القس لوسيان جميل
المقدمة:
في خضم الكذب والدجل الذي يعيشه عالم الأقوياء وعالم الضعفاء معا، كل من اجل مصلحته الخاصة، بعيدا عن الحقيقة والحق، ربما يكون تكرار بعض المواضيع الملتبسة والمشوهة من الأمور المهمة والضرورية. غير اني في الحقيقة لن اكرر كثيرا ما كتبته سابقا عن الأمور القومية، لكنني سوف اعمق ما جاء في اغلب مقالاتي السابقة عن هذه المسألة.
القومية العربية من منظور بنيوي:
اما هذا التعميق فسوف يكون من منظور بنيوي يرى ان عالمنا الانساني، وعالمنا الارضي وكوننا بأسره، هو عالم بنيوي التركيب، في عمق تكوينه المنظور وغير المنظور، ابتداء من بناه الصغرى
Micro structures
وانتهاء ببناه الكبرى
Macro structures،
اي انه عالم تكون كل بنية فيه عبارة عن منظومة لا يمكن فهمها، الا من خلال نظرتين متلازمتين هما: النظرة التحليلية الى كل بعد من ابعاد المنظومة البنيوية والى كل وجه من اوجهها، والى كل البنى الأصغر التي تشكل بنيانها، في حين لا تقل النظرة الثانية اهمية عن الأولى،لأنها نظرة يلقيها الانسان على المنظومة بشموليتها، فيحصل من خلال هذه النظرة على التعريف الشامل الناتج عن تركيبة هذه المنظومة. علما ان البنى، اي الأبعاد، تبقى ابعاد في خدمة الكل، ولا يمكن في اي يوم ان يحل اي بعد محل الكل، كما لا يفهم الكل ( المنظومة ) من غير فهم الأبعاد المختلفة وفهم تركيبتها.
اشكالية معاني القومية اللفظي:
مما لا شك فيه هو ان المعنى اللفظي
étymologique
لمصطلح القومية تتخلله اشكالات كثيرة بسبب غموضه والتباساته، سواء كان ذلك فيما يخص القومية بشكل عام او القومية العربية بشكل خاص، حيث يتجاور المفهوم العربي للقومية والمفهوم الغربي ويتداخلان احيانا كثيرة مسببة الغموض والالتباس المذكور، فضلا عن الالتباس الناتج عن المفردة نفسها. غير اننا، بمحاولة جادة يمكننا ان نرفع هذا الغموض وهذا الالتباس، من خلال منهجية علمية معمقة تعتمد بشكل عام على الأنثروبولوجيا وعلى النظرة البنيوية
Structurale
والنظرة الجدلية
Dialectique
وعلى بعض الثوابت، ومنها ثابت تطور المادة والروح معا، بسبب العلاقة الوجودية
Existentielle
بينهما. علما بان كل ما يجري يأتي وفق قواعد كثيرة اتينا الى بعضها اعلاه. كما يخيم على ظاهرة المادة، بكل ابعادها الخفية والظاهرة، الكامنة والمتحققة فعليا، قانون آخر معروف في علم الفيزياء يقول: المادة لا تفنى ولا تُستحدث، الأمر الذي يجعلنا نقول بوجود تواصل واستمرارية في حركة المادة الدائمة التي تخلق الزمن المستمر غير المتقطع
la duré،
مما يجعلنا نجزم باستحالة وجود اي انقطاع، بين المادة وأبعادها، لأن هذا الانقطاع يعني ببساطة وقوف الزمن والسقوط في العدم.
