المسيحيون المشرقيون : ضحايا التدخلات الخارجية

ثابت السالم: البوصلة شرق المتوسطiraq

لم يكد السيد المسيح يغيب عن هذه الأرض، حتى أصبحت سوريا المعقل الأساسي للمسيحية حركة وعقيدة. وكان هروب القديس بولس الرسول إلى ولاية حوران وتلقيه الفلسفة المسيحية في أديرة بصرى ومن ثم انتقاله إلى أنحاء الامبراطورية الرومانية للتبشير بها البرهان الأول على أن هذه العقيدة تمكنت من وضع الإطار النظري لها خلال فترة قياسية.

وانتشرت هذه العقيدة حتى شملت جميع السكان من أقصى البلاد إلى أقصاها وشمل ذلك القبائل العربية الكبرى والحواضر جميعاً. تبنت العقيدة الجديدة التي وصلت إلى حدود الهند وأفغانستان شرقاً وجورجيا وأرمينيا شمالاً، القبائل العربية الكبرى ومنها تغلب وبكر وكلب وضجعم وقضاعة وتنوخ وغسان وسليح والمناذرة وسواها…

ومع هذا الانتشار السريع والواسع برزت الخلافات العقائدية بين فلاسفة المسيحية حول طبيعة المسيح وأي الطبيعتين فيه تسبق الأخرى: الإلهية أم البشرية… وبالتالي حدث الاصطفاف بين المؤمنين حول آبائهم المختلفين. ولم تنجح المجامع التي حاولت الوصول إلى تعريف لطبيعة المسيح إلى نتيجة على مدى قرن كامل. ورغم محاولات الوصول إلى حل وسط باعتبار المسيح يتمتع بطبيعتين إلهية وبشرية متساويتين في الجوهر لم ينجح الأمر في وضع حدٍ لهذه الخلافات التي تحولت إلى نزاعات بين رؤساء الكنيسة في ما بينهم.

واستغلت الامبراطوريتان الفارسية والبيزنطية هذه الخلافات بحيث أصبح الخلاف سياسياً يحمل طابعاً عقائدياً وتمثل في حروب المناذرة (النسطوريين) وأبناء عمومتهم الغساسنة (المونوفيزيون) فيما بينهم. بقيت الصراعات العقائدية السياسية تعصف بسوريا في وقت ازداد فيه العمق الإيماني بحيث طبعت العقيدة سلوك السكان وازداد نشاط الرهبان في الأرياف إلى حد بعيد.

أصبحت خريطة الإيمان المسيحي واضحة المعالم منذ انعقاد مجمع خلقيدونيا في منتصف القرن الخامس وحتى دخول الإسلام إلى دمشق عام 634. المنطقة الشرقية أي العراق وحتى البحرين ومكة كانت عقيدة نسطوريوس هي السائدة (الطبيعة البشرية) في حين بقيت سوريا الغربية وحتى الحجاز تتمسك بالعقيدة المونوفيزيقية باستثناء الحواضر التي اتبعت عقيدة الطبيعتين بسبب الوجود الرسمي لمعتقد الامبراطورية.

إلا أن المفارقة هي أن الغساسنة الذين كانوا على صلة مع أبناء عمومتهم في الحجاز واليمن أصبحوا الحلفاء السياسيين لأعدائهم الذين سهلوا فتح دمشق لخالد بن الوليد وانتزاعها من يد البيزنطيين مما يثبت أن الرابطة القومية تغلبت على أي اعتبار آخر في هذا الصراع.

هذه المقدمة السريعة ضرورية لإلقاء الضوء على واقع المسيحيين منذ الفتح العربي وحتى اليوم نظراً إلى ما يردده البعض من أن السبب الأساس في هجرة المسيحيين المشارقة بدأت مع الفتح العربي لبلاد الشام.

