الأسطورة هي حكاية تقليدية تحكي أحداثا خارقة للعادة تعكس معتقدات او تصورات مجموعة من الناس وتستند احيانا الى
اماكن او اشخاص حقيقيين بعد ان يتم اضافة وقائع خيالية او اعمال فوق طبيعية إليهم, لغرض إضفاء طابع بطولي واحيانا عمق قداسوي يرتكز على تأويل لاهوتي, وربما تفسير فلسفي لتفاصيل تلك الأسطورة.
ولا تخلو جميع الأديان والمعتقدات من ظاهرة تسرب القصص الأسطوري إلى تراثها الفكري و تاريخها العقدي, وتبرز هذه
الظاهرة بشكل لافت جدا في نصوص العهد الجديد والتي هي بالأصل مجموعة أخبار تاريخية تتمحور غالبيتها حول توثيق السيرة الشخصية ليسوع الناصري.
في كتاب ( الدين والعلم) يتناول الفيلسوف والمؤرخ البريطاني الشهير (برتراند راسل) ظاهرة الانتشار السريع للأساطير
والخرافات في المجتمعات المسيحية المتقدمة, وتناقلها شفويا بين المؤمنين من جيل لآخر, حتى تصبح مع مرور الزمن حقائق من الصعب جدا إنكارها, حتى لو تم مواجهتها بأدلة دامغة تؤكد بطلانها!
ويذكر الفيلسوف والمؤرخ البريطاني نموذج طريف حول انتقال الأسطورة والخرافة وتطورها لتصبح حقيقة يقوم عليها اعتقاد
وإيمان الكثير من الناس ,حيث يروي ان الناس ولقرون طويلة اعتقدوا بقدرة عظام القديسة (روزاليا) المحفوظة في مدينة (باليرمو) في إيطاليا على شفاء الأمراض المستعصية, قبل ان يكتشف احد علماء التشريح لاحقا ان تلك المجموعة من العظام هي بالحقيقة عظام ( ماعز) ولا علاقة
لها بالبشر !!
وعند تتبعنا بالبحث التاريخي لنصوص العهد الجديد, وبعيدا عن النظرة الإيمانية التقديسية لتلك النصوص – مع حفظ الاحترام
لكل من يعتقد بقدسيتها- تقفز أمامنا العديد من القصص الأسطورية والتي أخذت مع مرور الزمن بعدا عقديا واصبحت حقائق إيمانية لا يرقى إليها الشك ولا تقبل النقاش او التشكيك, مثل حكاية الولادة العذرية المقتبسة من الأساطير اليونانية, وكذلك قيامة يسوع الناصري من الموت,
وحكاية رحلة العائلة المقدسة إلى مصر, والتي استندت على كذبة تاريخية لا أصل لها مقتبسة من قصة موسى في العهد القديم! , هذا بالاضافة الى بعض الحكايات الأسطورية التي لاتخلو من الطرافة وتعكس سعة خيال السادة كتبة تلك النصوص مثل قصة هيرودس الملك الذي أكله النمل وهو
حي بسبب عدم إيمانه !!
(فَفِي
الْحَالِ ضَرَبَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ لأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْمَجْدَ للهِ، فَصَارَ يَأْكُلُهُ الدُّودُ وَمَاتَ) سفر اعمال الرسل 23/12
في هذا المقال سنتناول بالبحث نموذجا واحدا فقط من تلك الحكايات الأسطورية التي تحفل بها صفحات العهد الجديد, من أجل التحقق من موثوقية الخبر الذي
يروي الحكاية, من خلال المقارنة وتتبع أصل الحكاية والغاية التي وضعت من اجلها
والقصة التي سنستعرض فصولها هي (إقامة لعازر من الموت) على يد يسوع الناصري, وتحكي القصة ان هناك شاب يهودي اسمه لعازر ( أصل الاسم ايلي -الله و
ازر-يعين او يساند) كان هو و اختاه (مريم وميرثا) من المؤمنين بيسوع المسيح ,الذي كان يحبهم ويقدرهم, وكانوا يسكنون في منطقة قريبة من أورشليم تسمى بيت عنيا (بيت العناء اوالشقاء)
وقد أفرد السادة الذين كتبوا الإنجيل المنسوب إلى (يوحنا) لهذه الحكاية اصحاحا كاملا من ذلك الإنجيل ( الاصحاح 11)
حيث تدور أحداث الحكاية في الفترة الأخيرة ليسوع الناصري قبل توجهه إلى أورشليم وإلقاء القبض عليه هناك
ومختصر الحكاية هي ان الشاب لعازر قد مرض ومات وتم دفنه , وبعد أربعة أيام وعند قدوم يسوع الناصري الى بيت عنيا, قام بصنع معجزة كبيرة أمام جموع
من الناس حين توجه إلى قبر لعازر واعاده الى الحياة مرة أخرى ,مع تأكيد كتبة الإنجيل ان هذه المعجزة أدت إلى إيمان الكثير من الناس بيسوع الناصري, وأحدثت ضجة جعلت أعداؤه من اليهود يسارعون خطاهم في سبيل قتله والتخلص منه (للتفاصيل انظر إنجيل يوحنا 11).