التحليل اللفظي لمعاني القومية:
اذا اردنا ان نفهم جيدا معنى مصطلح القومية علينا ان نعود الى الجذور القديمة البدائية لهذا المصطلح، لكي نتمكن ان نتابع، ابتداء من هذه النقطة البدائية، حركة تطور هذا المعنى، مع تطور هذه الحقيقة الاجتماعية، كما سنرى ذلك فيما بعد. ويقينا ان جذور مصطلح اية قومية تعود الى كلمات لغوية بسيطة جدا تعبر عن معاني بسيطة ايضا، كل لغة حسب عبقريتها. وهكذا فان معاني القومية تعود الى مفردة ” القوم ” البدائية المستنسخة عن السريانية والمشتقة بدورها من الجذر الجزري الثنائي ( ق م )، على اساس ان حرف الألف وحرف الواو ليسا حروفا بل مجرد حركات. اما معنى ” قوم ” المشتق من ( ق م ) ومن الفعل قام وأقام فيعني سكن وتجمع في مكان محدد، سواء كان قريبا ام بعيدا، في حين يكون جمعها أقواما في حالة وجود اكثر من قوم واحد في المنطقة المعنية. اما اذا دخلت كلمة بني او اسماء الاشارة او ادوات النداء او اصبحت هذه اللفظة مضافا اليها، حينذاك تصبح لفظة قوم اكثر وضوحا في معناها البسيط المباشر الخالي من الفكر العلمي الاجتماعي او الفلسفي كقولنا: يا قوم، وقولنا: قوم لوط، وقولنا بني عيسى الخ.. اما كلمة الأمة ( ع م ا ) فهي كلمة سريانية الجذر ايضا، وهي مذكرة في حقيقتها ومؤنثة في صيغتها العربية اللفظية، بعد ان استُبدل حرف العين بالألف وقُلبت الألف الأخيرة التي هي مجرد حركة ( فتحة ) الى تاء قصيرة. اما لفظة الأمة هذه ( ع م ا ) التي تعني الشعب، فقد صارت بديلا لكلمة القوم والأقوام، بعد ان تحولت هذه الأقوام الى أمة دينية تجمع كل الأقوام تحت خيمتها الجديدة. وهنا لا نشك ان الغرب هو الآخر مر بمراحل مشابهة عندما ميز بين مرحلة الأقوام القبلية
Les tributs ،
ثم التجمع الملكي الامبراطوري الثيوقراطي
La monarchie
وأخيرا الأمة المدنية والشعب
La nation – Le peuple .
علما بأن كلمة الأمة صارت عند العرب مصطلحا يعني الأمة العربية الدينية، سواء يعني ذلك الأمة التي تفككت في الحرب العالمية الاولى، او يعني ذلك الأمة نفسها في وحدتها الروحية التي قد تتحول يوما الى امة موحدة بالمعنى السياسي، حتى لو تجردت هذه الأمة الجديدة من ثيوقراطيتها القديمة، لكي يبقى الدين لله والوطن للجميع حسب المقولة الشهيرة، مع امكانية احتفاظ هذه الأمة الجديدة المرتقبة بالإيمان الروحي غير المحدد كمحرك للتاريخ، وكحكم ايماني، انساني – الهي على خيارات انسان هذه الأمة الأخلاقية، سواء كان ذلك على مستوى حياة الفرد ام كان ذلك على مستوى اخلاق السياسة، بعيدا عما يسمى اليوم بالعلمانية وقريبا مما يسمى بالعلمية، لكي يبقى الدين، اي دين، وفي اية مرحلة من مراحل مواكبته لحيـاة الانسان المتطورة، في خدمة الانسان، في جميع ابعاده الانسانية، الفردية والاجتماعية، بعيدا عما يسمى بالعلمانيـة الغربية وقريبا من العلمية.
المعاني الحقيقية للقومية:
والآن، درءا للالتباسات المذكورة نعود الى مقدماتنا الأولى ونقول: قد يكون لمفردة القومية معنى التجمع غير المحدد والوقتي في مكان ما، وقد يكون لهذه المفردة معنى اكثر اهمية من المعنى الاول، عندما تعني هذه المفردة تجمعا اجتماعيا انثروبولوجيا، حيث تربط بين المجتمعين صلة الرحم او صلة الثقافة او صلة الجغرافية بكل بساطتها. غير ان لفظة القوم وما يشتق منها لا يمكن ان تصلح للتعريف الاجتماعي الا لأناس لا يزال تجمُعُهم في اول عهده: ابتداء من العائلة فالعائلة الكبرى فالعشيرة والقبيلة فالأقوام الأكثر بعدا، حيث يصير التجانس بينهم غير واضح، مثله كمثل غابة تضيع تفاصيلها كلما ابتعد الناظر عنها. اما الآن فإذا ما استوعبنا هذه الحقيقة أمكننا الجزم باستحالة وجود حقيقة ثابتة اسمها القومية، سواء كان ذلك في الشرق ام في الغرب، حيث يقل التجانس بين البشر طرديا مع بعد المسافة وتعدد القبائل وتنوع ثقافاتها، وتفرع
Ramification
لغاتها التي كانت في بدء المسيرة الاجتماعية التصاعدية لغة واحدة. علما بأن ذلك يحصل انسجاما مع طرحنا المبدئي الذي يقول: كل عالمنا في صعود وتطور مستمرين، صعودا نحو اوميغا مجهولة لنا بعد، حيث نعرف شيئا منها على مراحل، مرحلة بعد مرحلة، باتجاه هدف حقيقي وان كان هدفا مفتوحا.
