.
من عقيدة التهميش تُطل المسيحية السياسية على متن يتنازعه السنة والشيعة في هذا الشرق. تبدو النخب المسيحية أو سوادها الأعظم غير معنية بصراع الآخرين، وربما كان في الأمر بعض شماتة بدائية وتشفٍ غرائزي. ففي عقيدة التهميش ما يبيح للعقل المسيحي أن يعتبر أن فتنة المسلمين نعمةٌ يجوز الحفر داخلها. ومن خلاصة هذه العقدة العقيدة يروج خطاب حقوق المسيحيين التي تشبه خدمات فندقية يتم السعي الى تحسينها.
يبدو الزواج العوني القواتي زواج مصلحة لا يشبه الزواج المسيحي في طقوسه الكنسية. يتسرّب من «ورقة النيات» ما يفهم منه عزم على شراكة في بسط النفوذ على الميدان المسيحي في الغَرف المستفيض من فتنة المسلمين.
تستدعي المسيحية السياسية، التي لم تعد بعد رواج «القانون الأرثوذكسي» مارونية سياسية فقط، مهارة صاحبت أداءها التاريخي الذي جعل لبنان يوماً «سويسرا الشرق». تستدرج تلك النخبة ذلك الصيت القديم وتنزله على مشهد إقليمي دولي لا يشبه مشهد العالم في العقود التي تلت ولادة «لبنان الكبير». تدرك تلك المسيحية ذلك وتعي تبدل موازين القوى وتغيّر وسائل العيش. لكنها تسعى مع ذلك الى استعادة لبنانها القديم من خلال توسّل قدر يخفف فائض الأثقال التي تلقي بها المنطقة على البلد.
تتحوّل السياسة عند المسيحية السياسية إلى صنعة يومية. وفي السجال الجديد القديم عن سطوة «حزب الله» وفائض قوته، يبدو مسيحيو «العهد» متّفقين على التعامل مع الظاهرة بصفتها أمراً واقعاً لا طائل من الجدل حولها. يقف العونيون في خندقهم التقليدي المتحالف مع الحزب منذ «ورقة التفاهم» الشهيرة، فيما تتوقف «القوات» عن الصدام مع الحزب فتقاربه بالتلميح والتدلل على ما يؤكد «القاعدة» ولا ينفيها. وفيما يجوز الخوض في موقع «حزب الله» في توقيته معركة جرود عرسال وشرعيته في ذلك، يبدو أن مواكبة مسيحية شبه جامعة جاءت ترفد أداء الحزب بصفته فريقاً «لبنانياً «يتبرّع برد خطر «الغرباء».
في ذلك خرج من داخل تلك المسيحية السياسية من يتحدث عن الحاجة إلى «أكل العنب» في مواجهة «النصرة» لا قتل «الناطور». وفي ذلك رسم مسيحي يضع حدوداً جديدة تدرج «حزب الله»، المتفاخر بولايته لدولة الولي الفقيه، ضمن العناصر التي تنبثق من عصارتها الفكرة المسيحية الجديدة عن لبنان. وفي ذلك أيضاً أن «حزب الله» بات في عرف القدرية المسيحية «ناطوراً» شرعياً يكسر احتكار الجيش مهمات الدفاع التي تقوم بها جيوش العالم عن بلدانها.
وفي حكاية العنب والناطور ماكيافيلية خبيثة لا تليق بالدور الريادي الذي ارتآه المسيحيون الأوائل فلسفة لوظيفتهم في لبنان. رفض الموارنة الأوائل قيام كيان مسيحي خالص، كما رفضوا تضخيم لبنانهم ليضم ولايات تُدرج دمشق في الخرائط الأولية التي أرادها رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو للبنان. وبالتسليم بشرعية «الناطور» خضوع لقانون «فخار يكسر بعضه» الذي يجعل أي معركة معركة شرعية طالما أنها تحسّن موقع المسيحيين بالمعنى المتعجّل الذي لا يريد أن يرى أن وجود «النصرة» في جرود البلد طارئ لا أصل فيه، وناتج بالمحصلة من عبث «ناطورهم» في بساتين الجيران.
وفيما أن السنية السياسية تقف مرتبكة وتسعى جاهدة الى إيجاد نقطة توازن بين منطق الدولة ومنطق الدويلة، وفيما «تيار المستقبل» يتخبط لإخراج تعويذة تفسّر التورّط في الرقص مع الدويلة والخضوع لشروطها، فإن موقف المسيحية السياسية أتى بكثير من الرمال المتحركة وقلل مساحة الأرضيات الصلبة التي راج عليها حراك السياديين داخل «14 آذار»، بحيث بات الجميع يناور وفق قواعد «حزب الله» وحسب مزاج هواجسه.
* نقلا عن “الحياة”