تعليقا على مقالتي ….. الانقلاب… نموذج ديمقراطي جديد..؟؟!!..المنشورة قبل أكثر من شهر.. كتب أستاذنا العزيز الدكتور حلمي شعراوي و هو شخصية أكبر بكثير مما يمكنني أن أصفه ببضع كلمات… رجل من رجالات عهد عبد الناصر و استاذ جامعي وخبير في العلاقات العربية و الأفريقية … كتب ملاحظة مهمة جداً …( لو تجاوزنأ مشكلة المسميات مأذا عن 30يونيو هل هو حدث عادي لهذه الدرجه؟ل ولماذا يتجاوزه مثقفو الغرب ومن يعيشون في الغرب بهذه الطريقه. ؟ بينما مدلولاته كثيره وفق الجمله الاخيره · ) …. و قد وعدت الدكتور حلمي بان اكتب مقالة حول مشكلة المفاهيم التي يتألم منها المثقفون المصريون حيث أن القوى الغربية بصورة عامة و خاصة الولايات المتحدة لم تظهر حماسة للتغيير الكبير الذي حصل بين 30 يونيو/ حزيران و 3 يوليو/ تموز و ظلت تراوح و تستفز المصريين بين مصطلحي انقلاب و ثورة…
صحيح أن مقالتي السابقة أطلقت اسم الانقلاب على دور الجيش في ذلك التغيير الهائل لكني ربطت ذلك الدور بحركة الشعب التي لم اسميها ثورة بل طرحت بدلا من ذلك تساؤلات و هو…. (لماذا لا نسميها انقلاب و ما هي المشكلة في ذلك )… منطلقي في ذلك كان اولا …..محاولة للابتعاد عن صراع المفاهيم و التركيز بدلا على التغيير الحقيقي في الواقع… و ثانيا… دور هذا التغيير في مستقبل التطور السياسي في مصر و هو أشرت اليه بعنوان نموذج ديمقراطي مختلف يتطور في ظل دور رائد و لكن غير تقليدي للجيش…
أقول هذا ليس دفاعا عن ما جاء في مقالتي و أنما كمدخل لمناقشة صراع المفاهيم بين الغرب و بقية العالم و دور ذلك الصراع في تغيير الواقع الحياتي لشعوب الأغلبية المطلقة في العالم خارج نطاق ما يسمى مجتمعات الغرب… و اود أن أبدا اولا بطرح رؤيتي حول هذه الإشكالية قبل العودة آلى النموذج المصري الجديد في التغيير…
منذ كتابة أطروحتي للدكتوراه سنة 2000 و مرورا بأغلب كتاباتي و التي لم يكن الدكتور حلمي بعيدا عنها… كنت و ما زلت اطرح فكرة البحث عن البدائل… و كانت أطروحة الدكتوراه هي نقد لمفهوم التنمية و دور المثقفين في مصر بصورة عامة التقليديون منهم و الحداثيون و الذين اعتقد أن دورهم ليس فقط لم يساهم كثيرا في دفع عجلة التطور و التنمية و إنما ربما بوعي او بغير وعي أصبح جزءا من مشكلة أحداث التشظي في المجتمع المصري…
في فترة إعدادي للاطروحة أي نهاية التسعينات من القرن الماضي و لحد الآن ظهرت في الغرب الكثير من المفاهيم و المصطلحات مثل العولمة و الحداثة و ما بعد الحداثة و نهاية العالم و صراع الحضارات و الحوكمة الرشيدة و التنمية المستدامة….الخ… و لقد شهدت بنفسي و شاركت في الكثير من المؤتمرات هنا و هناك في العالم العربي وغيره حول هذه المفاهيم…. لقد لمست انه تم وضع طاقات هائلة في الإعداد و التحضيرات و إدارة هذه المؤتمرات و طباعة الأوراق و دفوعات الفنادق و دعوة المثقفين الغربيين …. و….و.. الخ… في المحصلة تم أنفاق الكثير من الأموال و الطاقات النفسية و آلاف ساعات العمل في مناقشة مفاهيم لا تقدم و لا تؤخر في واقع المجتمعات الفقيرة…