التحول الى مصطلح الهوية:
أما كلام الفقرة اعلاه فيتطلب منا ان نتحول من مفهوم القومية المرحلي والمحدد بحقبة بدائية معينة، الى مفهوم انثروبولوجي انساني شامل يصلح كأساس معرفي لجميع مراحل حياة الانسان الاجتماعية الماضية والحالية والمستقبلية، على قدر ما يستطيع الانسان ان يعرف علميا هذا المستقبل، او على الأقل ان يتكهن به، على شكل نظرية. اما هذا المصطلح فهو مصطلح ” الهوية “. وقد يلاحظ القارئ بأني هنا وضعت عبارة مصطلح الهوية عوضا عن كلمة الهوية. فكلمة الهوية هي مفردة لغوية بسيطة وتحمل تعريفا اوليا وأساسيا للفرد البشري وتميزه عن الآخرين. اما تعريف المجتمعات فهو اكثر تعقيدا بسبب عدم استقرار المجتمعات البشرية على حالة واحدة. ولذلك لا يمكننا ان نستخدم مفردة الهوية لتعريف المجتمعات الا بعد ان نعطي لهذه المفردة، عن طريق التماثل
Analogie،
كثيرا من الامتدادات
Extensions
الانثروبولوجية الاجتماعية، لتتحول مفردة الهوية البسيطة الى مصطلح اكثر تعقيدا، مما يسمح للمصطلح الجديد استيعاب وخدمة حقيقة المجتمعات البنيوية التكوين، ومنها المجتمع العربي، بكل تأكيد، حيث نبقى نؤكد على وحدة اساسية وجوهرية كبنيان متكامل واحد لا يقبل التجزئة، مع تأكيدنا على تعدد وتنوع الأبعاد والبنى الصغرى في هذا البنيان الثابت والمتغير ( المتطور ) عبر الزمن، الأمر الذي لم يكن باستطاعة مفردة القومية القيام به.
ماذا يقول مصطلح الهوية في العروبة:
بعد كل المقدمات والتحليلات التي وضعناها في الفقرات السابقة، نعتقد اننا يمكننا ان نلجأ الى معطيات التاريخ الحضاري للشعب العربي حيث سنرى بالتالي ان مصطلح القومية العربية لا يصح الا لحقبة بدائية من تاريخ العرب الحضاري، الا وهي الحقبة التي سبقت ظهور الأمة الدينية العربية الاسلامية التي تحولت بعد نشوئها وتطورها الى امبراطورية خلفت الامبراطوريات القديمة التي نشأت قبل ذلك في وادي الرافدين. ففي هذه الفترة فقط يمكننا ان نتكلم عن القومية العربية، وليس في غيرها، وذلك لأن العرب لم يكونوا يملكون في هويتهم ابعادا مهمة غير بعدهم القومي البدائي. اما في حقبة ظهور الأمة الدينية الاسلامية فقد اختلفت هوية الأمة العربية كثيرا، ثم حدث اختلاف وتطور آخر في هوية الأمة العربية بعد الفتوحات العربية الاسلامية. وبما ان ضعف الأمة يعود الى احد ابعادها او الى كثير من ابعادها فاننا نرى ان الأمة صارت بهوية مغايرة بعد نكسة الأمة جراء غزو المغول والتتار لبلاد العرب، وكذلك بعد انحلال الأمة الدينية في الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية. أما بعد سقوط الدولة العثمانية فقد فرضت الظروف على الأمة العربية واقعا جديدا وهوية جديدة هي هوية الأمة العربية المنكسرة والممزقة والمستعمرة، لكي تدخل الأمة فيما بعد بحالة ثورية استعادت فيها جزءا من سيادتها وجزءا من استقلالها، دون ان تستعيد وحدتها الا بشكل ظاهري. اما ما قدمته الان فليس سوى هيكلية عامة لهوية الأمة العربية لكي تبقى كل التفاصيل شأنا من شؤون المؤرخين. اما الكلام عن شؤون الأمة اليوم وعن هويتها، وكذلك عن مستقبل هذه الهوية فقد نوجزه ببضع عبارات في الفقرات القادمة.
