الكتاب المقدس والتحول من العنصرية العرقية الى عنصرية الايمان! حوارات في اللاهوت المسيحي 21

تتضمن نصوص الكتاب المقدس بقسميه (العهد القديم والجديد) عبارات واضحة وصريحة, تؤطر للعلاقة بين الله وبين المجموعة
البشرية الذين توجهت اليهم تلك النصوص, ورغم ان هذه العلاقة تميزت بتأسيسها لمفهوم (العنصرية المقدسة) في كلا العهدين,إلا أنها احتوت على تناقض لافت واختلاف كبير في تحديد المجتمع البشري المستفيد من امتيازات تلك العنصرية المقدسة!

حين نقرأ العهد القديم, نجد النصوص تشير بشكل مباشر وصريح إلى العلاقة بين الرب الخالق وبين شعب بني إسرائيل
حيث تعتبر تلك النصوص اليهود هم أبناء الرب وشعبه المقدس!

( انتم اولاد الرب…لأنك شعب مقدس للرب إلهك) تثنية 14

فالشعب اليهودي هم فقط اولاد الرب وشعبه المفضل الذي منحهم رحمته ومحبته (الأبدية!)

(وَمَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ) ارميا 31

وقد وعد الرب أبنائه اليهود بأن يكونوا سادة وامراء على (الأغيار) من بقية البشر

(وَيَقِفُ الأَجَانِبُ وَيَرْعَوْنَ غَنَمَكُمْ، وَيَكُونُ بَنُو الْغَرِيبِ حَرَّاثِيكُمْ وَكَرَّامِيكُمْ
امَّا أَنْتُمْ … تَأْكُلُونَ ثَرْوَةَ الأُمَمِ، وَعَلَى مَجْدِهِمْ تَتَأَمَّرُونَ) اشعيا 61

وقد ترسخ هذا التأسيس العنصري المقدس في وجدان اليهود, وصاروا يتصرفون ويتعاملون مع غيرهم انطلاقا من هذا التمييز
العنصري, الذي شرعه الرب خصيصا( للعرق) الاسرائيلي, ونتيجة لذلك ترسخ لديهم الاعتقاد بأنهم (بنو العلي كلهم!) وان (الأغيار) من البشر هم من الكلاب!!…كما أشار لذلك يسوع الناصري في حواره مع المرأة السورية
( ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب!!!)

هذه العنصرية العرقية التي أثبتتها وأكدتها نصوص العهد القديم,سوف يطرأ عليها في العهد الجديد, الانتقال والتحول
الى عنصرية من طراز آخر,تؤسس لامتيازات وتفضيل لمجموعة جديدة من البشر, مع إلغاء ونسف امتيازات اليهود السالفة!

نصوص العهد الجديد تؤكد على علاقة (الأبوة والبنوة) بين الله وبين المجموعة البشرية التي قبلت الإيمان الجديد, تلك
المجموعة التي فتحت أبواب قلوبها ونفوسها, وأسلمت نفوسها وعقولها للتعاليم المسيحية, وأصبحوا يعرفون فيما بعد بالمسيحيين, وقد أكدت تلك النصوص ايضا, ان هذه العلاقة هي علاقة خاصة,و محددة, ومحدودة (فقط) للمسيحيين الذين (ولدوا ثانية) من المسيح!
لان الله -وإن كان خالق الجميع- لكن ابوته خاصة فقط للذين قبلوا المسيح مخلصا لهم !!
اما بقية البشر الذين لم تصلهم هذه الفكرة أو لم يقتنعوا بها فهم محرومون من نعمة التمييز المقدس!!
ولن يتمتعوا بالامتياز العنصري الإلهي الجديد, والذي يضمن لهم علاقة (بنوة) مع الله, تتميز بأنها علاقة (حميمة)
و(آمنة) و(مضمونة)!!
يكون فيها المسيحي(فقط) مثل الابن عند الله….. الذي سيتحمل شقاوته وعبثه واخطاءه, كما يتحمل الأب ابنائه !
ان هذا المعنى, نجده مترسخا في الوجدان المسيحي ,ومكررا يوميا في تلاوة الصلاة الربانية ( أبانا الذي في السماء….)
وكذلك نجده مبثوثا في الكثير من نصوص العهد الجديد, التي تؤسس لنوع جديد من (العنصرية المقدسة) تقوم على أساس الانتماء
الإيماني, بعد ان تم نسف مفهوم التمييز العرقي لليهود في العهد القديم!