منذ فتح دمشق لم تثبت الوثائق وجود أيه خلافات أو افتئات من جانب المسلمين على مسيحيي سوريا وبالعكس. قد لا يكون من المعروف أن المسيحيين لم يعتبروا المسلمين حملة لدين جديد بل إنهم اعتبروهم إحدى الطوائف المسيحية التي كانت منتشرة في مكة قبل بدء الرسول محمد بن عبد الله دعوته. بل إن الاتصال بين مؤمني مكة ومنظري النساطرة في سوريا (الراهب بحيرا) كان قائما ومستمرا. والكثيرون من المسيحيين يؤمنون بأن الإسلام ليس سوى فرقة مسيحية كانت قائمة منذ بدء الانشقاقات الفلسفية بين آباء الكنيسة أي منذ القرن الثاني وحتى السابع. بل أن معاوية وقادة الفتح العربي كانوا يؤدون صلاتهم في الجهة الغربية من كاتدرائية يوحنا المعمدان الكبرى في دمشق في حين يؤدي المسيحيون صلواتهم في الجزء الشرقي وذلك حتى ولاية الوليد بن عبد الملك.

ويوضح ذلك أيضاً اشتراك الغساسنة بقيادة جبلة بن الأيهم مع العرب في معركة اليرموك ودخول جيشهم مع الجيش العربي دمشق فضلاً عن كيفية فتح القدس والعهدة العمرية.

ولن ننسى هنا أن بناء الدولة الأموية هيكلاً وسلطة بل وأسطولاً قام على جهود مسيحيي سوريا ومعارفهم وخبراتهم التي وضعوها في تصرف الخلفاء الأمويين. ولا بد من الإشارة إيضاً إلى أن عدد المؤمنين من المسلمين عند وصولهم سوريا لم يكن يتجاوز ما نسبته خمسة بالمائة من عدد مجموع السكان والذين قد يكون عدد منهم يشارك المسلمين معتقدهم لجهة طبيعة المسيح وكانت تقاليد بعضهم قبل دخول الإسلام تشترك مع تقاليد أهل مكة. “فكلمة الله” هي التي استخدمها الغساسنة وكانت صلواتهم تشتمل على الركوع والسجود والأصوام وحجاب النساء… كذلك قصة ابراهيم وهاجر والحجر الأسود في الكعبة [1]. بل أن الغساسنة احتفظوا بتعدد الزوجات وكثير من التراث اليهودي الذي أعتقد أنه رافقهم منذ مجيئهم من اليمن حيث تثبت آخر البحوث العلمية أن تواجدهم كان في اليمن وليس في فلسطين (سلسلة كتب الدكتور فاضل الربيعي).

لا بد من الإشارة إلى أن جميع مدن سوريا كالقدس وبصرى ودمشق وحلب باستثناء أنطاكية سقطت في ايدي العرب المسلمين برفقة جيوش حلفائهم المسيحيين سلماً. لذا نقول أن البيئة العقائدية والقومية لسوريا لم تكن معادية لما حمله المسلمون من عقيدة وشعارات بل يمكن القول إن ظروف البلاد جعلت الترحيب صفة غلبت صفة العداوة عند دخولهم إليها.

يلخص ذلك ما قاله الأمير يزيد بن معاوية في مقر بطريركية المونوفيزيين في دمشق “ما أنتم إلا منا وأصحابنا، وماذا يربطكم باليونانيين؟”.

كذلك استمر معاوية ويزيد بالسماح في بناء الكنائس في مصر وسوريا بل وإعادة بناء الكنائس التي دمرتها الزلازل (كنيسة الرها).

بداية التغيير:

استمرت علاقة الكنائس السورية بالخلافة علاقة ممتازة حتى نهاية القرن السابع مع الخليفة عبد الملك بن مروان الذي قرب الكثيرين من رجال الكنيسة إليه ولا سيما أصحاب معتقد الطبيعة الواحدة وكان للبطريرك أثاناسيوس اليعقوبي حظوة كبيرة عند الخليفة مروان نظراً لسعة علمه واطلاعه وزمالته للعبقري يعقوب الرهاوي بحيث أعفى الإكليروس من الضرائب مما أثار حفيظة العرب المسلمين فحاول شراء كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان في دمشق ثم تراجع عن طلبه بعد رفض المسيحيين للطلب[2].