لقد نسي مثقفونا دوما حقيقة مهمة جداً و هي أن هذه المفاهيم و المصطلحات إنما هي وصف علمي لتحولات و تغييرات اجتماعية و سياسية و اقتصادية و ثقافية في الواقع الحياتي في المجتمعات الغربية نتيجة التطور التكنولوجي و تطور النظام الديمقراطي و علاقات الإنتاج ….الخ… أي أننا نتحدث عن تغييرات ملموسة و واقعية في المجتمعات الغربية يمكن رصدها و في هذا الاطار فان كل ما فعله و يفعله المثقفون في الغرب… و هم بالمناسبة لا يعيشون في بروج عاجية و لا يجلسون في مكاتب مرفهة و مغلقة كما قد يتصور البعض… بل هم متواجدون في الشارع يعيشون بين الناس و يتابعون التطورات و التغييرات على ارض الواقع… و لذلك فما يفعلونه هو وضع هذه التغيرات التي يلمسونها في إطار مفاهيم قياسا مع المسار العام لتطور المجتمع و تأثيرات ذلك على القيم الأخلاقية و السلوكيات الاجتماعية و غيرها في المجتمع…
السؤال الان هو… هل لهذه التطورات في المجتمعات الغربية اهمية لبقية العالم..؟؟… نعم من المؤكد أن دراسة و فهم هذه التطورات في المجتمعات الغربية شيء مهم لكنه ليس أساسيا في تغيير الواقع الحياتي للشعوب الأخرى…رغم أهمية هذه التجارب و المفاهيم المستندة إليها… أتذكر في هذا المجال انه في مجموعة مقالات عن التنمية في العراق كتبتها في بداية السنة الماضية ما يلي ….( أن التنمية هي ليست مزامير نحفظها و نرددها… التنمية هي دراسة الواقع كما هو … ثم وضع أسس واقعية للتغيير بما يتناسب مع الإمكانات و الظروف الموجودة في كل مجتمع …)…
و أتذكر ايضا أننا في جامعة البورغ Aalborg University في الدنمارك استقبلنا سنة 1996 أستاذا جامعيا مشهورا هو Zygmunt Bauman حيث تحدث في محاضرة عن الحداثة و ما بعد الحداثة و صور لنا أن العالم كله يسير في هذا الخط… فطرحت عليه سؤالا… (أنني عندما أسمعك تتحدث عن هذه المفاهيم يخلق لدي انطباع و كأنك تتحدث عن العالم كله… لكن .. هناك ناس في المجتمعات الفقيرة لا يعرفون حتى الصابون الذي نستعمله لغسل أيدينا… هل أن هؤلاء يمرون أيضاً بمرحلة الانتقال من الحداثة الى ما بعد الحداثة…؟؟؟..)…
نعم …. خلال هذه التجربة و تجارب كثيرة أخرى لمست الانفصام بين الواقع المفاهيم عندما نقارن تجارب شعوب مختلفة… و لتقريب الموضوع الى واقع الشعوب الفقيرة اود أن اطرح مجموعة من التسؤلات البسيطة التي قد يطرحها أي إنسان عادي… الم يكن من الأفضل لمثقفينا أن ينفقوا طاقاتهم العلمية و النفسية و حتى المادية في الذهاب الى المصانع و المزارع و المدارس و المؤسسات المختلفة … أولا لكي يشاهدوا و يعايشوا حياة الناس و ظروف الحياة و الإنتاج عن قرب …. و ثانيا…كي يساهموا في محو الأمية الثقافية و الامية التعليمية… ؟؟.. لماذا لا يفكر احد في عقد المؤتمرات و الورك شوبس workshops في مزرعة او في مصنع او مدرسة او أية مؤسسة و بمشاركة العاملين و الفلاحين و الطلبة و غيرهم و الاستماع الى أفكارهم و مناقشة رؤاهم حول كيفية الاستفادة من هذا او ذلك من المفاهيم بدلا من حفظ هذه المفاهيم في إدراج المكاتب … ؟؟.. لماذا لا يتم أنفاق هذه الأموال في طرح مشاريع و لو صغيرة بدلا من إنفاقها على مثقفين من الغرب ليسوا بحاجة إليها و لا يساهم حضورهم في إغناء الحياة الثقافية في مجتمعات لها من الإرث الثقافي و الحضاري آلاف السنوات..بل أن كل ما يطرحه هؤلاء المثقفين الغربيين هو التغيير الاجتماعي الذي يعني بالنسبة لهم محو و إزالة ارث آلاف السنوات في بضع دقائق و أيام و كأننا نعيش في عالم السحر و الخيال و ليس في عالم الواقع…؟؟..
أنا لا أن استسهل الأمور و لا احاول ان أوقع في فخ الفكر التبسيطي لكن اود الإشارة الى حقيقة يعرفها اغلب المثقفين و هي أن شعوب شرق آسيا هي الشعوب الأكثر إنتاجا و الأقل كلاما… نعم الرجل و المرأة في اليابان الصين و كوريا و غيرها يعملون لساعات طويلة خلال النهار أي يعملون أكثر بكثير من عدد ساعات العمل القانونية… و أنهم قلما يتمتعون بأوقات فراغ و تسلية و شرب الشيشة و القهوة….الخ… ربما من وجهة نظر البعض أن هؤلاء تحولوا الى روبوتات و أنهم خسروا بعضا من حقوقهم الإنسانية … اتفق مع هذا الرأي لكن هذا هو الواقع و هو واقع ثقافي و ليس له علاقة ضرورية بتدخل الدولة و القوانين القسرية و الإجحاف و غيرها… و لعلنا أيضاً نعرف أن الغرب الذي عادة يعترض على عدم احترام حقوق الإنسان في الصين يحترم هذه الثقافة و يتعامل معها تعاملا واقعيا… و هذا ما يجب أن يحصل للشعوب الأخرى و منها مصر..
و بناء على كل هذا يمكننا أن نطرح التساؤل المهم الذي يتعلق بالتغيير في مصر… مالذي يضير مصر سواء أطلق عليه الغرب ثورة أم انقلاب..؟؟.. هل هذا المفهوم او ذاك هو الذي يحدد مسار التغيير في مصر أم أن المصريين بعمالهم و فلاحيهم و مثقفيهم … بل حتى العاطلين عن العمل منهم… هم الذين يحددون ذلك المسار و مستقبل وطنهم و شعبهم…؟؟..
ًاعتقد شخصيا أن الذي حدث في مصر هو تغيير و انقلاب مهم في مسار التطور في الشرق الأوسط و لذلك فقد أشرت في المقالة السابقة الى عدة نقاط أريد أن أوضحها هنا و هي… أولا… ذكرت أن الانقلاب هو انقلاب على القيم التقليدية في مفهوم الانقلاب لانه لا يهدف الى السلطة بل هو انقلاب بمشاركة الشعب اي لم يكن انقلابا نخبويا و هذا معناه انه تواصلا بين الجيش و الشعب…ثانيا… هو انقلاب على التبعية القديمة و أعني بها الارتباط الاقتصادي الذي لم ينفع مصر بل ساهم في هيمنة الفساد فيها… ثالثا.. هو انقلاب على التبعية الحداثوية و أعني المفاهيم و المقاييس الغربية للديمقراطية و الحوكمة الرشيدة التي ساهمت بشكل ما في انتشار الفوضى…. رابعا… أن الانقلاب هو الطريق الى نموذج قد يشبه النماذج الفعالة في روسيا و الصين و ايران التي يرفض الغرب أن يسميها ديمقراطية لكنها مقبولة من شعوب هذه البلدان و فعالة في إدارة التطور و التغيير و التقدم…
أخيرا… أعود الى ملاحظة أستاذنا العزيز الدكتور حلمي و في هذا الإطار اود أوضح بعض الامور المهمة… أولا… في بداية انطلاق الثورة في يناير 2011 جرت نقاشات كثيرة في الإعلام و بين المثقفين في الغرب حول القوى التي من الممكن ان تستلم السلطة في حال سقوط حكم الرئيس مبارك… كان التركيز كله على الاخوان المسلمين باعتبارهم القوة الوحيدة بناء على تاريخهم و قوة تنظيمهم و حضورهم الجماهيري…. هل كان ذلك تمهيدا و اعدادا نفسيا لقبول حكم الاخوان لاحقا… ربما… و لكن الجزم في ذلك يحتاج الى دراسات كثيرة … لكني لا استبعدها…ثانيا… عند استلام الاخوان الحكم ظهرت ايضا انتقادات شديدة تعبر عن تخوف من تحول الشرق الأوسط الى الحكم الإسلامي خاصة أن التجربة تكررت في تونس بالإضافة الى الظهور القوي و العنيف للإسلاميين في سوريا… لكن كان هناك ايضا كلام و توقعات كثيرة عن ثورة ثانية في مصر خاصة ان القوى الليبرالية كانت تعارض حكم الاخوان… ثالثا… عندما وقع التغيير الاخير و دور الجيش البارز فيه وجد الغرب نفسه امام معضلتين اخلاقية و سياسية… اخلاقيا حاولت الدول الغربية التخلص من الارث التاريخي في دعمها للدكتاتوريات في العالم و خاصة بعد تجربة الجزائر و حماس في فلسطين حيث تم استبعاد اسلاميين وصلوا الى الحكم عن طريق الانتخابات… سياسيا … كان يجب على القوى الغربية الدفاع عن نظام سياسي … و اعني النظام الديمقراطي… الذي يحاول الغرب بكل الوسائل نشره في العالم … فكيف يمكن تشجيع انقلاب على هذا النظام بغض النظر عن القوة التي وصلت الى الحكم عن طريقه..؟؟… لكن كان هناك ايضا تردد استنادا الى تجربة النازيين في المانيا و الفاشيست في ايطاليا…و الذي يعني ان هذه القوى ما تزال مستبعدة من اي امكانية للعودة الى الحكم و هذا يشكل واحدة من اهم اشكاليات النظام الديمقراطي في الغرب… رابعا… مع تطور النظام الديمقراطي و تطبع الحياة الاجتماعية و السياسية بمفاهيم و تطبيقات الحرية الفردية و زوال الطبقية السياسية فان فكرة العودة الى الحكم العسكري الفوقي مرفوضة تماماً… و هذا الإحساس ينسحب على رؤية الإنسان و المثقف على السواء في المجتمعات الغربية… طبعا هناك تناقض واضح بين هذه الحالة و التدخل الغربي في الشؤون الداخلية للدول الأخرى و لذلك تحاول الدول الغربية دوما شرعنة تدخلاتها الخارجية بمسائل الدفاع عن حقوق الإنسان و الحرية و الديمقراطية … الخ… و في حالة مصر فان القوى الحاكمة كان عليها التماطل و إيجاد التبريرات لعدم التدخل للدفاع عن نظام ( ديموقراطي) كان يتم إزالته بالقوة العسكرية… و اعتقد أن الاستفزاز عن طريق اعتبار الحدث بانه انقلاب كان يمكن وضعه في إطار هذه المحاولات على الأقل فيما يتعلق بخطاب الدول الغربية الداخلي… لا أريد هنا أن ادخل في ما قيل و ما يزال يقال عن العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة و الإخوان المسلمين و مساًلة بيع قناة السويس و جعل سيناء وطنا بديلا لأهل غزة…الخ… لان هذه القضايا تحتاج الى دراسات وثائق و معلومات غير متوفرة للباحث الموضوعي بهذه السرعة كوننا ما زلنا نعيش المعمعمة و هناك ادعاءات و ادعاءات مقابلة مما يجعل الأمور غاية في الصعوبة للجزم بأي شيء في هذا الإطار…
و لكن اجمالا فان الثورة الثانية في مصر كانت…. بالنسبة للكثير من الباحثين و القوى السياسية و المتابعين …. متوقعة و على هذا الأساس فانه يمكن فهم كل الذي جرى… و أعني به المليونيات التي كانت تعترض على حكم الإخوان…دور وسائل الإعلام المضادة… تشكيل حركة تمرد و تحالف القوى السياسية في جبهة الإنقاذ و أخيرا الإنذار الذي وجهه الجيش و الحشر العظيم يوم 30 يونيو و أخيرا وضع خطة الطريق موضع التطبيق يوم 3 يوليو … هذا كله يمكن اعتباره عملا واحدا متصلا و أن جرى في مراحل متعددة و باساليب مختلفة …. هل نسميها ثورة أم انقلاب او أي شيء آخر ليس مهما… المهم هو أن يتم استثمار هذا التغيير في أحداث نقلة نوعية في مسار التطور و التنمية في مصر….. و ليكن من دلالات هذه النقلة أن يتم إنتاج او إعادة إنتاج مفاهيم جديدة تتوافق مع الواقع المصري و بذلك نتخلص من أفيون زرعه الغرب من خلاله مفاهيمه الغريبة…
مع كل الحب الى شعب مصر و مثقفيها الذين تعلمنا منهم الكثير…