(وأما
كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه)
يوحنا 12/1
(أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله) 1 يوحنا ⅔
(ولكن بعد ما جاء الإيمان، لسنا بعد تحت مؤدب لانكم جميعا ابناء الله بالايمان بالمسيح يسوع) غلاطية 3
(لأن
كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله) رومية 14/8

(الروح نفسه ايضا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا اولادا فإننا ورثة أيضا، ورثة الله ووارثون مع المسيح)
رومية 8

وهناك نصوص أخرى كثيرة, تؤسس لهذه القاعدة العنصرية الجديدة, التي حولت امتياز (البنوة لله) من اليهود إلى جماعة
المؤمنين بالعقيدة الجديدة, والتي انشقت عن اليهودية, بعد أن تم رفضها من غالبية المجتمع اليهودي الملتزم بصرامة بتعاليم كتابه المقدس!
والشواهد على هذه الامتيازات الربانية المخصصة للمسيحيين(فقط) كثيرة, و سأختصر بذكر البعض منها فقط, لتوضيح المنهجية
العنصرية, التي بدأ السادة كتبة العهد الجديد بترسيخها في اذهان مجموعة المؤمنين بالعقيدة الجديدة, لغرض غرس حالة (انتفاخ الذات) الايمانية, والشعور بالتميز والتفضيل, لدى هذه المجموعة البشرية, فقد
اعتبرتهم تلك النصوص هم وحدهم, أبناء الله المميزين, والمخصوصين بالنعمة, وانهم الشعب (المقتنى!) وأنهم
شعب الله, وجنس مختار وامة مقدسة وان المسيحيين هم وحدهم أولاد الله الأنقياء ,الأتقياء, البررة, و(هيكل
الله المقدس والحي) الذين خصهم الله وابنه بالمحبة!

(لأَنَّ
مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا) رومية 5
(كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا. اثبتوا في محبتي )يوحنا 15-9
(أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به )يوحنا 15-3
(أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم …لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو)
بولس 3 لكورنثوس16 -17
وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا
الآنَ فَمَرْحُومُونَ.” (رسالة
بطرس الرسول الأولى 2:
10)

(واما
انتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، امة مقدسة، شعب اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة الى نوره العجيب)

وبعد أن عرفنا الامتياز العنصري الممنوح من قبل كتبة نصوص العهد الجديد لكل من يتبع تعاليمهم ومنهجهم العقدي, يبرز
الآن تساؤل مهم حول بقية بني البشر من خلق الله, ماهو تصنيفهم ومن هو( ابوهم) وما هي نظرة الذين كتبوا العهد الجديد إليهم؟!

عند تتبعنا للنصوص,سنجد ان الذين كتبوها, وضعوا على لسان يسوع الناصري تصنيف مهم وخطير !
حين خاطب مجموعة اليهود الذين لم يقتنعوا به ولا بكلامه واصفا لهم بأنهم ابناء ابليس!!

(أنتم
من أب هو إبليس ، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا) يوحنا 8

وهذا المعنى كرره شاؤول الطرسوسي(بولس) حين واجه أحد معارضيه بجواب احتوى على كوكتيل شتائمي

( أيها الممتلئ كل غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل بر ألا تزال تفسد سبل الله المستقيمة) أعمال الرسل

وقد اجتهد كاتب النص في تشويه صورة ذلك الشخص, واضافة تشويق درامي أنهى به المحادثة, باختراع معجزة فورية لشاؤول!
ونلاحظ ايضا ان النصوص تضع على لسان يسوع الناصري سيلا من الشتائم والأوصاف المخجلة بحق الناس الذين لم يقتنعوا
بدعوته وحركته الإصلاحية, فتارة يصفهم بالعميان ,او يشتمهم بوصف أبناء الأفاعي والحيات !
وتارة اخرى يصف من لا يقبل دعوته او يقاومها بالكلاب والخنازير!

(لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا
بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ) متى 6:7

ويفسر لنا القديس (اغطينوس) هذا النص,( إذن لنفهم..ان -الكلاب- تشير إلى مقاومي الحق!..والخنازير إلى محتقريه!)
أي أن كل إنسان لا يقبل ويخضع للحق -كما يقرره المسيحيون- فهو من (الكلاب والخنازير) تطبيقا لقول يسوع الناصري!!

وهناك نصوص كثيرة في العهد الجديد تصنف (الآخر) الذي لا يتطابق مع عقيدة مؤلفي تلك النصوص بانهم (اولاد اللعنة)
و انهم انجاس ,وحيوانات, ممتلئين بالإثم والشر والظلمة!!
(اما هؤلاء فكحيوانات غير ناطقة، طبيعية، مولودة للصيد والهلاك، يفترون على ما يجهلون, فسيهلكون في فسادهم اخذين
اجرة الاثم…….لهم قلب متدرب في الطمع. اولاد اللعنة. قد تركوا الطريق المستقيم) 2 بطرس 12/2

(كل شيء طاهر للطاهرين،واما للنجسين وغيرالمؤمنين فليس شيء طاهرا،بل قد تنجس ذهنهم ايضا وضميرهم) تيطس1

ومن الطريف, اننا نجد ان العهد الجديد قد قلب لنا الصورة!, حيث قام بتشبيه اليهود( الذين كانوا أبناء الله) و اعتبرهم
بمثابة (الكلاب) بعد ان كانوا هم ( البنون) وغيرهم الكلاب !!!

(اُنْظُرُوا الْكِلاَبَ. انْظُرُوا فَعَلَةَ الشَّرِّ. انْظُرُوا الْقَطْعَ) فيلبي ⅔ و(القطع) إشارة لليهود لأنهم
مختونين!

ان هذه النصوص التي ترسخ لعنصرية خطيرة, تستند على الامتياز الإيماني للبشر, وتؤسس لتصنيف الناس على أساس معتقدهم,
الى (ابناء الله) و(ابناء ابليس) او( الأفاعي), تعكس للباحث في الكتاب المقدس, مدى عمق الكبت النفسي والحنق لدى مؤلفي تلك النصوص, تجاه المجتمع الذي رفض التسليم بصدق عقيدتهم الجديدة, وتظهر لنا,كذلك, مستوى النظرة الدونية التي لدى السادة كتبة الأناجيل تجاه الآخرين
المختلفين معهم في الإيمان.

ومن اجل ان نكون منصفين, وربما من حسن الحظ, ان اغلب احبتنا المسيحيين الذين نعرفهم ونتعايش معهم, لا تؤثر في أخلاقهم
وسلوكياتهم مثل تلكم النصوص, لأنهم لم يقرأوها, أو ربما اطلعوا عليها, لكنهم لم يعيروا لها اهتماما, لانهم تخلصوا من شرنقة العنصرية, وانطلقوا إلى فضاء الإنسانية الارحب.

د. جعفر الحكيم

About جعفر الجكيم

جعفر الجكيم 45 عام طبيب عراقي مقيم في الولايات المتحدة نيويورك- ضاحية مانهاتن ناشط في مجال المجتمع المدني وحقوق الانسان باحث في مجال مقارنة الاديان ممثل لمنظمات مجتمع مدني عراقية في الامم المتحدة بنيويورك منذ 2007 ولا زال رئيس تحرير جريدة المهاجر - ولاية اريزونا- مدينة فينكس للفترة 2005 من 2011الى لي مشاركات عديدة في برامج حوارية حول مقارنة الاديان في قناة الكرمة ارجو التفضل بقبول جزيل شكري ووافر احترامي د.جعفر الحكيم
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.