تسمية الأقوام العربية:
في فقرة التسمية هذه اعود بالذاكرة الى كتاب قس ونبي الصادر في لبنان باسم مستعار. في هذا الكتاب وكتب أخرى للمؤلف ذاته لا اتبنى غير نظرته الى تسمية العرب بهذا الاسم. الا اني اضيف من عبارة الى اخرى شيئا من عندي، ربما لم يقله الكاتب المذكور. وفي الحقيقة ارى ان اهم ما يذكره مؤلف ذلك الكتاب في باب تسمية العروبة هو خلو الجزيرة العربية من قبيلة تسمت بالاسم العربي. ولذلك لا يمكننا ان نقول بأن تسمية العربي كانت تسمية لقبيلة معينة ثم شاع على الجزيرة العربية كلها، من باب تسمية الكل باسم الجزء. وعليه فان المؤلف المجهول الاسم يرى ان تسمية العربي جاءت من شرق الجزيرة العربية ما وراء الخط الوهمي الذي يفصل الجزيرة العربية عن هلال الخصيب ووادي الرافدين. وبذلك تشمل هذه التسمية كل السكان الذين كانوا يسكنون في اي عهد من العهود هذه الجزيرة. اما التسمية نفسها فمشتقة من كلمة ” غرب ” اي غرب الهلال الخصيب ووادي الرافدين. وبما ان حرف الغاء ينقلب بسهولة الى حرف العين، كما نجد ذلك في السريانية وربما في لغات جزرية أخرى فان سكان الغرب يدعون عربا ( ع ر ب ) وتعني ايضا حيث تكون الشمس كبيرة ( ر ب )، او حيث يكون السيد او الرب- الشمس – بحسب العقلية الوثنية القديمة. ( التعليق اللغوي يعود لي شخصيا ). أما ما يجب ان يأخذ اهمية في اعيننا فهو ان هذه التسمية مكانية وشمولية وتصلح ان تكون الخيمة الجامعة لكل سكان المنطقة، الأمر الذي يأتي من حسن حظ العرب ومن حسن حظ الباحثين في المسائل القومية، ومن سوء حظ الحاقدين على العرب من الشوفينيين والانفصاليين والناكرين لأصولهم الحقيقية العميقة.
نظرة تاريخية حضارية الى الهوية العربية:
وهنا ولمزيد من الوضوح نذكر، استنادا الى المؤرخين، بأن الجزيرة العربية هذه كانت في سالف الأزمان- يقال قبل حوالي 14 الف سنة من الآن- منطقة خصبة جدا، عاش سكانها برفاهية ويسر، وكونوا لأنفسهم لغات متطورة وحضارة متقدمة، نقلتها معها، الى وادي الرافدين والهلال الخصيب، تلك الأقوام التي هاجرت الى تلك المناطق، عندما تغير المناخ في هذه الجزيرة وتصحرت الارض تدريجيا، وقل فيها الكلأ والماء، وهناك اندمجت مع السومريين، سكان المنطقة الاصليين، وربما مع غير السومريين ايضا، وأخذت تلك الأقوام كثيرا من مفردات الاقوام التي سبقتهم في العيش هناك، وأسسوا أول حضارة بشرية فيها. الا ان الأقوام التي هاجرت الى وادي الرافدين والهلال الخصيب أضافت الى هذه المفردات الثنائية الجذور، وغير المتطورة، الحرف الثالث الذي اعطى للغة هؤلاء الاقوام النازحين غنى لغويا كبيرا. وهكذا برزت في منطقة وادي الرافدين اقوام متحضرة اصلا وزادت من حضارتها في موطنها الجديد وكونت حضارات عظيمة وقوية ارتقت كلها الى مستوى الامبراطوريات، في حين قطعت في المجال الديني والثقافي شأوا كبيرا، كما هو معروف من مكتباتها ورقمها الطينية. اما اقتباس هذه الحضارات الخط او القلم الارامي فقد كان نقلة ثقافية مهمة جدا في حياة شعوب المنطقة وشعوب العالم قاطبة.