تعتبر حكاية إقامة لعازر من الموت من المعجزات التي تحتل مكانة أساسية في الإيمان المسيحي الذي أضفى على الحكاية بعدا لاهوتيا يجعل منها دليلا على
امتلاك يسوع الناصري قدرات وخصائص إلهية من بينها التحكم بسلطان الموت والحياة!
وبعيدا عن مناقشة ذلك الإيمان أو التدخل فيه, ومع التركيز على البحث التاريخي المتجرد لهذه القصة, والتي هي عبارة عن (خبر تاريخي) لحادثة وقعت في
زمان ومكان واشخاص معلومين, ستبرز أمامنا نقطة مهمة جدا ولافتة للنظر, وهي:
ان هذه القصة قد انفرد بذكرها انجيل (يوحنا) فقط, وهو الإنجيل المتأخر زمنيا عن بقية الأناجيل والرسائل التي يتكون منها العهد الجديد ,حيث يعتقد
ان كتابته تمت في بداية القرن الثاني الميلادي بعد مرور حوالي سبعين عاما على صلب المسيح, بينما خلت جميع الأناجيل والرسائل الأخرى والتي هي متقدمة زمنيا على إنجيل (يوحنا) من أي ذكر للقصة ولو على سبيل الإشارة العابرة او التلميح الضمني, على الرغم من أهمية الحادثة
وفرادتها والصدى الواسع الذي من المفروض انها أحدثته في المجتمع, والنتائج التي يفترض ان تحصل نتيجة مشاهدة جموع الناس لتلك المعجزة التي لا تتكرر !
ومما يزيد التعجب ويقوي الشكوك حول مصداقية حدوث هذه القصة, اننا نجد ان انجيل (مرقص) وكذلك إنجيل(متى)- وهما متقدمان زمنيا على إنجيل (يوحنا)-
قد تطرقا إلى زيارات يسوع الناصري لبلدة (بيت عنيا) ولقاءه ب(لعازر) واختيه, ولم يذكرا اي شئ عن حدوث هكذا معجزة من الأساس !
ان خلو جميع المصادر المسيحية المتقدمة زمنيا على إنجيل يوحنا من أي ذكر لهذه المعجزة الخارقة وأثرها المدوي في المجتمع المعاصر ليسوع الناصري,
جعل المؤرخين واللاهوتيين المسيحيين يقعون في حيرة ويجهدون من اجل ايجاد تفسير منطقي ومقبول يوضح هذا التناقض والاضطراب, فلم يجدوا سوى تبريرا ساذجا وسطحيا وطريفا ,مفاده, ان المصادر المتقدمة لم تذكر هذه القصة والمعجزة خوفا من اثارة المتاعب على لعازر!
في تلميح ضمني ان كتبة الاناجيل انتظروا حتى موت لعازر وبعدها ذكروا القصة, خوفا عليه من ان يقتله الخصوم!!
ان تبرير اللاهوتيين المسيحيين لهذا الخلل, يفسر الاضطراب الذي أوقعهم فيه ورود هذه الحكاية الأسطورية في النص المقدس, لان المنطق يحتم ان يقوم
خصوم يسوع بالتخلص من لعازر فور حدوث المعجزة او بعيدها بقليل, وليس الانتظار لعقود من السنين حتى يأتي أحدهم ويكتب القصة في مخطوطة محدودة الانتشار بين جماعة ضيقة, وقتها سيثب الخصوم ويفكروا بقتل الشاب الذي مات ثم رجع إلى الحياة!
وهذا بالفعل ما التفت إليه واضع القصة التي وردت في إنجيل يوحنا , فقام بإضافة حبكة درامية اليها!
(فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر ايضا، لان كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون ويؤمنون بيسوع) يوحنا 10/12
ومع افتراض صدقية هذه الاضافة فان واقع الحال يشير الى ان لعازر لم يقتل وقد نجى من كيد اليهود وأصبح في مأمن عنهم ولم يعد هناك داع لإخفاء هذه
المعجزة المدوية وعدم ذكرها ولا حتى بطريقة التلميح او الإشارة بلا ذكر لاسم لعازر المهدد!
