الإتحاد الاماراتية
تفنن الإنسان في إبادة خصمهِ، فهذا العقل سيف ذو حدين، يخترع الدَّواء والدَّاء. لم يترك وسيلة للتدمير والتعمير أيضاً إلا جربها. فقبل تطور الكيمياء إلى تحضير الغازات السَّامة استخدمت الجيوش الفئران المصابة بالطَّاعون، ترمى على أسوار الأعداء لإبادتهم بالوباء، ورمي جرثومة الكوليرا في الأنهار. مثل هذه الأسلحة اُستخدمت بين الجيوش لا بين جيش وشعب، إضافة إلى ذلك كانت محدودة الضَّرر، وللأوبئة مواسم تنتهي لتبدأ الحياة من جديد.
أما السِّلاح الكيماوي فيقصد باستخدامه إبادة الحياة كاملة، ولو زرتَ الأرضَ المصابة، ولو بعد حين، سترى أثرَ الإبادة وتشم رائحة الموت. هذا ما لاحظناه بمدينة حلبجة بعد أثنتي عشرة سنةً مِن ضربها (مارس 1988)، أي قُبيل وضع الحرب العراقية الإيرانية أوزارها. لكن آنذاك كان العالم مشطوراً إلى اشتراكي ورأسمالي، والحرب بين دولتين أخذت كلٌّ منهما تتهم الأخرى بفعلها، مَن كان مع العراق اتهم إيران ومَن مع إيران اتهم العراق. تصوروا فضيحة الإنسانية عندما تضيع أرواح خمسة آلاف ونصف إنسان في تداول دولي. يضاف إلى ذلك كان الإعلام محتكراً، وخدمة الإيميل لم تصل بعد، وجوبز (ت 2011) لم يفكر بالآي باد والآي فون، ولم يظهر فيسبوك ولا تويتر!
غير أن ضحايا الغاز الكيماوي السوريين، الذين يُعدون بالمئات، وصل خبرهم مصوراً إلى آفاق الأرض كافة بلمحة بصر، ومازالت الدول غير متفقة على القاتل. فما نسمعه أن المعارضة لا تمتلكها والنظام ليس بمصلحته استخدامها، وهو ينكر وجود الواقعة من الأساس. يا تُرى من فعلها؟ من يدري! ربما الجن التي قتلت سعد بن عبادة (11- 15هـ ) بالشَّام (ابن عبد البرِّ، الاستيعاب) نفسها فعلتها بالسوريين؟ أقول: ما قيمة السلطة بعد الوحشية، ومن يعوض الدمار في النفوس قبل الأحجار؟
يوماً بعد يوم تتعقد السياسة بالمنطقة، وتعكس ظلها على العراق ثقيلاً، فقد بات متشظياً إزاءها زيادةً على تشظيه: ساسة حجتهم الدفاع عن ضريح وزواره، وآخرون عذرهم الدِّفاع عن أكراد سوريا، وساسة عذرهم نصرة السُّنَّة هناك ضد سُلطة يصفونها بالعلوية! وأن وجود ميليشيا «حزب الله» ومقاتلين من ميليشيات عراقية يجعلهم يقفون مع إخوانهم بالمذهب! أما العراق فهو الغائب الوحيد. ما يُصرح به وزير الخارجية ينفيه الصوت الإعلامي لرئيس الوزراء، وصار البرلمان دولياً كلُّ فئة تتحدث بلسان دولة لا عراقياً وطنياً. أقول: من لم يتوحد في وفد لتقديم العزاء لدولة أتراه يتوحد تجاه الأزمة السورية مثلا؟!
ظلت الكيمياء كما كان النفط عند الأولين مادة نحسة، لا يهتم بها إلا السحرة، لكن تبدل الزمن وصار النفط يُسمَّى بالذهب الأسود، ومع ذلك انتعشت دول وشعوب بوجوده بينما افتقرت أُخر، وذلك حسب العقول والنوايا، فإذا تحول إلى خدمة الأيديولوجيا والنزاعات فهو مادة خراب، والخراب بالعراق، الأمس واليوم وربما القادم من الزمن، يعادل وجود النفط الهائل في جوفه.