ولادة الحضارات وموتها: يبدو ان انشاء حضارة كبيرة لا يأتي الا بشروط، لسنا الآن بصددها. لكننا سنتكلم هنا عن احد هذه الشروط ونقول بأنه يبدو ان لا حضارة تنشأ وتبنى على شكل امبراطورية بدون ان يدفع البناة ثمن حضارتهم هذه كثيرا من المجهود والدماء، طالما نعلم ان هناك قانون الجدل الذي يتكلم عن الصراع بين الجديد والقديم، هذا القديم الذي يأبى الاستسلام بسهولة. غير ان قانون الجدل هذا يقول لنا ايضا ان اية ولادة يعقبها الموت الناتج عن خسائر الصراع وغير ذلك من الاسباب، كما ان اي موت حضاري في الظروف الطبيعية تنشأ عنه ولادة جديدة وحضارة جديدة وهوية جديدة تتملك ايجابيات الحالة الجديدة فضلا عن ايجابيات الحالة القديمة، مما يمكننا ان نسميه تسليم واستلام. وفي الواقع نعرف ان مثل هذا الموت حصل تكرارا بين اقوام قادمة من الجزيرة العربية من تلك التي بنت حضارات مزدهرة وكبيرة، دون ان تنتهي السلسلة الحضارية، بسبب التجانس الذي كان موجودا بين المتصارعين.
وهكذا نقول ان حضارة الجزيرة العربية انتقلت الى وادي الرافدين والى الهلال الخصيب عن طريق الاستلام والتسليم انتقالا طبيعيا لا انقطاع في تسلسله. هذه هي الحقيقة، اما التسميات المتعددة فلا تتناقض مع حقيقة وحدة سكان الجزيرة العربية داخل الجزيرة وخارجها. علما بان كل هذا حدث بعد ان وصل العرب، داخل حاضنتهم
couveuse
مرحلة كبيرة من التقدم، وبعد ان مروا هناك بجميع مراحل تطورهم الاجتماعي الأولي، واكتسبوا الهوية القومية الخاصة بتلك المرحلة. ولكن بعد هذا كله كانت الكارثة، بعد ان انتصر الفرس على البابليين في معركتين اساسيتين في بابل نفسها وفي مدينة الحَضَر وانتقل الحكم والحضارة الى اياد غريبة، وانقطعت سلسلة العروبة هناك وانقطع معها التسليم والاستلام.
الحقبة الثانية وعودة السلسلة:
بينما كانت المملكة البابلية ومعها حضارة المنطقة بأكملها تؤول الى الزوال وتتحول الى اطلال وخربات ينعق فيها البوم، كانت في اعماق الجزيرة تجري عملية نهضة جديدة. ففي الحقبة التي سميت بالجاهلية من وجهة نظر معينة، كانت هناك حضارة تنشأ وعلاقات تتكون ومدنٌ تُبنى وسدود تُنشأ وثقافة جميلة تزدهر. غير انه الى جانب ذلك كله نشاهد حركة روحية ودينية تبرز في كثير من الاوساط، ولاسيما في وسط مختار ومؤهل للعطاء هو وسط عائلة وعشيرة وأجداد النبي محمد، هذه العشيرة التي كانت على مذهب توحيدي تَسمى بأسماء كثيرة، لا استطيع الخوض فيها في هذا المقال. فمن هذه العشيرة المباركة خرج الاسلام الذي يهمني هنا أمر واحد فيه هو انه كان قد صار القوة المحركة للأمة العربية، والتي مكنت هذه الأمة من اعادة السيادة الى اهلها الجزريين، اي العرب الخارجين من رحم الجزيرة العربية، بعد ان انتزعوا هذه السيادة في معركة القادسية الاولى وحطموا غرور ملوك فارس. وهكذا ايضا عاد التسلسل الحضاري من جديد الى المنطقة وصار الاستلام والتسليم من جيل الى جيل ومن حضارة تموت الى حضارة تولد وتنشأ امرا اعتياديا. غير ان العرب هذه المرة لم يأتوا الى وادي الرافدين، ومن بعد ذلك الى الهلال الخصيب، الا بعد ان كانوا قد فارقوا مرحلة القومية واكتسبوا هوية أخرى اكثر تقدما هي هوية ” الأمة الدينية “، هذه الأمة التي تبقى أمة حية وأمة واحدة على الرغم من تعدد صورها وهويتها، كما تبقى مدعوة الى استعادة وحدتها وسيادتها وعزتها، كلما تمزقت ووهنت.
القس لوسيان جميل
تلكيف – محافظة نينوى – العراق
Fr_luciendjamil@yahoo.com