المندائية لغة وتأريخ في بلاد الرافدين

بقلم; عضيد جواد الخميسيsabiaa

ان تفسير اصل تكوّن المندائية لايثير اية مصاعب ، وذاك عندما يؤخذ بالحسبان اصلها اليهودي وتراثها الرافدي (نسبة الى بلاد الرافدين) في الممارسات المعمدانية ، ويبقى هناك موقف تأملي فقط في المظهر الخارجي للمندائية يمكن عزوه بشكل رئيسي الى عناصر ايرانية ، ومن الناحية اللغوية نجد ان ضم هذه العناصر الفارسية بعضها مع بعض مسألة سهلة، فقد كان العلماء يدركون منذ زمن طويل ان الكتابات المندائية المقدسة تحتوي على مصطلحات عديدة واسماء اشياء من اشتقاق فارسي ، ومهما يكن الحال فان الفحص الدقيق للكلمات المستعارة هو تطور جديد نسبيا ، والاختلاف فيما بين الصيغ الفرثية الوسيطة والفارسية الوسيطة امر حاسم ،ففي الكثير من الحالات تكون صيغة الكلمة اما فرثية ، او ان الكلمة لا تشاهد الا في الفرثية ، وعليه تحدد نسبتها . هذا وان التباين بين لهجات الفرثية الوسيطة والفارسية الوسيطة واضحة تماما الى درجة يمكن فيها تحديدالاصل اللغوي بثقة تامة ، فقد كانت الفرثية الوسيطة هي اللغة الرسمية لامبراطورية اسرة ارساسيد (الاشكانية) وهي قد رقت الى المنزلة العالية مع هذه الاسرة وذوت معها وزالت ، وخلّفها وحل محلها الفارسية الوسيطة وهي لغة اباطرة الاسرة الساسانية ، حيث كان موطنهم الاصلي اقليم فارس ، وفي مواجهة العدد الضخم من الكلمات المستعارة من الفرثية الوسيطة في الكتابات المندائية ، نجد ان ذلك يعني ان هذه الكلمات اقتبست قبل ان تصبح الفارسية الوسيطة هي اللغة المهيمنة ادبيا ، ذلك انه من الصعب التخيل ان اللغة الفرثية كانت قادرة على بذل درجة مشابهة من النفوذ على بلاد الرافدين بعد سقوط الدولة الاشكانية ,, ارساسيد ,, وعلاوة على ذلك فان تكرار الكلمات المستعارة من الفارسية الوسيطة في المدونات المندائية نفسها يؤكد حلول التاثير الساساني في محل التاثير الفرثي ، وعليه يؤكد التحليل اللغوي وجود المندائية وكتبها في هذه الازمان المبكرة مع الاستلهامات الكبيرة التي حصلت عليها من المصادر الفرثية ،وهذا يقدم معيارا زمانيا هاما َ..
يتواءم الدليل اللغوي تماما مع التوجيه الذي اعطته محتويات الكتابات المندائية المقدسة ، وكان المفهوم الفارسي الاكثر تطورا بسهولة هوالفكرة القديمة لعروج الروح الى السماء ، فوصفها ,, ابني شاد ,, هو الوصف ذاته في الكتابات الزرادشتية والمندائية والمانوية ، ونجدها في المندائية قد حظيت بشئ من التمجيد بقربان معمداني مقدس ، وهو مايسمى بقداس الاموات الذي ياخذ الميت فيه نصيبا ويشارك فيه ، وتتوضع نصوص هذا القداس الاساسية في صميم المعتقدات المندائية ، وسواء اتم تطبيق اساليب النقد الادبي المباشرة او اساليب البحث التاريخي ، فاننا نجد ان هذه النصوص تنتمي بشكل واضح الى الاجزاء الاقدم من العقيدة المندائية . اما المفاهيم الاخرى المستقاة من ايران فهي ; بقاء الشياطين حول جثة الميت ، والعودة الى خزانة الارواح ، وثواب الاعمال الفاضلة ، واللقاء مع صورة الروح ، وتسليم الرداء والتاج ، والجلوس على العرش المعد في السماء ، والاستقبال من قبل رب الارباب ، وتعد فكرة ,, الخلاص عن طريق المخلص ,, ـــ التي هي مفهوم مقدس قائم في صلب المندائية ، والتي تدور حوله عقيدة النظام كله ايرانية ..
والشئ البارز الاهمية في تحديد بدايات الكتابات المندائية المقدسة ،هو حقيقة ان العديد من الكلمات المستعارة والصيغ المتبناة تشير الى عالم اقطاعي فرثي ، فاللغة اللاهوتية للديانة المندائية ببساطتها تستلزم قطعا وجود تركيب اقطاعي للمجتمع ، ذلك ان بعض التعابير مثل; معلم ،تابع ، ومؤيد ، ومساعد ، وصديق ، وأخ ، وتلميذ ،جميعها جزء لايتجزأ من الخلفية الارستقراطية الاقطاعية الفرثية ،كما لاتمنح الرتب وصلاحيات ممارسة الطقس الديني الا لمن تنحدر اصوله من عائلات في اعلى هرم السلطة الدينية ، ويلاحظ في هذه الكتابات انها غالبا ماترمز للمخلّص وتصوره مسلحاً نفسه ، وشادّا حزامه على وسطه قبل القفز الى الاعماق لمباشرة القتال مع قوى الشر ، ويعكس شد الحزام بشكل تام حالة التابع الذي يرتدي حزامه ويشده بنفسه قبل الشروع في اداء المهمة المعهودة اليه ، هذا ويمكن ان ناخذ ايضا وصف القتال من انه وصف لما جرت عليه العادة الفرثية ..وبناء على هذا ،ومن خلال الدراسة للكلمات المستعارة ولاصول المندائية نجد انفسنا مقودين نحو خلفية فرثية ، ويؤكد هذا المواد التراثية المندائية التي نشرت حديثا ، والمتعلقة بشكل خاص بتاريخها المبكر ،فقد جاء فيها بان ـــ اردوان او ارطبان الملك الفرثي ـــ (الذي لسوء الحظ لاتتوفر معلومات اوسع عنه ) قد شغل دورا حاسما في تاسيس الطائفة ، وتستطرد هذه المواد التراثية لتربط كل من المندائية والشخصية الرئيسية في العقيدة ، وهو يهيا يهانا، او يوحنا المعمدان او يحيى زكريا ، بجبال ميديا ،وذلك قبل انتقال المندائيين الى بلاد بابل ..