وخصوصا اننا نقرأ في الأناجيل المتقدمة زمنيا على إنجيل يوحنا عن أشخاص بالاسماء أحيانا وبذكر صفاتهم احيانا اخرى رغم ان ذكرهم كان قد يعرضهم لخطر
الانتقام من اليهود او الرومان , مثل (يوسف الرامي) و قائد المئة وغيرهما.
ان حكاية اقامة لعازر هي نموذج للخبر الاسطوري الذي يستند على ظاهرة الاخبار( البعدية) والتي يتم صياغتها والتفنن في سبك تفاصيلها (بعد) زمن طويل
من وقوع الحدث الأولي الذي يخلو منها اصلا, فيقوم القديسون المؤمنون بإعادة صياغة الخبر واضافة حبكة درامية تعطي صورة ميثولوجية للحادثة و للشخصية المحورية في القصة!.
فقد أدرك الذين كتبوا إنجيل يوحنا أن ذكر قدرة يسوع الناصري الإعجازية على إحياء الأموات في الأناجيل المتقدمة زمنيا ليس كافيا الى الحد الذي يعطي
اطمئنان واقتناع لدى المؤمنين , فقاموا بصياغة قصة ذات سيناريو أكثر متانة وتأثيرا مع ذكر الاسماء والاماكن, لإضفاء المصداقية والواقعية في محاولة لسد الثغرات في القصتين الوحيدتين حول معجزة إحياء الموتى و المذكورة في الأناجيل السابقة على إنجيل يوحنا, لأن قصة إحياء
يسوع الناصري لابنة رئيس المجمع و المذكورة في إنجيل ( لوقا 8) لا توحي اصلا بان البنت كانت ميتة فعلا ,وإنما كانت في حالة إغماء نتيجة المرض, أما القصة الأخرى في (لوقا 7) فلا تعطي اي تفاصيل سوى ذكر لأشخاص مجهولين ( الشاب إبن الأرملة من مدينة نايين!)
وهذا يفسر لنا خروج إنجيل يوحنا بقصة ذات سبكا دراميا أكثر متانة وحرفية من القصتين المتقدمتين مع اضافة اسماء اشخاص كانوا موجودين في الواقع في
تلك الفترة, لإبعاد الشك عن صدقية الخبر الذي سطروه في انجيلهم بعد فترة من موت معظم الأشخاص الذين من المفترض أنهم كانوا أحياء وشهود على حدوث تلك القصة , وخصوصا اذا عرفنا ان جميع سكان المناطق اليهودية في فلسطين وخصوصا أورشليم وما يجاورها – وقبل ان تتم كتابة إنجيل
يوحنا- قد تعرضوا جميعا للقتل والتشتيت والأسر على يد الرومان خلال الثورة اليهودية الكبرى ضدهم عام 66 ميلادي, حيث تم قتل حوالي مليون إنسان يهودي وأسر قرابة المائة ألف منهم وسوقهم عبيدا إلى روما , أما بقية اليهود فقد هربوا وتشتتوا بين البلدان
وبعد هذه الكارثة التي حلت باليهود بسنين عديدة,لم يكن أمام السادة كتبة إنجيل يوحنا ما يمنعهم من اضافة اي حكاية او حدث خارق وانتاج قصة أسطورية
تحكي معجزة مدوية وفريدة حدثت لأشخاص قد ماتوا وكذلك مات كل الشهود !!
ان ما يؤكد هذا الاستنتاج هو اننا نجد ان شخصية الشاب لعازر تختفي تماما من نصوص العهد الجديد, بعد ذلك, ولا يرد لها اي ذكر او نشاط في الأحداث
التالية, حتى انه لم يلتحق بمعلمه او إلهه يسوع في رحلته الأخيرة لأورشليم ولم يكن معه في وقت محنته , وهو الذي من المفترض ان يكون أشد الناس حماسا واندفاعا في الولاء للشخص الذي أحياه من الموت وأكثر المؤمنين به نشاطا في التبشير برسالته من بعده خصوصا انه في حال
لم يعد فيها خائفا من الموت الذي قهره بسلطان واعجاز إلهه يسوع الناصري!!
والظاهر ان اللاهوتيين المسيحيين قد التفتوا ايضا لهذا الخلل في الأسطورة الإنجيلية, فقاموا, فيما بعد, بوضع أخبار من خارج النص المقدس من خلال
ما يعرف لدى المسيحيين ب(التقليد) توحي بأن لعازر قد ذهب الى قبرص وتوفي في لارنكا ورغم ان (التقليد) هو مجرد روايات تاريخية شفوية لا يعتمد على وثوقيتها ولا تعتبر مصدرا يقينيا , وسواء صحت تلك الاخبار ام لم تصح, فإنها لن تغير شيئا في الموضوع لان محل الإشكال هو
صدقية خبر حصول المعجزة وليس وجود شخصية تحمل اسم لعازر من عدمه.
د. جعفر الحكيم