ولعله من أجل هذا الطلب عينه بدأت علاقة الخليفة الوليد من عبد الملك (705 – 715) تسوء مع المسيحيين. فقام بتحويل الكنيسة إلى الجامع الأموي المعروف في يومنا هذا. وكان من الطبيعي أن تتدهور العلاقات بين الخليفة والمسيحيين ولأول مرة فحاول اجتذاب قبيلة تغلب إلى الإسلام عنوة وقتل زعيمها الشيخ جميل ونقل حسابات الدولة من اليونانية إلى العربية وألغى اليونانية كلغة رسمية للدولة وساءت علاقته مع بيزنطة وهاجم ممتاكاتها إلا أنه هزم في محاولته حصار القسطنطينية. وبقيت علاقة الوليد جيدة مع أتباع الكنيسة السورية المونوفيزية غير أن فشله في الحصار أدى إلى انقلابه على الكنيسة والمسيحيين عموماً واضطهادهم.

واستمر الخليفة سليمان في ذلك وشدد كثيراً على رعايا الخلافة المسيحيين ولا سيما في موضوع الضرائب. وانسحب الأمر على الخليفة عمر بن عبد العزيز فحدث الكثير من القتل بل الاضطهاد رغم أن علاقة الخليفة عمر بقيت جيدة مع بعض رجال الكنيسة ومنهم بطريرك أرمينيا.

ومن الملاحظ أن العلاقات بين الخلفاء آنفي الذكر ومن تلاهم كيزيد الثاني مع المسيحيين العرب كانت تسوء كلما ساءت العلاقة مع بيزنظة حتى وصل الحد بعمر كما يقول البعض أن يجبر المسيحيين على اعتناق الإسلام أو الهجرة.

تحسن الأمر مع هشام (724 – 743) خليفة يزيد الثاني بالنسبة للمسيحيين ,نتيجة الزواج المختلط ,ولا سيما مع الكنيسة البيزنطية, ثم عادت فتوترت مع الوليد الثاني (743 – 744) ومن ثم ازدهرت مع مروان بن الحكم آخر الخلفاء الأمويين.

إذن لا بد من الملاحظة هنا أن سوء العلاقة بين بعض الخلفاء الأمويين والمسيحيين السوريين كان نتيجة لسوء العلاقات بين الدولة العربية والخارج ولا سيما بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس أتباع معتقد بيزنطة بنما كانت العلاقة مع الكنيسة السورية (العربية) أفضل حالاً بكثير (أمر الوليد الثاني بقطع لسان المتروبوليت ثيوفانس الأرثوذكسي في دمشق لأنه تحدث بالسوء عن الكنيسة العربية ونفاه إلى اليمن).

لم يختلف الوضع كثيراً مع الخلفاء العباسيين عنه مع آخر الخلفاء الأمويين فقد اختلطت الديانة بالسياسة وأصبح مسيحيو الكنائس الغربية أعداء شبه دائمين للخلفاء العرب وقد حدثت أعمال تهجير وهي الأولى على مسيحيي سوريا بحيث اضطروا إلى مغادرتها والاستقرار في المناطق الخاضعة لبيزنطة أو الجزر المتوسطية على مدى الحكم العباسي ولا سيما الخليفة المتوكل.

لكن الحال لم تكن كذلك مع أتباع الكنيسة الشرقية المونوفيزية. والطريف في الأمر أن أعداء الإسلام من المسيحيين لجهة المعتقد كانوا هم حلفاء العرب، فالإسلام, الذي يشبه في معتقده تعاليم الكنيسة النسطورية عدوة الكنيسة السورية اعتمد على أتباع الأخيرة في العلوم والترجمة والطب وسواها في بغداد أيضاً. وهذا يعني أن الرابطة القومية طغت على الرابط الديني بحيث كان العنف ضد أتباع الكنيسة البيزنطية يزداد دوماً مع سوء العلاقات السياسية وهي ما كانت عليه الحال عند دخول المسلمين بلاد الشام فكانت جيوش الغساسنة المونوفيزيت حليفتهم ضد البيزنطيين.

