يتجلى المشهد الثقافي في حياة المجتمع من خلال الأنساق الثقافية التي تظهر في مفاهيم التخاطب، وأساليب التعامل بين أفراد المجتمع، في جميع مؤسساته الحكومية والأهلية، في المدن والأرياف، وفي أساليب ومفاهيم إنتاجه الثقافي والاقتصادي والحضاري. وهذه الثقافة تتكون من منظومات فكرية ذهنية، من أساليب الفهم والتفكير والتعبير. ومنظومات عاطفية انفعالية مثل الخوف والخجل والحياء والحماقة… الخ. وأساليب وعادات سلوكية سلبية وايجابية، وإبداعات حضارية وتعبيرية فنية وأدبية وعلمية وفلسفية… والمنظومات الفكرية الذهنية والعاطفية الانفعالية هي المتحكمة بالمكونات الأخرى للثقافة الحضارية، وهي التي تعيد إنتاجها. فإذا كانت ثقافة مجتمع ما ثقافة راكدة عاجزة عن النمو والتطور، تكون هذه الثقافة مخدرة ومعاقة، تنتج خطابات ثقافية مخدرة ومعيقة تخدر العقل وتعيقه عن المعرفة الطبيعية الحقيقية. وتعيقه عن الفهم والتفكير الصحيحين. فالإنسان لا يستطيع أن يتكيف إلا مع الأشياء والأفكار التي يستطيع خياله وعقله أن يجاريها ويستوعبها ويقبل بها. أما تلك التي يعجز عن تفسيرها وفهمها فانه يرفضها ولا يقبل بها. وغالبا ما يكون جاهلا وعقله مكبلا بإيمانه بالمفاهيم التراثية المتداولة، التي عوده المجتمع عليها وأقنعه بأن الحق ثابت فيها وما عليه إلا التكيف معها والتفكير من خلالها، وحجب عقله عن التفكير الطبيعي الحر بالأمور الدنيوية.
ومما لاشك فيه أن الثقافة السائدة في المجتمعات العربية ثقافة اتكاليه راكدة. فتعود الإنسان العربي على أن يكون تفكيره اتكاليا على الخطابات التراثية المتداولة في المجتمع وقد أنتجت هذه الثقافة على مدى التاريخ شرائح من الإماء والعبيد أخفقت بالتمتع بحريتها بعد تحريرها.
فبعد صدور قرار تحرير العبيد في المملكة العربية السعودية وفي موريتانيا تجول الصحفيون في أحياء الإماء والعبيد المحررين، فوجدوهم يتحسرون على أيام العبودية، أيام الطعام الساخن الذي كان متوفرا لدى الأسياد، بدلا من أن يفرحوا ويحتفلوا بأعياد الحرية. وهذا لأنهم جاهلون وقد تعودوا على عدم التفكير وعدم القدرة على الاختيار. فقد كانوا يقومون بتنفيذ أوامر أسيادهم والابتعاد عن ما ينهونهم عنه. وقد فضل الكثير منهم العودة لخدمة أسيادهم.
وما زالت الثقافة السائدة بخطاباتها الثقافية تعيد إنتاج المخدرات والمعيقات والقيود الثقافية. فالخطاب الثقافي التربوي في الأسرة يقوم على وأد حب المعرفة لدى الأطفال بقمع عقولهم بمنعهم عن التساؤل والسؤال الذي هو أساس البحث عن المعرفة والتفكير وترويضهم على العادات والتقاليد الاجتماعية الرجعية والمحافظة، وطاعة أولي الأمر. وتخويفهم من الخروج عن المألوف. وتعويدهم على قبول المعلومات التي يتم تلقينها لهم دون اعتراض. وكذلك التربية والتعليم في المدارس والمعاهد والجامعات تعمل على تربية وتعليم وتثقيف الأجيال الناشئة بالقمع والتلقين والترهيب والتخويف. مما يخدر العقل ويكبله ويعيقه عن التساؤل والقراءة والتفكير وحب البحث عن المعرفة الطبيعية الدنيوية. وعن التجريب والتحليل والتفكير النقدي والعلمي.
