المگيَّر

في بداية سبعينات القرن الماضي أذاع تلفزيون بغداد أغنية “المگير”. أغنية رقيقة جميلة بكلماتها وألحانها، ولكنها ذات شجن حزين يعبر بصدق عن مأساة حبيبين. وخلال الأغنية كنت، على ما أتذكر، أشاهد على شاشة التلفزيون خيالاً أسوداً لفتاة طويلة رشيقة تمشي الهوينا بخطوات منسجمة مع المويسيقى، خيالاً معبراً عن حبيبة اضطُرت لترك الحبيب.

عادت بي الذكريات الى ذلك الزمن البعيد، سبع وأربعون سنة، زمان “نائب رئيس مجلس قيادة الثورة” صدام حسين. كان عقد السبعينات، والحق يقال، عقد خير وبناء. ذلك أن الزيادات الهائلة بأسعار النفط شجعت السلطة، بقيادة ” السيد النائب”, نحو إنجاز مشاريع بنيوية مختلفة هائلة، جعلت من العراق يتقدم بسرعة حتى ظنت الأمم المتحدة إنه سيلحق بسرعة ببعض الدول الناجحة اقتصادياً والعالية التصنيع.

لقد أتاحت الظروف لصدام، فيما لو كان وضع يده بأيادي رفاقه بصدق وإخلاص، لبنوا العراق، وحتى سوريا أيضاً بعد أن مدت يدها له. غير أن صدام بان على حقيقته حين افترس رفاقه ليستولي على مقدرات العراق بسرعة، وليقحمه بحروب لاطائل منها، إجرامية عبثية قضت على الأخضر واليابس بالنهاية. وبعبثيته التي تتوقف فسح المجال بالنهاية لأمريكا، ومن ورائها إسرائيل، باحتلال العراق ونشر الدمار به وتنصيب حكومة محاصصة طائفية لصوصية حتى النخاع.

على أن البعث، أو أي توجه دكتاتوري آخر، لن يدوم لأنه سيبقى على صراع دائم مع نزعة التحرر المتأصلة في روح الأنسان. فالحرية هي الأصل ولن يدوم غيرها. ولكن الحرية التي تنشدها الأنسانية هي ليست الحرية على إطلاقها وإنما الحرية التي يسمو بها الأنسان، ويمكن اختصارها بحسن التعامل بين البشر. حتى الأديان، على اختلافها على وجه الطبيعة، سماوية كانت أم غير سماوية، إنما تشترك بمبدأ واحد وهو سمو الأخلاق. فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (هود:117)، وهذا يعني أن لكل أمة أن تؤمن بما تشاء وإن الله راض عنها طالما تمسكت بسمو الأخلاق. أما عبادة الله أو حتى إنكار وجوده فهذا شأن خاص بين الخالق والمخلوق، إذ أن الله، ذو السخاء الواسع والتسامح الكريم، يفعل ما يشاء.
عوداً الى سمو الأخلاق، وهو القاسم المشترك المطلوب بين الأمم، فهو شرط أساسي لكي تستمر الأمة وتبقى. حتى الولايات المتحدة الأمريكية، بقوتها التدميرية الحالية الهائلة والقادرة على مسح الأرض ومن عليها، هي غير مستثناة من هذه القاعدة. فهي، بلا شك، ستتعرض تدريجياً للأنحطاط وبالتالي ستذهب طالما بقيت متوجهة فقط لإشباع نهمها وكذلك منقادة الى إسرئيل في أطماعها التوسعية بطرد ملايين الفلسطينيين من وطنهم وسرقة أراضيهم. نعم إن سمو الأخلاق هو المطلوب إن أرادت أمة أن تستمر في الحياة الكريمة على وجه هذا الكوب، وإلا فستذهب! وهذا ما صدق به سابقاً الشاعر أحمد شوقي حين قال: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

والآن نعود الى أغنية المگيَّر وهي منقولة بقليل من التصرف على لسان الحاج تقي الشحماني:
في سبعينات القرن الماضي وعند البدء بإذاعة أغنية “المكيّر” كنت اجلس في مقهى بمدينتي سابقا وهي (الطوبجي) وكان يجلس معي رجل يبلغ من العمر اكثر من 75 عاما.. رأيته يصغي بتذوق وشغف الى الاغنية فقلت له: ها عمي ابوحميد {اسم افتراضي} يبين عجبتك الاغنية!
أجاب، وعلامات الأسى بادية على ضغون وجهه، كلش بس هاي بوية بيها قصة كلش حلوة، بس مُرّه.
گتله سولفلياهه بروح موتاك..
گال..بس طويله؟
گتله ميخالف بس خل اسمعها منك….گال…چا اسمع بعد عمك:
كان في الناصرية زلمه خير.. الله امفضل عليه وعنده بساتين نخل وعنده اثنين ولد كبار. واتوفت مرته واتزوج وحده غيرها… الله رزقه منها وليَد مثل حسنها لكن الله اخذ امانته وتوفت المره وگامت نسوان الاخوة بتربية الطفل .وعندما حانت منية الاب جمع ولديه وقال لهم…ذمه ابرگبتكم اخوكم الزغير اريد يبقى امدلل طول عمره! فتعهد الاخوة لابيهم بذلك ونشأ الطفل شابا مدللا كما أوصى الأب…

