بحث يتناول قضية المرأة العلوية في التاريخ القريب والمعاصر ما بين الفقر والتهميش الديني وكوارث السياسة الحديثة!
تقديم لابد منه:
إن قضية المرأة من القضايا البارزة في المجتمع الإنساني, عالج الإسلام الأول هذه القضية علاجاً جذرياً أقرب للعدالة والإنصاف ثم تقهقر حال المرأة ليصل الى الحضيض في الفترات اللاحقة، بعد أن كانت نظرة المجتمع الجاهلي للمرأة أنها شؤم، عادت تلك المعتقدات الخاطئة لتطفو على السطح في المجتمعات الإسلامية الحديثة بأساليب قديمة وجديدة بل ربما فاق الظلم والإعتداء الحديث نظيره الجاهلي!
لنقف معاً على تعريف “المرأة العلوية”، هذه العبارة “المبهمة” بالنسبة لكثير من الخلق، والمشتكلة على معظم مَن تبقى منهم!
ويجدر بنا قبل تحديد تعريف “صحيح” للمرأة العلوية الإتيان على معاني عبارة “المرأة العلوية” الشائعة بين الناس من أجل التمهيد لبحثنا، فالمرأة العلوية لفظاً إحدى ثلاثة نساء:
1- المنتهي نسبها إلى الإمام علي
2- ابنة الطائفة العلوية.
3- المنتمية فكراً وسلوكاً إلى الإمام علي
بالتالي كل امرأة من تلك النساء تمثِّل زمرة متميزة عن الأخرى، ونحن في بحثنا لسنا بصدد دراسة وضع المرأة المنتهي نسبها للإمام علي ولا تلك المنتمية فكراً وسلوكاً الى الامام علي لأن كلتا الزمرتين عامتان ويمكن تواجدهما في أي طائفه اسلامية في عموم أرجاء البلاد الاسلامية وسنتاول في دراستنا الزمرة الثانية وهي:
المتزوجة من رجل علوي (ينتمي إلى الطائفة العلوية) أو الناشئة في بيئة علوية عند الطائفة العلوية المعروفة.
أضواء على المرأة العلوية والتاريخ المر:
إن ظروف الحكم التي تعاقبت على بلاد الشام منذ إنتهاء حرب صفين مروراً بالعهد العباسي وإنتهاء بالحكم العثماني، فرضت على العلويين الإنزواء والعزلة في الجبال السورية الساحلية نظراً لصعوبة إرتقائها وشدة مناعتها، أنيسهم الدائم هو الخوف من البطش والإرهاب الذي كان يشيعه الحاكمون في المدن الساحلية والداخلية على حد سواء. ومن البديهي إن أولئك الحكام كانوا ينظرون إلى العلويين نظرة مليئة بسوء الظن والريبة والشك، يعزز هذا الشك وتلك الريبة أطنان من الآراء والأقوال السلبية فيهم من قبل بعض الفقهاء من السلف الصالح وانتهاءاً برجال دين البلاط الحاكم الذين أصدروا فتاوى التكفير جزافاً بأمر السلاطين والحكام لأسباب سياسية أكثر من أن تكون دينية!
فكان من الطبيعي أن يصبح العلويون بمرور الزمن فئة منسية مهملة ومنبوذة في التاريخ الرسمي، فعلى سبيل المثال من النادر جداً أن نجد تواريخ ميلاد غالبية العلويين المولودين في مطلع القرن العشرين حتى أواخر أربعيناته صحيحة، إذ لكل واحد منهم يوما ميلاد، الأول منها هو يوم ميلاده الحقيقي، والثاني هو يوم تسجيله رسمياً في سجلات الدولة!
حياة التهميش والملاحقة والمطاردة التي فرضت على العلويين ( على أقل تقدير طوال المرحلة العثمانية التي مسحت أربعة قرون من عمر الطائفة)، ترتب عليها أن إنقطع تواصل العلويين مع الحياة التي كانت تجسدها عملياً حياة المدن والحواضر، فصار لهم بمرور الزمن نمط ثقافي معين يكاد يكون خاصاً بهم.
وكان من نتائج العزلة آنفة الذكر، أن ظلمت المرأة العلوية في بعض حقوقها، كحرمانها من الميراث، وذلك الحرمان يستند الى عرف صار سلوكاً ترسّخ في الأذهان ولا يمت للعقيدة بصلة. ونعتقد أن سبب حرمانها من الميراث ( حتى عهد قريب نسبياً) كان دافعه إقتصادي بحت، بمعنى أن ضيق الحال وضنك الحياة فرضا على العلويين ذلك، إذ المرأة ستذهب الى منزل زوجها ، الذي سيكون مسؤولاً عنها، فيما الشاب أمامه مسؤوليات الزواج ومتطلباته، وهذا ما لم تكن تتحمل أعباءه المرأة. طبعاً هذه النظرة تغيرت الآن بشكل شبه كلي.
