بقلم د. عماد بوظو/
يحيط بسورية مجموعة من الدول التي تقف بدرجات متفاوتة مع النظام السوري. فالعراق ولبنان يرسلان ميليشيات مسلحة للقتال معه، وإيران تدعمه عسكريا واقتصاديا وسياسيا، وبعض الدول العربية تؤيده سياسيا مثل الجزائر وعمان. وشهدت السنوات الأخيرة تحسنا كبيرا في العلاقات التركية مع كل من روسيا وإيران بما يشبه التحالف السياسي والاقتصادي.
تتهم أطراف رئيسية من المعارضة السورية تركيا بأنها عقدت صفقات مع الروس لتسليم شرقي حلب والغوطة ومناطق أخرى للنظام مقابل سيطرة القوات التركية على المنطقة الممتدة بين جرابلس والراعي، وعلى عفرين، بالإضافة إلى الدور التركي الأساسي في مسار أستانا الذي تحوم شكوك كبيرة حول أهدافه، خصوصا مع ما يقال عن أن تركيا تستطيع التعايش مع النفوذ الإيراني في سورية ومع بقاء حكم الأسد، ولكنها لا تستطيع أبدا القبول بوجود إدارة ذاتية كردية على حدودها.
وعلى نفس الطريق التركي في التودد من إيران وروسيا تسير دولة قطر، ومن الممكن ملاحظة ذلك من خلال التغيير الكبير الذي طرأ على طريقة تغطية قناة الجزيرة لأحداث الشرق الأوسط بما فيها الموضوع السوري.
علي إخوان سورية الاختيار بين المطالب الوطنية وأجندة حزب العدالة والتنمية التركي والتنظيم الدولي لـ”الإخوان المسلمين”
في هذه الظروف يرى “الإخوان المسلمين” في سورية أن أولويتهم هي مهاجمة أنظمة الحكم في مصر والإمارات والسعودية. يتصيدون أي موقف أو تصريح أو تعليق ساخر حول هذه الحكومات ويستخدمونه في حملتهم تلك بما يتماشى مع السياسة التركية والقطرية ويتناغم مع المحور الإيراني الذي جعل السعودية عدوا أول له؛ لكن “الإخوان المسلمين” لا يشرحوا كيف يخدم ذلك القضية السورية؟
بالإضافة إلى ذلك، ذهب وفد من الإسلاميين السوريين والمنظمات المرتبطة بتركيا قبل بضعة أشهر إلى مؤتمر سوتشي الذي نظمته روسيا في محاولة لإخراج التسوية السورية من مسار جنيف ووصاية الأمم المتحدة إلى الطريق الروسي الذي يهدف إلى المحافظة على نظام الأسد.
اقرأ للكاتب أيضا: علاقة الرسول بالمسيحية قبل الدعوة الإسلامية
تعرض هذا الوفد هناك للإهمال والمعاملة غير اللائقة مما أدى إلى عودته من دون المشاركة في المؤتمر، ومع ذلك فإن الإسلاميين يدافعون اليوم عن مسار أستانا ويقولون إن هذا المسار حقق بعض النتائج بعكس مسار جنيف، وهذا صحيح ولكن هذه النتائج كانت في مصلحة روسيا وحلفائها.
يبرر الإسلاميون السياسات التركية بأن أردوغان هو رئيس تركيا وواجبه هو الدفاع عن مصلحة بلاده. ربما عليهم هم أيضا أن يدافعوا عن مصلحة بلدهم بدل تأييد وتبني السياسة التركية. ومن الملاحظ بشكل عام أنه في كل مرة يحدث فيها اختلاف بين أهداف جماعة “الإخوان المسلمين” السورية وبين أولويات التنظيم الدولي لـ”لإخوان المسلمين” يضحي الإخوان السوريون بقضيتهم في سبيل الجماعة، وهذا ليس مستغربا لأن هذا التنظيم قد نشأ بالأساس كامتداد لحزب غير سوري.