وكان عندما يحين لگاط التمر تأتي اللاگوطات من كل مكان للعمل بالبساتين وكان الشاب يركب فرسه ويتجول بالبساتين متفرجا على اللاگوطات وهن يجمعن التمر بالسلال …وفي احدى جولاته لمحت عينه فتاة شابة جميله بين اللاگوطات. وقف ينظر اليها فلما رفعت راسها من سلة التمر نظرت اليه فاذا هي سبحان الخلاق! رأته ينظر اليها فطأطأت راسها مع ابتسامة سلبت لبه. وبقي الشاب ياتي على فرسه ينظر اليها ساعة ثم يذهب..في هذه الاثناء كانت نساء اخوته وهن بنات {شيوخ} كلمن تريد تزوجه من احدى قريباتها. في مساء أحد الأيام طلب منه اخوته ان يختار احدى الفتيات التى اختارتهن نساء اخوته كزوجه . الا انه رفض وبعد الحاح شديد.. اخبر اخيه الاكبر بعشقه للاگوطة التمر. وهنا قامت القيامة كيف له وهو ابن شيوخ وثري ان يتزوج لاگوطة تمر. الا انه اصر ..لو هاي لو ما اتزوج..عندها ذهب الاخ الاكبر ليتعرف على هذه التي سلبت لب اخيه فوجدها كما وصفها له اخوه…

وعند الاستفسار من امها التي كانت معها علم انها يتيمة من اهل البصرة وتاتي كل سنه وقت اللگاط لتجمع التمر لتعيش بما تحصل عليه حتى الموسم القادم. فخطب إبنتها لأخيه فرفضت للفارق الاجتماعي بينهم لكن الاخ الاكبر اصر فوافقت.

وقال الاخوة لزوجاتهم ان يقمن بتدليل الفتاة كما قمن بتدليل الشاب على ان لاتطبخ ولا تمسح وان ياتيها الاكل مع زوجها. فشانت على الزوجات وهن بنات شيوخ ان يخدمن لاگوطة تمر وكانت الفتاة ترى ذلك في اعينهن وكلما حاولت ان تخدم يمنعها الاخوة من ذلك..فاحست الفتاة بتذمر النسوة ودب الخلاف بين الاخوين ونسائهم…
في احد الايام عاد الشاب الى البيت وكان الوقت شتاء وقد غرزت قدماه بالطين فما كان منها الا ان تحضرله الطشت وتجلسه على كرسي وتضع ساقها في الطشت وتضع قدمه فوق ساقها لتغسله فبدأ الطين ينساب مع الماء على ساقها البضة .. فامسك بوجهها وبدأ يقبله ويقول لها هل لك من امنية فاحققها لك ..
قالت نعم ولكنك لاتستطيع تحقيقها لانها صعبة عليك ..
قال احققها ولو بذهاب نفسي
قالت لا تستطيع ..
قال جربي وانت تشوفين.
قالت احلف بالعباس ابو فاضل تسويها فحلف لها
عندها قالت ..طلگني..
اشلوون…؟
قالت مثل ما سمعت …
ذهب لاخوته صارخا باكيا. جاء الاخوة لها حاولوا معها فلم يفلحوا …وهي تقول له لا تنسى تره بيناتنا العباس…عندها اصبح ملزما بالامر فطلقها وبعث على امها لتصحبها معها الى البصره…وسألها ..اتحبين احد غيري وتردين تزوجينه؟..قالت وعيونها تهطل دموعا
{لو الك لو للگاع صك وامهر اعليه}
فاخذها الى محطة القطار القديمة التي تسمى المگير….محطة قطار اور حاليا… ليودعها
وتكمل قصيدة المرحوم زامل سعيد فتاح بقية القصة…

مشيت اويا للمگير اودعنه
مشيت اوكل كتر مني انهدم بالحسره والونه
او على الرمله
بضوه الگمره
يناشدني ونشدنه
اگله اتروح……؟ وگليبي بعد بيمن اهيدنه؟
بجه ودموعي لاگنه
بعد وعضاي زتنه
ويوميلي بطرف جفيته
من بعيد اشوفنه
وصاح الريل
وانه وياه
يعت بيه…..وعتنه
يجرني ابحيله ويصوفر
وانه امعرت وجرنه
ذمه برگبتك خلني ولك مشوار اشوفنه
ولك يا ريل لاتبعد
ولك ولفي واريدنه وجزاني ايجر فراگينه
او مامش حيل اردنه
وظل ارفس رفيس الطير
ادين ازغار لزمنه
واهومش مادريت امنين جدمي وين انكلنه
وحط گلبي على السجه بالجي الزين اسمعنه
وعلى الدلاال موش السجه
مشى الريل اهيسنه
واظل مناطر السجه واعد امحاط للبصره
ها تل اللحم وصلوا….؟
جزوا…..؟
نام…..؟ وهدل شعره
ولك ياريل لاتكعر اخاف اتفزز السمره
وارد للناصرية اردود مخنوك بالف حسره
ويراويني النخل موكاف حبنه وطيبة العشرة
ويگلي اصبر
شهر ويعود
والمفطوم شيصبره

About محمد علي زيني

"الدكتور محمد علي صالح زيني"
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.