الشرق الاوسط
كيف يمكننا معرفة الدول والشعوب التي لعبت دورا مهما في تاريخ الحضارات والثقافات؟ من الواضح أن الخبراء والمؤرخين يمكنهم قراءة الكتب والمقالات، وغيرها، ولكن أهم الأدلة وأكثرها بروزا وجدارة بالملاحظة هي المباني الأثرية التاريخية. وبعبارة أخرى، فإن تلك الآثار هي التي تحدد هويات الأمم والشعوب.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض تلك المباني الأثرية قيمة للغاية، ويمكننا القول إنها تعد المعالم الحقيقية للأمم، واسمحوا لي بأن أقول، مع حزني العميق، إن مئذنة الجامع الأموي بحلب كانت أحد هذه المعالم، وأحد أهم معالم سوريا. وأنا لا أعرف ماذا سيكون رد فعل الشيخ هنداوي (الذي اعتقل بواسطة قوات الأمن ومحتجز حاليا في سجن دمشق)، عندما يتم إبلاغه بخبر تدمير المئذنة، فربما لن يتمالك نفسه من البكاء، وربما يتوقف قلبه عن الخفقان. أي إنسان منا لا يمكنه الوقوف والمشي دون أن يكون له عمود فقري يمثل محور كيانه، وكذلك كانت المئذنة هي محور الحضارة والثقافة في مدينة حلب.
ويتهم كلا الجانبين بعضهما بعضا بارتكاب هذه الكارثة الثقافية، حيث تقول الحكومة إن جبهة النصرة هي التي قامت بتفجير المئذنة، بينما تقول جماعات المعارضة والجيش السوري الحر إن مدفعية النظام هي التي دمرت المئذنة.
وللأسف، تبقى هذه الأعذار غير مجدية؛ لأن الشعب السوري والعالم الإسلامي برمته قد فقدوا المئذنة، التي كانت معلما رائعا من معالم الحضارة الإسلامية.
ويعتبر المسجد الأموي في حلب (أو كان يعتبر) معلما بارزا من معالم الهندسة المعمارية وفنونها في العالم الإسلامي بأكمله، ولا سيما أنه يضم أيضا قبر النبي زكريا. ومنذ 26 عاما، كنت مع آية الله بيات (أحد آيات الله العظمى في مدينة قم الإيرانية الآن) وآية الله قرباني (إمام صلاة الجمعة في مدينة رشت)، ومحمد أصغري (وزير عدل سابق)، نؤدي صلاة الظهر في المسجد الأموي بحلب، بينما كنا في زيارة غير رسمية إلى سوريا. وخرجنا من المسجد، وجاء إلينا رجل نبيل في متوسط العمر، وصافحنا، ودعانا إلى منزله لتناول الغداء. وكانت دعوته تحمل كل معاني اللطف والبساطة، ولبينا دعوته، وتحدثنا في منزله عن الشؤون السياسية المتعلقة بسوريا. وكان هذا الرجل من مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين المناهضة للنظام، وحدثنا عن قيام حافظ الأسد بقتل شعب حماه.
وأضاف: «أعتقد أن سوريا ستشهد زلزالا سياسيا مدويا في المستقبل». أنا لا أعرف ما إذا كنت سأقابله مرة أخرى أم لا؟ هناك غضب عارم ضد الاستبداد الذي يمارسه الأسد، وكان الرجل محق فيما قال، وأنا لا أعرف ما إذا كان هذا الرجل لا يزال على قيد الحياة أم لا. أنا لا أعرف ماذا لو كان «شوقي شعث» على قيد الحياة، كيف سيكون رد فعله على انهيار مئذنة الحلب؟ فقد كرس حياته لحلب، وألف الكتب الرائعة عن المراكز التاريخية في حلب.