الأعاجم والدويلات والموقف من المسيحيين:

المرحلة الأولى: مع بدء دخول الأعاجم إلى بغداد وتدهور قوة الدولة العباسية وفتح أبوابها للقوميات القادمة من وراء المناطق العربية، ازدادت مظاهر الاضطهاد للمسيحيين عموماً. فقد تمكنت هذه العناصر القادمة من فارس وكردستان وتركمانستان من التغلغل في جسد الدولة. وكان من الطبيعي أن يقوم هؤلاء الوافدون بالإيغال في معاداتهم للمسيحيين العرب في العراق وسوريا كي يعوضوا عن كونهم لا ينتمون إلى العنصر العربي بتبني عدو لهم يمنحهم شرعية ما في نظر الحكام والمواطنين .

ومنذ قرابة العام 970 وحتى دخول الصليبيين شهدت سوريا ظهور الإمارات والإقطاعات التي لا يحكمها العرب وكان طبيعياً أن يزداد اضطهادهم للمسيحيين بسبب صراعهم العنيف والدائم مع بيزنطة. كذلك كانت سوريا في الجنوب خالية من أيه سلطة مركزية تجاورها الدولة الفاطمية في مصر ودويلة القرامطة في الخليج والاقطاعيون الأعاجم والتجمعات البدوية تعيث فساداً في الوسط. ويستثنى جبل لبنان من هذا الوضع بسبب تمركز الموارنه فيه وإنشاء رقعتهم الخاصة بهم منذ انتصارهم على الخليفة عبد الملك بن مروان في موقعة عنجر.

في هذه الآونة استطاع البيزنطيون استعادة السيطرة على حلب وسوريا الشمالية والمنطقة الساحلية واستمر الأمر إلى أكثر من مائة عام استعاد فيها مسيحيو الكنيسة البيزنطية (كنيسة الطبيعتين) وجودهم هناك وانتعشت أمورهم وظروفهم وعادت أنطاكية إلى لعب دورها القديم. لكن في الوقت ذاته عانت الكنيسة الشرقية المونوفيزية الأمرين بسبب التهديد المستمر لها من قبل القادمين الجدد من الأعاجم من شرق الجزيرة السورية معقلها ووجود بيزنظة في جوارها الغربي.

وفي حقيقة الأمر شهدت هذه الفترة انقسامات طالت المسلمين أنفسهم فظهرت الطوائف المختلفة التي خلطت الديانات الثلاث بالفلسفة اليونانية فظهرت معتقدات جديدة انعكست على المجتمع في سوريا بشكل حاد فأصبح هذا المجتمع ضعيفاً ومهلهلاً وأصبح فريسة سهلة للسقوط في أيدي القوى الأخرى القادمة من الخارج مهما كان حجمها ضئيلاً.

المرحلة الثانية: نعني بها ملء الفراغ في سوريا من قبل الغزاة القادمين من الشرق من جهة والغزاة القادمين من الغرب من جهة أخرى وهم الصليبيون.

قامت الدويلات الصغيرة (القلاع) في سوريا بحيث أصبحت كل مدينة أو قلعة يملكها أعجمي وانسحب ذلك على دمشق وحلب وحماة والموصل وسواها حتى أنطاكية ذاتها. وقد أصاب البلاء سكان سوريا بدياناتهم المختلفة بحيث لا يمكن تصور وصفها كوحدة جغرافية – سياسية. ومن الجهة المقابلة احتل الصليبيون شمال سوريا (ماردين) والساحل السوري والقدس وفتحت سوريا الداخل أمام حكم آل الزنكي الذين خلفهم الأيوبيون بعد سيطرتهم على مصر. وأصاب مسيحيي سوريا ما أصابهم على يد الفريقين فقد ترافق دخول الصليبيين محاولات فرض معتقد روما وطقوسها على المسيحيين السوريين الشرقيين (اليعاقبة) والغربيين (الأرثوذكس). ويضاف إلى هذا التشرذم البعد القومي ولغة المواطنين وحدثت صراعات بين المتحدثين بالسريانية واليونانية واللاتينية كمظاهر للانشقاقات الفلسفية. وتعرض المسيحيون في الداخل إلى الاضطهاد على أيدي المماليك القادمين من مصر وحكم دمشق ثلاثمائة مملوك خلال مائتي عام.