وكما سلف بي القول ان العلاقة التاريخية بين المندائية والمانوية ، كانت موضوعا للمناقشة الحادة ، ورأي الان انه يجب وضع المندائية في الحقبة الفرثية ، لان جميع قضاياها ومايتعلق بها ،يشير الى اوضاع تتوافق معها زمنيا وتعاصرها ،وهذا مايجعلها اقدم من المانوية ، هذا وهناك دليل اخر داعم لايمكن دحضه ،فقد تم اكتشاف انه تحت بعض المزامير المانوية المقدسة المكتوبة باللغة القبطية في عام ١٩٤٥م على الضفة الشرقية للنيل، شمال ـــ شرقي نجع ــ حمادي بصعيد مصر ،حيث عثر على جرار بداخلها ١٣ مخطوطة من البردي القبطي، تحوي على ٤٨ كتابا،فيها ثلاثة مجلدات كتبت باللغة المندائية ،وفسرها الخبراء على انها اللغة الفرثية لجنوب بلاد الرافدين ،وهذا قد وجد في شكل رافدي حقيقي ، وقد اصبح نمطا ادبيا ثابتا ومميزا في وقت تقدم على منتصف القرن الثالث للميلاد، وقد وجد المانويون ذلك في الكتابات المندائية فضمنوه في كتاباتهم الخاصة، لانه لاجدل حول وجود نصوص مقحمة ومدموجة بدون تغيير في داخل مجموعة من المزامير المانوية القبطية ، كما هو الحال في,, مزامير توما,, التي تحوي نصوصا تصدفها في الكتابات المندائية ، وتظهر اخطاء الترجمة والعجز عن الفهم من قبل المانويين في جميع ارجائها ، وان الصيغة المندائية كانت المثل المحتذى به في كل منحى .

ولايبقى هناك اي مكان للشك حول اسبقية المندائية زمنيا للمانوية ، ويؤكد استخدام الطائفة المانوية للكتابات المندائية المقدسة ، كانت موجودة في حوالي عام ٢٥٠ بعد الميلاد، وان وجود العدد الكبير من الكلمات الفرثية المستعارة مع التقاليد الفرثية المحضة ــ على سبيل المثال ماتعلق بالملك اردوان او ارطبان ـــ ترجع بهذا التاريخ وتعود به الى حوالي عام ٢٢٦م ، لا بل انها توحي ان عام ٢٠٠م هو الاحتمال الاكثر موائمة ، ويمكن ان نضيف الى هذا ــ دون الدخول بالتفاصيل ـــ ان الابحاث الاخيرة حول الصلة فيما بين المندائية وطائفة قمران في منطقة البحر الميت ، ترجع بتاريخ المندائية الى حقبة ماتزال ابكر ، حتى ربما الى الايام التي تقدمت على قيام المسيحية ،والمهم انه يفي بغرضنا البرهان على ان المندائية كانت موجودة في حوالي عام ٢٠٠ بعد الميلاد..

الموضوع القادم ، العلاقة بين المندائية والمانوية في بلاد الرافدين .

المصادر
——–
عناصر رافدية ــــ جيووايد نغرين ــــ ١٩٦١
كتاب الشرقيات ـــ لينزين ــ ١٩٥٥
المندائيون ــــ جيووايد نغرين ـــ ١٩٦٥
المندائية ـــ كونتجن ١٩٦٠ ــ ١٩٦١
مجلة معهد الدراسات الشرقية ـــالمانيا ـــ ١٩٤٧

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.