ويقول البحتري:
سَل الحلبيّ عن حلبِ
وأنا أتساءل عما يشعر به الحلبيون بعد انهيار المئذنة. ويواصل البحتري قائلا:
وإن لجلجت عن غُصصِ
دعونا الويل والحربا
وخفنا أن يكون الموت
قد فاجاك أو كربا
أنا لا أعرف ما حدث لمنزل المتنبي. وقد سرد محمد بن الشويخ، في كتابه «بغية الطلب في تاريخ حلب»، قصة تاريخية رائعة حول منزل المتنبي. وقد يكون بيت المتنبي هو الذي يسمى الآن بالمدرسة البهائية الموجودة بالقرب من قلعة حلب. وربما يكون هذا البيت الذي أنشد فيه المتنبي قصيدته:
ففي حلب الدنيا تجلي خلودها
وها جئت فيها أستعيد خلوديا
هل هذه مدينة حلب التي زارها نزار قباني بعد 25 عاما من زيارته الأولى لها؟ وهنا يقول: «مرحبا! حلب الحبيبة، جئت إليك بعد مرور 25 عاما، أرجوك اغفري لي». وقد سجل حزنه وحبه لحلب الحبيبة في قصيدته الشهيرة:
كل دروب الحب توصل إلى حلبِ
حلب كانت دائما على خريطة عواطفي
وكانت تختبئ في شراييني
كما يختبئ الكحل في عين السوداء
وكما يختبئ السكر في حبة العنبِ
حلب ليست دبي! يمكنك بناء مدينة مثل دبي في أكثر من 40 عاما أو أقل. ولكن لا يمكنك تشييد مسجد مثل المسجد الأموي، ولا يمكنك إعادة بناء مئذنته أبدا، ولا يمكنك بناء الحضارة في فترة قصيرة. نحن نعيش في عصر الوجبات السريعة، ومدننا الجديدة ليست رمزا لهويتنا الحالية، ولهذا فنحن بحاجة إلى حماية التراث التاريخي لبلداننا.
وفي زمن المماليك، على حد قول القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى»، كان يتم تعيين شخص ما لحماية المسجد الأموي في حلب، لأنهم أدركوا أنه ليس مبنى عاديا، وأنه يمثل قيمة هائلة لسوريا وللحضارة الإسلامية.
ويقول ابن حجر العسقلاني في كتابه «الدرر الكامنة»: «الفارابي الناصري الساقي أحد الأمراء بمصر والشام، وكان يكتب خطا حسنا، كتب بخطه ربعة بقلم المحقق في القطع البغدادي الكبير ووقفها بالجامع الأموي، ومات بمصر في ربيع الآخر سنة 752» (الدرر الكامنة ص251).
ويروي ابن بطوطة كثيرا من القصائد حول حلب، وهو ما يعني أن جميع الشعراء والمفكرين والفنانين أحبوا مدينة حلب. فعلى سبيل المثال يشير إلى ما قاله أبو الفتيان بن جبوس:
يا صاحبيّ إذا أعياكما سقمي
فلقيّاني نسيم الريح من حلبِ
أعتقد أن كتّاب القانون الدستوري السوري يعلمون مدى قيمة المباني التاريخية، وخاصة المساجد الكبرى في دمشق وحلب. وقد وجدنا هذا البند في المادة رقم 32، وتقول: «تحمي الدولة الآثار والأماكن الأثرية والتراثية والأشياء ذات القيمة الفنية والتاريخية والثقافية».
وأريد أن أقول لكل من بشار الأسد والحكومة السورية والجيش السوري وقوات الأمن السورية والأخضر الإبراهيمي والجيش الحر: من أجل سوريا، لا تقوموا بتدمير الأصول الثقافية.
صدقوني، كانت المئذنة أكثر قيمة من أمور السياسة والحكومة، وكانت دليلا على الهوية السورية. ويقول المقدسي في كتابه «أحسن التقاسيم»: «وأما حلب فبلد نفيس».
هل تعرف ما هذا الشيء النفيس؟ إنه مئذنة حلب.