استمرت هذه الحال حتى خروج الصليبيين في نهاية القرن الرابع عشر وقد وتحولت مدينة أنطاكيا (مدينة الله العظمى) تحولت إلى قرية مدمرة خالية من الحياة على يد المماليك الذين خرج الصليبيون في نهاية عهودهم. ولم يقصر تيمورلنك الذي غزا سورية في الإيغال بتدمير البلاد والعباد فكانت سوريا رقعة جغرافية أقرب إلى الموات وأشد ما ميز المسيحيين فيها انقاساماتهم وخلافاتهم العقائدية التي لا تنتهي.

المرحلة الثالثة: احتلت سوريا عام 1516 من قبل العثمانيين. استغل العثمانيون أهمية القسطنطينية (اسطنبول) كزعيمة للكنائس الأرثوذكسية بعد فقدان انطاكية لأهميتها وانتقال المقر البطريركي الأرثوذكسي إلى دمشق أيما استغلال. وكانت العلاقة بينهم وبين الزعماء الدينيين المسيحيين مصدراً للربح وجباية الأموال من المواطنين ورجال الدين والكنائس على السواء. والعنصر الذي زاد في هذا الاستغلال هو الخلافات الفقهية والشخصية بين رجال الدين. فكان انتخاب البطريرك أو المطران يستلزم دفع مالٍ إلى الوالي ووقعت البطريركيات تحت الدين كما صودر الكثير من أملاك الكنائس وتحول بعضها إلى محلات تجارية لسد الديون.

أدت علاقة الكنيسة باسطنبول وخضوعها إلى إدارة السلاطين وبدء ظهور البروتستانتية في القرن السابع عشر إلى تحول المسيحيين وأساقفتهم إلى روما فأعلنت الشراكة معها (1724) تحت اسم طائفة الروم الملكيين الكاثوليك وأعاد الباب العالي إحياء وتشكيل طائفة الروم الأرثوذكس القديمة استمراراً للكنيسة السابقة خشية خسارة النفوذ وحدثت انقسامات جديدة في سوريا بحيث ضعف المسيحيون مرة أخرى وازدادت طوائفهم ولا سيما وأن كنيسة القسطنطينية كانت تعين بطاركة يونان وقبارصة لبطريركية انطاكيا العربية لم تكن مصالح رعاياهم هي مصالحهم .

هجرة المسيحيين في العصر الحديث:

تتصف الهجرة بين المسيحيين بصفتين الأولى هجرة داخلية أي داخل أراضي سوريا نفسها باعتبار لبنان والأردن كانا جزءاً منها، وأخرى خارجية تمثلت بالانتقال إلى بلاد أخرى خارج حدود الإقليم. أشرنا في ما سبق الى الهجرة التي أسميتها الهجرة الأولى حينما غادر سوريون وطنهم إلى قبرص والجزر اليونانية بسبب بعض مظاهر الاضطهاد إبان الحكم العربي.

الهجرة الداخلية نهاية القرن الثامن عشر: انتقل المسيحيون السوريون من موطن إلى موطن داخل البلاد لسببين: الأول هو الكوارث الطبيعية كالزلازل والأوبئة والثاني تعلق بحروب أو ضغوط مورست عليهم أو كانوا طرفاً فيها.