والمؤسسات الاجتماعية الأخرى السياسية والحزبية والفئوية والطائفية والمذهبية. بأجهزتها وأنظمتها الذكورية الدكتاتورية الرجعية والمحافظة، تشارك بخطاباتها الثقافية في عملية تدجين المجتمع أفرادا وجماعات. فيشعرون بالخوف والعجز، ويصبح هذا الشعور عادات ذهنية وانفعالية وسلوكية، تستجيب بصورة مستمرة للخطابات الثقافية الآمرة والناهية المدجنة للشرائح الاجتماعية الجاهلة والشرائح التي تشعر بالدونية، فيعم الفساد والعقم الثقافي. مما يسهل بصورة دائمة لخطابات ثقافة الخرافة و الشائعة والتعصب والاستبداد أن تفعل فعلها المستمر في تخدير وإعاقة عقل وإرادة الفرد والمجتمع عن حرية التفكير وحرية اختيار العمل الدنيوي الفعال. وتكريس ثقافة النفاق والتواكل والإيمان المطلق بالقضاء والقدر. فنشأت التكتلات الطائفية والقبلية والمذهبية والفئوية بخطاباتها الحماسية المخدرة والمعيقة بأناشيدها وشعاراتها السرابية المخادعة. تمتص قلقهم، وتخدر معنوياتهم الدونية، ضمن قطعانهم البشرية التي ينتمون إليها، ويذوب شعورهم بالقهر مع تماهي الفرد في جماعته، وتحليق خياله وعقله في المفاهيم والخيالات والشعارات الطوباوية، البعيدة عن ارض الواقع. فغابت الحريات الفردية، حرية الاعتقاد، و حرية التفكير والتعبير، واحترام الرأي والرأي الآخر، والقدرة على الحوار الموضوعي العقلاني .
والمشهد الإعلامي في فلسطين والبلاد العربية من الصحف والمجلات ومحطات الراديو والتلفزيون والفضائيات يغلب على مواضيعها وبرامجها وحواراتها ومسلسلاتها البلادة والتقريرية التلقينية التي تكرس تدجين العقل والنفس، وخطاب التهريج المسطح للوعي، والترويج لسلع مادية ومعنوية استهلاكية تشل تفكير الفرد عن التفكير في الإنتاج، وتسوق ثقافة الاستهلاك و الإتكالية والتعصب والاستبداد، وتحرض على محاربة التحديث والتجديد وإقصاء الرأي الآخر.
ومن الأمثلة على ذلك كثرة الخطابات الإعلامية المختلفة والمتضاربة: خطاب إعلامي تجاري براق، وخطاب إعلامي متردد مابين الفكر المحافظ وفكر التحديث. وخطاب مذهبي متقوقع على نفسه، وخطاب ديني سلفي أو ديني متعصب أو سياسي مستبد.
وقد اصدر مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان ، في مطلع العام الحالي 2008م كتاب ” الإعلام الألعوبة والخطاب الدموي في فلسطين” للكاتبين زياد عثمان وغازي بني عودة، حول الخطاب الإعلامي الذي ساد في فلسطين بعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثانية التي جرت في كانون ثاني 2006 م، يبين تلاعب المؤسسات الإعلامية لكل من فتح وحماس بالخطاب الإعلامي السياسي والثقافي وتغييب الحقائق الموضوعية عن المجتمع الفلسطيني بالكذب والتضليل وقلب الحقائق، والحرب الإعلامية بينهما، وتسخير إعلام كل منهما التلفيقي لمصلحته الفئوية والطائفية، مما أدى إلى تمزيق الوحدة الوطنية، لعدم وجود القدرة العقلانية والإرادة الوطنية للحوار الوطني البناء، ضمن خطاب وطني فلسطيني موحد يعتمد مصلحة الشعب الفلسطيني أولاً و آخراً ضمن الممكن والمعقول للتحرر من الاحتلال.
ومن المخدرات والمعيقات الثقافية التي تنتجها الثقافة السائدة:
1. تقديس أولياء الله الصالحين من قبل عامة الناس وزيارة قبورهم للتبرك بها والدعاء عندها بتحسين أحوالهم بكلمات وأدعية مثل مدد يا رسول الله، مدد يا شيخ الحضرة، مدد الشائعة عند الشعب المصري كظاهرة من ظواهر المخدرات والمعيقات الثقافية.
2. عبادة الزعيم البطل كمخلص من الهزائم مثل عبادة الزعيم جمال عبد الناصر والزعيم صدام حسين، وعبادة الأنظمة الشمولية وقادتها مثل عبادة الاتحاد السوفيتي السابق وقادته، وعبادة فتح وقادتها وعبادة حماس وقادتها، فقد تنازل من يعبدونهم عن عقولهم ومسؤولياتهم وحملوها لهؤلاء الزعماء وايدولوجياتهم وتنظيماتهم وقعدوا مخدرين ومعاقين ينتظرون الخلاص.
3. الإدمان من قبل الأفراد والجماعات على هواية وحيدة دون سواها، مثل هواية كرة القدم ومتابعتها، أو العاب الكمبيوتر، أو لعب الورق في المقاهي، تخدر العقل والإرادة وتبعدها عن التفكير الجاد في القضايا الدنيوية، وتقعد أصحابها عن التطور والتحديث.
4. تعويد العاطفة الفنية لدى الأفراد والجماعات والاستماع لمطرب خطابي كأم كلثوم أو غوغائي كأحمد عدويه، أو مشاهدة فيديو كليب كأمثال هيفاء وهبي، يخدر العقل ويعيقه عن التفكير الطبيعي ويجعله يعمل على المؤثر والاستجابة، ويكون من أصحاب الوعي السطحي الغوغائي.
5. متابعة المطالعة بموضوع معين دون سواه، سواء كان ديني أو فلسفي أو سياسي أو علمي، لا يزود العقل بالمعرفة المتعددة المواضيع والرؤى والمفاهيم الضرورية لتغذية المعرفة الشمولية المتكاملة. مما يخدر العقل ويعيقه عن التفكير الدنيوي، وربما يدفع صاحبه للتعصب.
6. الإصغاء لكلام الناس، في مجتمع يسوده الجهل والخرافات والشائعات، وتصديقه لها يشوه العقل ويعيقه عن التفكير الدنيوي الطبيعي. فالشائع لدى الناس تبسيط الأمور الجادة وتسطيحها بالشعارات والكلمات العاطفية الرنانة المسكنة، مثل بسيطة يا شيخ مشكلتك محلولة أو حلك عندي، أنا بمون على فلان وبمون حتى على الوزير. مما يزيد في تخدير العقل ويعيقه عن التفكير الجاد لإيجاد الحلول، وهذه الظاهرة أنتجت الشخصية الفهلوية في المجتمع بنسبة كبيرة، وهي شخصية استهلاكية تميل إلى الخمول و الإتكالية.
بالإضافة إلى هذه الظواهر الثقافية المخدرة للعقل والإرادة في المجتمع. هناك ظواهر ثقافية خطيرة أخرى لدى المتعلمين والمثقفين والسياسيين تكرسها الثقافة السائدة. منها ظاهرة فساد تفكيرهم العقلي في الشؤون الدنيوية من اختلاط تفكيرهم الفيزيائي بتفكيرهم الميتافيزيائي. وظاهرة الخوف من المنجزات الثقافية والحضارية للشعوب المتقدمة، وظاهرة الحيرة والتردد بين الأخذ بالتراث أو الأخذ بالمعاصرة، وعدم القدرة على اختيار ما هو صالح فيهما لتنمية قدرات المجتمع. والنخب الثقافية والسياسية على اختلاف الايدولوجيات التي تعتنقها تعاني من آثار الخصام مع ثقافة العالم وحضارة العصر، أو سوء الفهم لها. ويسود الانكماش والخوف والانقسام والتوجس سائر فئاتها.فالقوميون الذين قادوا مشروع الدولة الوطنية في الحقبة الماضية، يقفون حائرين مترددين أمام الغرب السياسي الذي اثبت عدوانية واستخفافا بها. بحيث صار يستحيل معه الفصل أو التمييز بين السياسي العدواني والثقافي الحضاري فيه. ولذا يلجئون لترقيع القومية الانعزالية بشعارات الإسلاميين التي تنجي من ” الغزو الثقافي” وتحفظ الثقافة الأصيلة. والإسلاميون يعرضون عن الغرب الجاهلي ( حسب رؤيتهم) ثقافة وسياسة ويعنفون في إدانة كل الموجود لديه، سعيا وراء طهورية يحسبونها العدة الباقية للاستشهاد والنجاة من هول هذا العالم الغريب المفزع الذي يريدون التخلص منه ولو بعملية انتحارية.
وتشيع بين القوميين والإسلاميين مقولة ” الغزو الثقافي” ومقولة ” “المؤامرة الهائلة على العروبة والإسلام”، وهما فكرتان متناقضتان. فالغزو عملية واضحة وصريحة والمؤامرة خفية وسرية. لكن الفكرتين فيهما فساد وخطأ كبيرا، فلا يخاف الغزو إلا الضعيف الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ومن المؤكد أن لا غزو في الثقافة، بل انك تستطيع في الثقافة وحوار الثقافات تمييز الصحيح من الفاسد والمفيد من المضر، إذا كان عقلك حرا وفعالا وغير مخدرا أو معاقا ثقافيا، فلا يبقى هناك غزوا ولا ثأرا. أما فكرة المؤامرة فتعني جهلا مطبقا بالثقافة المعاصرة المفتوحة الآفاق والتي لا أسرار فيها ولا مؤامرات، بل احتمالات وخيارات ومصالح. فكلتا الفكرتين تعني انعزالا وانكماشا وخوفا من الآخر وتخديرا للعقل وإعاقته عن التفكير الطبيعي الصحيح.