لقد صارت وزارة النفط سيادية بعد أن اعتبر إبراهيم البيهقي (ت 320 هـ) ولاية النفاطات، في العهد العباسي، من مساوئ الولايات، وأتى لعبد الصمد بن المُعذل (ت 240 هـ) في والي النَّفاطات، وهي قدور خزن النفط وفرقة ترمي العدو بالمشاعل: «لَعمري لقد أظهرت تِيهاً كأنما/ توليت للفضلِ بن مروان منبرا/ وما كنت أخشى لو وليت مكانه/ عليَّ أبا العباس أن تتغيرا/ بحفظ عيون النِّفط أظهرت نخوةً/ فكيف به لو كان مسكاً وعنبرا/ دعْ الكبر وأستبق التَّواضع إنه/قبيـحٌ بوالي النفْط أن يتكبرا» (المحاسن والمساوئ).
كالنَّفط، الكيمياء نعمةٌ ونقمة، فلا دواء ولا صنعة مأكل ولا ملبس خالٍ منها، فإذا قالوا «الصَّنعة» عنوا الكيمياء، وعلى ما يبدو أن أول مهتم بها من العرب، في عهد الإسلام، هو خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85 هـ). أول مَن ترجمت له كتب الطب والنجوم والكيمياء، وكان كلُّ شغله في طلب هذا الضرب من العلم (النَّديم، الفهرست). ولا ندري هل من حسن حظه أم سوئه أن تذهب عنه الخلافة وتأتيه الكيمياء؟ حتى جعلها في نفسه بدرجة الخلافة، فينقل عنه: «طمعتُ في الخلافة فاختزلت دوني، فلم أجد منها عوضاً إلا أن أبلغ آخر هذه الصناعة، فلا أحوج أحداً عرفني يوماً أو ما عرفته، وله وصيته إلى ابنه في الصَّنعة» (المصدر نفسه).
ظل خالد يعير بصنعة الكيمياء لسكوته عن المطالبة بالخلافة التي ذهبت من السُّفيانيين إلى المروانيين. فمما قيل له: «قَدِم قوم مِن أهل المدينة على النَّواضح (الإبل التي يستقى عليها) فنكحوا أُمك (تزوجها مروان بن الحكم) وسلبوك مُلكك، وفرَّغوك لطلب الحديث، وقراءة الكُتب، وعمل الكيمياء، الذي لا تقدر عليه» (كتاب الأغاني). بعدها نأتي بقولٍ لقاضي القضاة أبي يوسف (ت 182 هـ) في شرور الكيمياء على أنها ضرب من السِّحر: «مَن طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء فقد افتقر» (وكيع، أخبار القضاة)!
ولعل هناك من يعتبر خالد بن يزيد في عصره يعادل الكيميائي السوسيري ألفريد نوبل (ت 1896) في عصره أيضاً، محضر مادة الديناميت لغرض حفر المناجم وشق الطرق في الجبال، لكن بعد خروجها من يده استخدمتها الجيوش وصارت مادة شر لا خير، للخراب لا للإعمار، لذلك أنشأ جائزة نوبل للسلام وللعلوم، ولم يتوقف استخدام اختراعه، خلافاً لرغبته، للقتل الجماعي، ثم تطور علم الكيمياء إلى استحضار مادة «تي إن تي» فهي سريعة الانفجار وقوية التَّدمير، وبين حين وآخر، بل يومياً، تعلن قوى الشر عن مسؤوليتها عن استخدام هذه المادة، والعراق أسهل الساحات.
ليس علم الكيمياء فقط سيف ذا حدين، إنما العلوم كافة يكمن فيها الخير والشر، بما فيها التاريخ والأدب، وبيت شعر واحد قد ينحر العشرات، ذلك على قدر أرباب العقول والسياسات.
إن أغنى الأغنياء مَن وظف المعارف بالكيمياء، وأنتج المواد وكاثر الزروع فيها! لكن وإن كان نفعها كبير إلا أنها تتحول في لحظة إلى وحش مارد، وآخرها وليست الأخيرة مذبحة الأطفال والنساء السوريين بالغوطة، ذلك البستان الذي قال في أرضه ابن بطوطة (ت 779 هـ): «سئمت… كثرة الماء حتى اشتاقت إلى الظَّماء» (الرحلة)، حيث كان يتعلم خالد بن يزيد الكيمياء، وقالوا له: إنها شريرة!