كانت أبرز الهجرات الداخلية خروج الكثير من سكان جبل حوران الذي كان مسيحياً صرفاً في بلداته وقراه إلى لبنان والأردن ووادي النصارى. كان جبل حوران خزاناً بشرياً للمسيحيين على اعتبار أنه كان بعيداً عن قلب الصراعات في الداخل السوري وكان وعر المسالك فحافظ سكانه على العيش فيه وكما لو أنه شبه محمية. وقد جرت في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر (لم يحقق تاريخها بالضبط) معركة بين حملة وهابية جاءت من الجنوب, حالفها البدو من سكان جبل حوران, وبين السكان إلى الشرق من مدينة بصرى انكسر فيها السكان المسيحيون مما اضطرهم إلى نزوح جماعي باتجاه قرى سهل حوران الرومانية التي كانت خالية من السكان تماماً[3]. اتجه البعض الآخر إلى منطقة وادي النصارى كما أشرت فاستوطنوا مناطق مرمريتا وصافيتا وجوار قلعة الحصن ومنهم من ذهب إلى حماة ومدينة حلب. وغادر آخرون باتجاه منطقة البقاع اللبنانية واستوطنوا في الفرزل وزحلة وحاصبيا والكورة في الشمال ومناطق جزين في الجنوب. أما الذين اتجهوا إلى الجنوب فاستقروا في مناطق الحصن وإربد والسلط والزرقا وسواها في الأردن. وما زالت بعض العائلات تحتفظ بروابط عائلية في ما بينها. وكانت علائلات أخرى قد استقرت قبل ذلك في سرعين وسواها في البقاع الأوسط والشمالي بسبب حروبهم مع البدو في منطقة اللجاة الصخرية في سهل حوران ومنهم آل المعلوف.

المظهر الثاني لهذه الهجرة الداخلية هي استقرار بعض الأسر اللبنانية في سوريا الجنوبية أي دمشق وسهل حوران بسبب الأحداث الطائفية التي جرت في لبنان منتصف القرن التاسع عشر حيث استقبلهم المسيحيون في حي الميدان بدمشق وفي القرى المسيحية التي كان سكانها قد نزحوا من حوران قبل سبعة عقود. عرفت هذه الأحداث بمذابح 1860 وقد ثبت أن الذي كان وراءها هم البريطانيون والسلطنة العثمانية. وقد تكون هذه الحوادث جرت عقب خروج ابراهيم باشا من سوريا لأنه هو الذي أعاد للمسيحيين بعض الحقوق على أساس التساوي في حق المواطنة. قتل في هذه الأحداث آلاف المسيحيين في دمشق ونتج عنها هجرة موازية باتجاه لبنان والعالم الجديد.

مرة أخرى لا بد من الإشارة إلى أن المحرك الأول لمثل هذه الحوادث كان الخارج تماماً كما في سالف الأيام عندما كانت تنعكس الصراعات بين الدول على المسيحيين في سوريا.

بالعودة إلى بداية القرن التاسع عشر نذكر أن حوران شهدت نتيجة تشتت سكان الجبل في قرى السهل حركة تغيير في المعتقد طالت الكثير من الأسر فتحولت إلى المتعقد الإسلامي ومنها عائلات المقداد وسويدان والعودات والسمارة والعامري والعشرات غيرها. وقد يكون أحد الأسباب في ذلك هو الضغوط التي مورست على المسيحيين لتغيير معتقدهم أثناء التطويع للدخول في خدمة الجيش الإنكشاري العثماني .. وما زالت هذه العائلات تحمل السمات نفسها في طقسها الاجتماعي التي تعبر عنها العادات والتقاليد في الأفراح والأتراح والتي يعكسها الشعر والقصائد المغناة فضلاً عن المفردات المستخدمة في الحياة اليومية بشتى صورها وأشكالها.

الهجرة الخارجية أبان النهضة العربية مع نهاية القرن التاسع عشر وحتى 1960 :

شهدت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حركات نهضوية تمركزت في سوريا (لبنان وسوريا الحاليتان) تدعو إلى التخلص من الاحتلال العثماني وعاصرت بداية التحديث في الامبراطورية العثمانية التي كما بدا كانت في طريقها إلى الزوال. وشارك المسيحيون السوريون اخوانهم المسلمين وكانوا في الصف الأول في الدعوة إلى الحرية والاستقلال. وشهدت هذه الفترة هدوءاً ملحوظاً على صعيد العلاقات بين الطوائف السورية.

وإذا عدنا إلى أسباب الهجرة إلى العالم الجديد التي بدأت مع القرن التاسع عشر نجد أن الدافع لها كان اقتصادياً في المقام الأول والهرب من مخاطر الحرب الأولى التي عبئ المواطنون فيها كمحاربين. وهذا البعد لم ينسحب في حقيقة الأمر على المسيحيين فقط, بل شمل السوريين بجميع طوائفهم من مسيحيين ومسلمين.