الشيخ حسن حرفوش، أحد شيوخ الطائفة العلوية في الوقت الحالي، من المطالبين بإنصاف المرأة العلوية تبعاً للشريعة الإسلامية. يقول الشيخ حسن:
“النص القرآني واضح، وهو الأساس لدينا كطائفة، فللذكر مثل حظ الانثيين، ومن خالف ذلك خالف شرع الله، لا يوجد نص ولا أمر شرعي ولا حادثة تاريخية يستند إليها أولئك، فمن لا يعطي ابنته حقها في الميراث، لا يستند إلا للنظرة الدونية للمرأة، والتي تنبع من ذكورية المجتمع. ولا يخلو الأمر من الكرماء، اللذين ينصفون بناتهم. الإحتجاج وعدم التنازل عن الميراث هو حق للمرأة، وأذكر حادثة إحتجاج سيدتنا فاطمة الزهراء، على من أراد حرمانها من إرثها الشرعي في أرض فدك”.
بالرغم من أن المرأة العلوية كانت تعمل في الحقل وفي رعي الماعز، وتربية الأبقار والدواجن، وإحضار الماء من الينابيع القريبة والحصاد، وإحضار الحطب من أجل التنور وتحضير الخبز..، شأنها شأن الرجل ، إن لم تكن تفقه جهداً في العمل.
وبسبب الإنزواء في هذه الجبال، والعيش الفطري، بحكم هذه المناطق الجبلية القاحلة، وبحكم ما خلفته بعقلية العلويين التعديات المتتالية الجائحة الجائرة، نمت فضيلة الإنصراف الكلي الى التعبد وعدم الإشتغال بشيء آخر، من قبيل: تشييد بنيان جميل أو جامع فخم أو جمع الثروات الطائلة أو إقتناء المكتبات الفخمة الجامعة، إذ ما الفائدة من كل هذا وهو لا يلبث أن يكون نهب أيدي الأقوياء المعتدين وطعم نيرانهم وضحية تعصبهم وإنتقاماتهم الجنونية!
ومن الأمور التي يصعب أن تنساها الأجيال المتقدمة في السن، هي مسألة عمل البنات العلويات خادمات في المدن، ولعلها تذكرنا راهناً بالخادمات الفلبينات والأندونيسيات..، اللواتي يملأن بيوت الطبقة الميسورة في سوريا، ومن المؤكد بلا شك أن الأسباب التي تدفع بخادمات اليوم لهذا النوع من العمل المهين هي ذاتها التي كانت تدفع بالعلويات لهذا العمل حتى خمسنييات القرن الماضي، ومن الطبيعي أنهم كن يتعرضن لمضايقات من أصحاب البيوت التي عملن بها كتلك التي تتعرض لها خادمات اليوم، مع فارق أن أصوات معاناة وآلام العلويات في ذلك الزمن لم يكن يسمعها أحد.
لاسيما إذا قام رب عملها ببيعها او تزويجها لمن يريد من دون مشورة أهلها أو حتى معرفتهم. في حين ثمة الآن منظمات حقوق إنسان ووكالات أنباء وأجهزة إعلام توصل صرخة المرأة المظلومة أكانت فيلبينة أو أثيوبية..
المرأة العلوية في مطلع عصر النهضة :
من بعد أن إنخرط العلويون في الحياة خلال نصف القرن المنصرم، وباتوا يساهمون في صناعتها، فشاركوا في تشكيل الأحزاب السياسية والإنتماء إليها، ودخلوا المدارس والجامعات، إذ من النادر أن تجد علوياً أميّاً في وقتنا الراهن، وباتوا ينظرون إلى المستقبل بثقة أكبر.
ومن الأمور التي ساعدت العلويين في نظرة التفاؤل تلك، عدم تزمت معظم رجال الدين لديهم ( بإعتبارهم هم من أخذ على عاتقه مسألة النهوض في الجبال الساحلية أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن الماضي) ، فهم ليسوا متزمتين – على سبيل المثال- في نظرتهم الى لباس المرأة ولها حرية اللباس على أن لا يكون فاضحاً ومخلاً بالآداب العامة، والحجاب عندهم نوع من الحشمة المحببة ويرون ضرورته في الصلاة ولكنهم لايجبرون النساء على ارتدائه لأنه ليس مقياساً للشرف بعد أن أُخِذت نساء آل الرسول الشريفات العزيزات سبايا مكشوفات في موقعة كربلاء , فكان ترك إلزام الحجاب مواساةً للسيدة زينب ولنساء آل بيت الرسول وقد إختارت المرأة العلوية إرتداء المنديل الساحلي المعروف ( الذي تتم حياكته من الحرير) والذي لاتزال النساء الساحليات المتقدمات في السن يرتدينه إلى يومنا هذا.
كما أن رجال الدين لم يكونوا معارضين ( وإن عارضوا فمن دون شدة وتشدد) للزواج من الطوائف الإسلامية الأخرى إذا ما توفر عنصر الحب بين الشاب والفتاة مع إعتبار الأخلاق في الدرجة الأولى، ولا بأس أن نذكر هنا أن عدداً من بنات بعض رجال اللاهوت العلويين البارزين، تزوجن بشباب من الطائفة السنية ، إحداهن كريمة الشيخ عبد الرحمن الخير، وابنتان للشيخ كامل صالح معروف، وابنة الشيخ ابراهيم العلي.
ونعتقد أن من أهم العوامل التي ساهمت في نهوض العلويين، عدا عمل الأحزاب العلمانية ( الشيوعي السوري، السوري القومي، البعث) على إنشاء المدارس ونشر التعليم في الساحل السوري وجباله، نعتقد أن السبب الأهم هو تنحي رجال الدين عن لعب أي دور آخر في المجتمع عدا الدور اللاهوتي، إذ ثمة فصل كامل ضمن الطائفة العلوية بين الدين والسياسة.
ومن الأمور الملفتة أنه عند حدوث خلافات في الآراء الفقهية وحتى الإجتماعية والسياسية، فهي لا تنتهي بسفك دماء، رغم أنهم شريحة من شرائح المجتمع السوري الذي لم يكن يعرف بمجمله تقبل الإختلاف من دون خلاف!
المرأة العلوية في أضواء العقيدة:
من الإفتراءات المتهمة بها الطائفة العلوية ” إن المرأة العلوية لاتتعلم الدين او بمعنى آخر أن المرأة في عقيدة الطائفة غير جديرة بتلقي الدين وتحمل واجباته”، والحقيقة إن المرأة العلوية مسلمة تقرّ بالشهادتين، مؤمنة بولاية الإمام علي وأئمة أهل البيت عليهم السلام، لها حقوق معلومة وعليها واجبات مرموقة كأي إمرأة مسلمة أخرى، وهذه الحقوق والواجبات مصدرها القرآن الكريم والسنة النبوية وهي معروفة لدى الجميع.
فالعلويون يقرون بالتعاليم الإسلامية وتعاليم آل البيت فيما يخص معاملة المرأة ولا صحة للإفتراءات التي يحاول البعض لصقها بهم بهدف ترذيلهم وتشويه حقيقتهم، وهم وإن كانوا يتفقون مع الشيعة في صحة زواج المتعة إلا أنهم لايمارسونه ولا يستحبونه، حتى إن عدد حالات زواج العلوي بأكثر من امرأة قليلة جدا بعكس الكثير من الطوائف الإسلامية.
نهضة حداثة أم ضحية سياسة؟
نهض العلويون وإنخرطوا في المجتمع السوري بشكل واسع، فكان لنهضتهم أثر واضح في المشهد السوري الحديث، اتخذ مظاهر إيجابية في بعض مراحله، وانعكس سلباً في مراحل متقدمة نتيجة إستقدام الفكر الديني بشكل واضح وصريح لإستلام ناصية السياسة وإرساء قواعد الحكم في سوريا، وعلى هذا المنوال جرى تسخير العلويين منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا بإسم الانتماء المذهبي من أجل خدمة السياسة والسلطة السياسة في سوريا، زج ذلك بالعلويين في مشاكل حقيقة هم بغنى عنها منذ قرون خلت!
فمنذ أحداث الثمانينات تلمست الطائفة مرارة المغامرات السياسية وتم إيقاعها في الفخ الذي لطالما حاولت الإبتعاد عنه وهو التصادم مع المذاهب المختلفة عنهم. وأصبحت الطائفة مستهدفة سياسياً بعد أن كانت بمعزل عن الواقع السياسي في المنطقة، وأصبح عليها أن تتحمل الكلفة الكبيرة لأي صدام تزجها فيه السلطة الحاكمة وهذا ما يحدث اليوم في ظل الأزمة السورية الحالية.
أضاف ذلك عبئ جديد على المرأة العلوية لم يكن بالحسبان، فآلاف الشباب يتم الزج بهم في حرب ليست حربهم ومن أجل غايات لا تخصهم بشكل حقيقي، وكان على المرأة العلوية أن تتحمل مرارة الفقد للزوج والابن والأخ، وفاق ذلك خطوطاً خطيرة فأصبحنا نشاهد اللواتي خسرن معظم أولادهن في الحرب وعدداً من إخوتهن والكثير الكثير من عائلاتهن.
انفطر قلب الأم العلوية ولم تعد الشعارات البراقة براقةً بل إتضحت الأكاذيب وذابت الثلوج لتجد الأم العلوية تحتها حزناً أسود كانت بعيدة العهد به نسبياً، وراحت تندب أبناءها وإخوتها دون أن تجد صوتاً مؤنساً في أروقة السلطة. وفقدت الفتاة العلوية إخوتها و خطيبها وربما زوجها الذي لم يمض على زواجه منها أشهر قليلة أو عدة أيام!
مجالس العزاء تملأ بيوت الطائفة المنكوبة، والفتيات الأرامل ظاهرة انتشرت بشكل غير مسبوق، والفتيات العازبات لم يعد عندهم أمل بالزواج فمعظم الشباب في الحرب قد هاجروا كيلا ينضموا الى قوافل الضحايا.
فمن نهضة الى نكسة غير متوقعة، ومايزال النزيف مستمراً!