“القوات اللبنانية” في مواجهة “حزب الله”

بقلم حسين عبد الحسين/
المفاجأة الانتخابية التي حققها حزب “القوات اللبنانية”، ذو الغالبية المسيحية، بمضاعفته عدد مقاعده البرلمانية لتصل إلى 15 مقعدا، ليست سياسية فحسب، بل مفاجأة لكل من يعتقد أن “حزب الله” والميليشيات الموالية لإيران والمنتشرة في عموم منطقة الأوسط هي مجموعات تنفرد بحسن تنظيمها ويصعب مواجهتها.
وقبل الحديث عن أسباب تقدم “القوات اللبنانية”، والآفاق التي يفتحها هذا التقدم لكل القوى اللبنانية والإقليمية والدولية في مواجهة محور “مكافحة الاستكبار”، الذي تقوده إيران، لا بد من استعراض سريع لطبيعة القوى السياسية في لبنان والدول المجاورة.
منذ زمن الإمبراطوريات العراقية التي اجتاحت المشرق تكرارا منذ العام ألف قبل الميلاد، اعتاد سكان المشرق على تنصيب وجهاء محليين يديرون شؤونهم، بالتعاون مع حاكم باسم الإمبراطورية، تعاونه عادة قوة عسكرية صغيرة. وكان عندما ينتفض المحليون على الحكم الإمبراطوري وعسكره، ترسل عاصمة الإمبراطورية حملة عسكرية تأديبية تعيد فيها الأمور إلى نصابها. هذا النموذج الإمبراطوري ـ المحلي تبناه الفرس والرومان والبيزنطيون، وكل القوى الدولية المتعاقبة التي حكمت غرب آسيا وشمال إفريقيا.
في لبنان بصيص أمل أن ليس كل معارضي “حزب الله” هم من الفاسدين ممن يتنازلون عن مواقفهم للحزب مقابل مقعد في الحكم
حافظت الإمبراطورية العثمانية في اسطنبول على هذا الترتيب في المشرق العربي بتعاونها مع وجهاء محليين يديرون شبكات ريعية، يرثونها أبا عن جد. ومع انهيار العثمانيين، وصعود الحركات القومية، ونشوء دول مستقلة في الشرق الأوسط، حافظ الوجهاء على دورهم، التي اتخذت أشكالا أكثر استقلالية عن الإمبراطوريات، فكان زمن الانتداب، ثم زمن الاستقلالات، وفي الزمنين، استمر الوجهاء في القيادة، إلى أن تحولت الجيوش الوطنية إلى شبكات من الريفيين ممن انتفضوا على الوجهاء، وأطاحوا بحكمهم، وأسسوا ممالك أسموها جمهوريات، مثل “جمهورية” سورية الأسد.
على أنهم لتوجسهم من مؤامرات عسكرية تطيح بهم، على غرار تلك التي قادوها للاستيلاء على الحكم، أنشأ ديكتاتوريو العرب شبكات من البلطجية موازية في قوتها لقوة الجيوش النظامية. هكذا، تحول “حزب البعث العربي الاشتراكي” إلى مطية للراحلين صدام حسين في العراق وحافظ الأسد في سورية، إلى جانب أجهزة استخبارات أقامها الرجلان للإطباق بشكل كامل على الحكم.


في لبنان، أبقى الوجهاء جيشهم الوطني ضعيفا تحسبا من إمكانية انقلابه. وساهم في ضعف السلطة المركزية الأمنية اللبنانية غياب الموارد النفطية التي تمتع بها صدام والأسد لتمويل أجهزة القمع التي أداراها.
على أن ضعف القوى الأمنية اللبنانية فتح الباب أمام صعود الميليشيات المحلية، التي تحولت إلى تنظيمات عسكرية في زمن الحرب الأهلية، وفتحت الباب بدورها أمام الريفيين اللبنانيين، والآتين من الطبقات الاجتماعية المتواضعة والطامحين إلى تسلق سلم العنف الميليشوي.
ومع نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، حلت سلطة الوصاية التي كان يمارسها الأسد على لبنان كل الميليشيات، ما عدا “حزب الله”، التي استثنتها دمشق بحجة “مقاومة إسرائيل”. ومع تلاشي معظم الميليشيات وانخراطها في الدولة واشتراكها في عملية النهب المنظم المستمر منذ العام 1992، وقفت ميليشيتان خارج الترتيب الجديد: “حزب الله”، الذي حافظ على سلاحه، و”القوات اللبنانية”، التي تخلت عن سلاحها من دون أن تذوب في الدولة على غرار الميليشيات الأخرى.
التنظيم القواتي هو الذي يزعج “حزب الله” اليوم، فحزب “القوات اللبنانية” صار يبدو الحزب الوحيد الخارج عن ترتيب تقاسم الحصص
ذاك القرار القواتي دفع الأسد إلى شن حملة تأديبية أدت إلى حل حزب “القوات اللبنانية” وسجن رئيسه سمير جعجع، الذي لم يخرج من سجنه إلا بعد انحسار نفوذ نظام الأسد في لبنان في العام 2005. منذ خروجه من سجنه، مضى جعجع في إعادة بناء جهازه الحزبي المشهود له بحسن تنظيمه وانضباطه في زمن الحرب، ولكن هذه المرة بنى جعجع حزبه بدون سلاح، كحزب سياسي بحت.
هذا التنظيم القواتي هو الذي يزعج “حزب الله” كثيرا اليوم، فحزب “القوات اللبنانية” صار يبدو الحزب الوحيد الخارج عن ترتيب تقاسم الحصص، الذي يقوده وجهاء السياسة اللبنانية منذ قرون. كما يبدو أن “القوات اللبنانية” الحزب الوحيد الذي يمكنه منافسة “حزب الله” جديا في تنظيم الصفوف، وفي الانتخابات والمنافسات السياسية المختلفة.
هي مفاجأة أن يخرج من رحم الثورات الديمقراطية العربية العديدة حزب لا يغرق في صغائر السياسية، على غرار حلفاء “القوات” الآخرين في “تحالف 14 آذار” المندثر. وحزب “القوات اللبنانية” يستند إلى قدرات ذاتية، ويظهر جدية في العمل تغيب عن عمل باقي معارضي “حزب الله” اللبنانيين.
وللتوضيح، ليست “القوات اللبنانية” حزبا ديموقراطيا، وهو أمر مؤسف، بل هي تعاني من غياب التداول الفعلي للسلطة في القيادة، التي ينفرد فيها جعجع منذ منتصف الثمانينيات. لكن الأحزاب تنتمي لبيئتها، و”حزب الله”، الذي أعلن إبان تأسيسه التزامه مبدأ الشورى الإسلامي لتداول القيادة، نسف هذا المبدأ منذ سنوات كثيرة مع تحول زعيمه حسن نصرالله “أمينا عاما” إلى الأبد.
في لبنان بصيص أمل أن ليس كل معارضي “حزب الله” هم من الفاسدين ممن يتنازلون عن مواقفهم للحزب مقابل مقعد في الحكم، أو مقابل سماح الحزب لهم بالإثراء على حساب المال العام، وهو أمل يسمح لمن يبحث عن فرص سياسية في لبنان أن يراهن على “القوات اللبنانية”، أو من يحذو حذوها، بدلا من الرهان على بائعي المواقف ممن يطلبون الكثير من الدعم، ولا يقدمون في المقابل إلا شذرات نتائج، مع استعدادهم الدائم للانقلاب في مواقفهم على طريقة المثل اللبناني الذي يقول “من يأخذ أمي يصبح عمي”.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.