واستمرت هذه الهجرة الاقتصادية بهدف تحسين الأحوال واكتساب العلم حتى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين. فقد كان المسيحيون السوريون يتميزون عن غيرهم من مواطنيهم بأنهم انصرفوا في أعمالهم إلى المهن المرتبطة بالسوية العلمية في المدن, أما في الريف فقد كانت الزراعة والعمارة والحرير مهنا أساساً لهم. وقد تلقت القطاعات التي كان المسيحيون هم الغالبية فيها إلى ضربات موجعة ساهمت في هجرتهم. أما هذه القطاعات فكانت المصارف والتجارة الخارجية والتعليم والثقافة والصياغة فضلاً عن بعض الإقطاعات الزراعية في منطقة الجزيرة السورية والساحل. أدت هذه الضربات مع تغير القوانين في عهد الوحدة إلى مغادرة الكثير من العاملين فيها البلاد إلى لبنان والخارج. أما سنوات القحط التي شهدتها سوريا في الخمسينيات فقد أثرت على زيادة هجرة الفلاحين من المسيحيين إلى لبنان والأمريكيتين أيضاً.

فترة 1960 وحتى الآن:

لم تكن الأسباب التي دعت السوريين إلى الهجرة مختلفة بين المسيحيين وغيرهم من إخوانهم باستثناء تأميم المدارس المسيحية في عام 1968 التي خلفت نوعاً من الريبة حول الاتجاه الذي اتخذته الحكومة آنذاك وهل كانت هذه الخطوة موجهة ضد المسيحيين أم ضد التعليم الخاص بشكل عام، رغم أنها ساهمت بشكل أو بآخر إلى ترك المسيحيين البلاد بحثاً عن مستويات علمية أعلى لأولادهم. استمرت الأسباب هي عينها أي أن العامل الاقتصادي كان في طليعتها حتى منتصف الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي.

وتقول إحصاءات مجلس الكنائس العالمي الحالية أن نسبة العوامل وراء الهجرة هي كالتالي:

44% اقتصادية

30% بداعي إنشاء أسر مختلطة والزواج من أجنبيات

15% بدافع التحصيل العلمي

10% بداعي الخوف من التطرف وأسباب أخرى

وفي اعتقادي أن نسبة الخوف من التطرف قد ارتفعت خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة بسبب ظهور الحركات الدينية المتطرفة التي تعلن صراحة عن عدائها للمسيحية بما في ذلك الكنائس العربية المشرقية.

صاحب نمو هذه الحركات والتي مولتها دول عديدة ظهور وانتشار محطات تلفزيونية مختلفة عززت من مشاعر الخوف هذه من جهة وخلق جو اجتماعي ديني ضاغط من جهة ثانية.

وكان أخطر المظاهر لنمو هذه الحركات أعمال العنف التي وقعت في مصر ثم ما نتج عن حرب العراق وتهجير المسيحيين منها وهو ما كان ليخطر على بال أحد من المسيحيين السوريين ولا سيما وأن أدبيات الحكومة في العراق كانت توحي كما لو أن العراق أصبح بلداً شبه علماني.

كانت نسبة عدد السكان المسيحيين في سوريا إلى عدد السكان المسلمين حتى نهاية السبعينات من القرن الماضي بحدود 25% من السكان في حين تبلغ الآن حوالي 13 – 15% .

لا شك أن هذا الواقع الجديد يثير تساؤلات عميقة ومقلقة عند المسيحيين حول مستقبلهم في أوطانهم بحيث أصبح الشعور بالمواطنة أكثر اهتزازاً في ظل الدراسات والمعلومات التي تقول أن المسيحية في هذه المنطقة إلى زوال وأن إزالتها هي واحدة من أهداف الدولة العبرية وهو ما ينعكس في إفراغ الأراضي المقدسة الممنهج من المسيحيين على يد الإسرائيليين.