فبعد إنشاء الحزب في مصر عام 1928 تبعه عاطفيا بعض الطلاب في سورية خلال ثلاثينيات القرن الماضي إلى أن أعلن مصطفى السباعي عن تأسيس الفرع السوري لهذا التنظيم عام 1944، ومنذ ذلك التاريخ والحزب يتصرف باعتباره فرعا لحزب أم قياداته بمجملها من المصريين.
تعرض حزب “الإخوان المسلمين” لحملة استئصال جذرية على يد النظام السوري منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي بعد قيام مجموعة منشقة عنه وهي الطليعة المقاتلة بحملة اغتيالات كان أغلبها ذو طبيعة طائفية، قامت على إثر ذلك أجهزة الأمن السورية باعتقال وإعدام عشرات آلاف السوريين ممن لا علاقة لمعظمهم بالطليعة المقاتلة ولا بحزب “الإخوان المسلمين” بل كانوا مجرد أشخاص متدينين.
في أغلب الأحيان كان الانتماء إلى بعض المناطق أو لعائلات معينة سببا كافيا لذهاب أي إنسان للسجون السورية وانقطاع أخباره. وشكلت مجزرة حماة 1982 أكبر المآسي السورية وأشهرها والتي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من سكان المدينة، ومجزرة سجن تدمر في 27 حزيران/يونيو 1980 التي تم فيها إعدام ألف معتقل إسلامي في ساعة واحدة.
تعرض الإسلاميون خلال سنوات اعتقالهم الطويلة لعمليات تصفية متعمدة يومية من قبل النظام السوري. وكان المعتقلون السياسيون من الأحزاب اليسارية والقومية والفلسطينيين والأكراد يعتبرون أنفسهم محظوظين عندما يقارنون وضعهم مع الإسلاميين لما يتعرض له هؤلاء من تعذيب وقتل متعمد.
وصدر عام 1980 القانون رقم 94 والذي ينص على إنزال عقوبة الإعدام بحق أي شخص ينتمي إلى حزب “الإخوان المسلمين” حتى ولو لم يقم بأي نشاط سياسي أو دعوى، لذلك كان المتوقع أن تكون معارضة حزب “الإخوان المسلمين” للنظام في سورية أكثر جذرية من بقية القوى السياسية، ولكن الذي حدث لم يكن كذلك.
في حزيران 2006 انضم حزب “الإخوان المسلمين” لجبهة الخلاص الوطني التي شكلتها مجموعة من القوى السياسية السورية بمبادرة من عبد الحليم خدام بعد انشقاقه عن النظام، ولكن بعد سنتين فقط علقت جماعة “الإخوان المسلمين” بشكل مفاجئ نشاطاتها المعارضة للنظام السوري، نتيجة وساطة قام بها حزب العدالة والتنمية التركي في أوج العلاقة المتينة التي جمعت بين أردوغان والأسد، بالإضافة لوساطة أخرى من قطر والتي أيضا كانت علاقتها مع هذا النظام في أحسن حالاتها.
في بداية عام 2009 أتت الذريعة لحزب “الإخوان المسلمين” لتبرير تعليق نشاطه المعارض للنظام السوري من خلال حرب غزة (27 كانون الأول/ديسمبر 2008 إلى 18 كانون الثاني/يناير 2009)، إذ أصدر الحزب عقبها بيانا قال فيه: “إن أصواتا في جبهة الخلاص بدأت تهاجم الإسلام السياسي وتتبنى المشروع الأميركي وتهاجم المشروع المقاوم الذي يمثله إخواننا في حركة المقاومة الإسلامية حماس والذين يمثلون جوهر الخيار الديمقراطي للشعب الفلسطيني”.