وهذا ما يكشف عن التناقض لدى النخب الثقافية والسياسية في موقفها من الثقافة والحضارة الغربية. فهم يأخذون المنجزات الحضارية منها للاستهلاك. ويرفضون المبدأ العقلي العلماني الدنيوي الديمقراطي الذي أبدعها. فالحداثة الحقيقية هي في الإبداع وليس في المنجزات بذاتها
فهم إذن يرفضون الحداثة الحقيقية. أي يرفضون التفكير الطبيعي في الظواهر الطبيعية القائم على الشك والتجريب والنقد وحرية البحث المنهجي العلمي والثقافة العلمية.
لقد عانت عدة مجتمعات إسلامية وغير إسلامية من مثل هذه الأحوال الثقافية المتخلفة التي ما زالت تحياها المجتمعات العربية. ولم تستطع الخروج منها إلا بتحرير التفكير العقلي الفردي والجمعي من هيمنة التفكير الميتافيزيائي على التفكير الفيزيائي في الشؤون الدنيوية وفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية. ليكون نظام الحكم قائم على دستور دنيوي أسسه مستمده من الجانب الايجابي المنفتح في ثقافة المجتمع. والاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى في تطور أنظمتها السياسية. مما سمح لغالبية أفراد المجتمع المشاركة الفعالة في صناعة القرارات السياسية والقانونية والقيام بالأنشطة الفعالة في تعزيز عملية التنمية ومضاعفتها. وقد عملت هذه المجتمعات على تحرير العقل والنفس والسلوك من المخدرات والإعاقات الثقافية. واعتمدت منهج التفكير العلمي والثقافة العلمية في عملية التنمية، مثل اليابان واندونيسيا وماليزيا والصين.
ولم يحدث هذا الانتقال إلا بفضل تحالف السلطة السياسية المدنية الديمقراطية مع تيارات وأحزاب المثقفين العلمانيين الديمقراطيين في المجتمع، ووضع البرامج والخطط اللازمة لتحقيق ذلك. ومن هذه البرامج، برنامج التنمية الاقتصادية وإيجاد فرص العمل ما أمكن لغالبية القادرين والقادرات على العمل من أفراد المجتمع. ومن البرامج الاجتماعية مساواة المرأة والرجل بالحقوق والواجبات ومن البرامج السياسية، حماية حرية الاعتقاد وحرية التعبير و حرية الاختيار، وضرورة المشاركة بالعمل السياسي، وضمان التداول السلمي الديمقراطي للسلطة السياسية.
إن هذه القراءة لواقع المجتمعات العربية حاولت إلى حد ما بيان الأسباب الحقيقية الفردية والجماعية لتخلفها الثقافي والحضاري. فهل يستطيع كل فرد من المتعلمين والمثقفين والسياسيين في المجتمع اكتشاف المخدرات والإعاقات الثقافية التي يعاني منها؟ وهل يستطيع التخلص منها ولو شيئا فشيئا؟ وهل يستطيعون مجتمعين إيجاد نظام تربوي وتعليمي يربي الأطفال والشباب ويعلمهم على تنمية القدرة العقلية لديهم في التساؤل والسؤال وحب المعرفة والتفكير؟ وهل يجرؤون على تكوين تيار علماني( دنيوي) ديمقراطي فعال في المجتمع؟
يخاطب الفرد والجماعة بخطاب الثقافة العلمانية لمكافحة الجهل والخرافة و الإتكالية فكل خطاب ثقافي لا يعمل على التوعية العلمانية الديمقراطية، خطاب لا يعول عليه في التنمية لأنه يعيد إنتاج العقلية الإتكالية وخطاب التخلف. ومن اجل التخلص من العقلية الإتكالية والخروج من دوامة التخلف، لابد من وجود سلطة مدنية ديمقراطية تملك القدرة على التحالف والعمل مع التيار العلماني الديمقراطي الموحد الفعال في المجتمع لتحريك عملية التنمية والتغير والتطور والتحديث.