ومن المفيد أن نشير في هذا الصدد إلى الدور المقصر وغير الفعال لرجال الدين المسيحي ومؤسساتهم الذين ساعدوا في إنماء هذا الشعور من جهة، وفي إبقاء ممارستهم للحياة المسيحية مقتصرة على المظاهر الاحتفالية وعدم تصديهم للمحاولات الهادفة إلى إفراغ الشرق الأوسط من المسيحيين بشكل ملموس ومؤثر.

واقتصرت محاولات إجراء حوارات فعالة بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة على مناسبات بروتوكولية لم تنعكس فعلاً على المجتمع السوري بشطريه المسلم والمسيحي.

لكن من الواضح أن الفاتيكان تنبه في السنوات العشر الأخيرة إلى خطة الإفراغ هذه وبدأ اهتمامه المباشر يتوضح من خلال الحث على الإيمان بالتعددية والإصرار على وجوب بقاء المسيحيين في أوطانهم. وجاء هذا في عدد من الوثائق البابوية وفي زيادة الدراسات الموزعة على المسيحيين التي تؤكد على التشابه الكبير وكل ما هو مشترك بين المسيحيين وإخوتهم المسلمين. ولوحظ على مدى السنوات العشر الأخيرة أن الكتب التي تبحث في أصول الأديان وتعاليمها المشتركة تجد إقبالاً ملحوظاً في الوقت نفسه الذي تشهد فيه إقبالاً على الكتب الدينية الإسلامية.

وفي الخلاصة تبقى حماية المجتمعات بثقافاتها المختلفة رهناً بظهور تيارات حقيقية تبرز المشترك بين الديانتين المسيحية والإسلامية وتحد من غلواء النظريات المتطرفة التي سوف لن تؤدي إلا إلى إفقار الحياة الثقافية في المشرق بحيث يصبح منطقة أحادية الفلسفة غير قابلة للنماء مما سوف ينعكس بالضرورة سلباً على مناحي الحياة والحد من تطورها وازدهارها، وإذا كانت هناك أطراف داخلية عربية تسعى لإفراغ المنطقة من مسيحييها، فهي حكماً تنفذ هذا الدور خدمة لجهات خارجية, إسرائيل تحديدا, تسعى إلى إبقائنا تحت سيطرة شروط التخلف والتجزئة وهذا هو حالنا على مدى قرون طويلة.

[1] تاريخ كنيسة أنطاكية: خريسيموس ذوبولوس، تعريب الأسقف سنفانس حداد صفحة 526

[2] افتيموس الاسكندري (حوليات) ص 276

[3] كان من نتيجة المعركة خطف فتاتين إلى نجد عاد أحد أولادهما إلى خبب في حوران يسأل عن أخواله من عائلة الحاتم بعد أربعين عاماً.

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

One Response to المسيحيون المشرقيون : ضحايا التدخلات الخارجية

  1. س . السندي says:

    ماقل ودل … بشى من المنطق والمراجع والعقل ؟

    ١: بداية تحياتي للمفكر الحر الذي يرى الحق فواح كما العطر ؟

    ٢: ان الحقيقة الساطعة والتي يتجاهلها الكثير من المسلمون المغيبين سواء عن جهل او غباء تقول ، انه لولا المسيحيون العرب في العراق والشام وخاصة علماء السريان لما كان هنالك عرب ولا اسلام ولاهم يحزنون ، كما كان الامر في الجزيرة العربية لولا نصارتها( ومنهم رهبان وقسيسين …) لما كان محمد ولا إسلامه ولا صعاليكه ، الذي بعدما اشتد ساعده انقلب عليهم بدليل آيات قرانه نفسها ؟

    ٢: حتى اليوم لولا الخميرة الطيبة الباقية في نفوس الكثير من المسيحيين الحقيقين ، لافون المسلمين في ليلة القمر فيها ، وهو ما سيحدث ان عاجلا او آجلا اذا ما أصر المسلمون على غيهم وظلتهم وإجرامهم ، فالعالم لن يسكت على إجرامهم الى مالا نهاية وأول ضحاياهم سيكون من في بلاد الاسلام ولن ينجو الا من هم في بلاد الكفار ، انها نبوة من سفر داعش والنصرة؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.