لم يذكر هذا البيان أن الاتصالات والوساطات مع نظام الأسد كانت قائمة قبل حرب غزة بعدة أشهر، كما أكد على موقع الجماعة ضمن ما يسمى محور المقاومة، وهو المحور الذي تقوده إيران، الحليف الاستراتيجي للنظام السوري. وفي الوقت الذي أكد فيه حزب “الإخوان المسلمين” السوري أنه جزء من محور المقاومة.
كما تحدثت تقارير عن مفاوضات سابقة جرت بين النظام السوري والإخوان بعد انتخاب البيانوني مراقبا عاما للجماعة عام 1996، وكذلك عقب تولي بشار الأسد للسلطة عام 2000. في كل مرة كان النظام هو الذي يرفض تقديم أي تنازل مثل إطلاق سراح معتقلين من الجماعة أو السماح بعودة المنفيين ورفع الحظر على الإخوان.
ما يجمع حركات الإسلام السياسي السني مع إيران وحزب الله هو رباط وثيق له جوانب سياسية كما أن له جوانب اجتماعية وثقافية
وعند انطلاق الثورة السورية التي فاجأت الجميع بما فيهم “الإخوان المسلمين”، لم يصدر أول بيان للجماعة بتأييد الثورة السورية حتى أواخر نيسان/أبريل 2011 أي بعد عدة أسابيع من انطلاقها. لقد كانت جماعة “الإخوان المسلمين” السورية ترى نفسها جزءا من محور المقاومة ولكن كل أعضاء هذا المحور كانوا يفضلون عليها نظام الأسد.
الخصم السياسي والثقافي والاجتماعي الحقيقي لحزب “الإخوان المسلمين” هو الغرب ومفاهيمه وديمقراطيته وحقوق الإنسان فيه وحرية الفكر والاعتقاد، ولذلك يجد هذا الحزب مكانه الطبيعي مع أعداء هذا الغرب، مثل الديكتاتوريات ودول الفشل الاقتصادي.
يطمح حزب “الإخوان المسلمين” إلى بناء دولة على أسس دينية لها نمط خاص في الحياة وضوابط على السلوك واللباس، ولذلك فإن ما يجمع حركات الإسلام السياسي السني مع إيران وحزب الله هو رباط وثيق له جوانب سياسية كما أن له جوانب اجتماعية وثقافية. تسير تركيا اليوم على هذا الطريق بخطوات تدريجية تتكرر فيها أزماتها السياسية مع أوروبا والولايات المتحدة وتتوطد فيها علاقاتها مع روسيا وإيران وتزداد فيها القيود على حرية التعبير ووسائل الإعلام وحتى الحرية الشخصية.
اقرأ للكاتب أيضا:الهوس بالجنس في بعض كتب التراث الإسلامي
حاول حزب النهضة التونسي بقيادة راشد الغنوشي شق طريق مستقل خاص به يراعي الخصوصية الوطنية ويخرج عن وصاية التنظيم الدولي، وتجلى ذلك باعتباره حزب النهضة حزبا مدنيا تونسيا ذا مرجعية إسلامية. وقال الغنوشي إن مصطلح الإسلام السياسي لم يعد له مبرر في تونس وأنه يفضل عبارة “مسلمون ديمقراطيون”.
لكن الفرع السوري ما زال بعيد عن مبادرات مماثلة ولا يزال مصرا على أن الخيبات والفشل وتراجع الشعبية الذي تعاني منه الأحزاب الإسلامية في سورية والمنطقة العربية عموما لا سبب له سوى المؤامرة الدولية التي تستهدفهم.
خلال الفترة القريبة القادمة ستتضح طبيعة التسوية التي تسعى إليها روسيا بالتنسيق مع تركيا، وسيجد “الإخوان المسلمين” في سورية أنفسهم أمام خيارات صعبة إذا كانت هذه التسوية لا تحقق طموحات الشعب السوري بالحرية وبناء دولة ديمقراطية حديثة. وسيكون عليهم الاختيار بين المطالب الوطنية وبين أجندة حزب العدالة والتنمية التركي والتنظيم الدولي لـ “الإخوان المسلمين”.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال