العفيف الأخضر: الحوار المتمدن
من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ
القرآن بما هو وثيقة طبية
واعترافات محمدية
هذه الدّراسة الطبية-النفسيّة لشخصيّة نبي الإسلام، هي نموذج للعقلانية الدينيّة المطبقة، على دراسة نصوص الإسلام وشخصياته المؤسّسة، بالعلوم الحديثة وعلوم الأديان.
كما يحدث غالباً في التاريخ، الشّخصيات المؤسسة، تولد تاريخية وتحولها النرجسية الجمعية إلى اسطوريّة: إلى أسلاف وأبطال، يجسدون رمز الإنسان الكامل، المعصوم من الخطأ والخطيئة.
استطاع هذا الكتاب أن يحقق هدفه، بانتزاع محمد من التّخاريف وإعادته إلى التاريخ، من الأسطورة إلى الحقيقة، من خلال قراءة جديدة للقرآن بما هو وثيقة طبية عن امراض نبي الإسلام النفسية. كما استطاع من خلال قراءة للقرآن بما هو اعترافات محمديه، أن يكشف عن شكوك نبي الإسلام في رسالته، وضيقه بالقرآن ورغبته الخفية في افتراء قرآن آخر، على غرار الآيات الشيطانية، يصالح به قريش ودينها.
في أعماقه، لم يكن نبي الإسلام، محمد، يريد أن يكون ما كانه: نبياً!
القرآن هو لاشعور محمد وضميره الأخلاقي، بكلّ متشابهاته والتباساته وتناقضاته الوجدانية، وتقلّبه من النقيض إلى النقيض، من التخيير إلى التسيير والعكس، ومن الضّمير الأخلاقي الغاشم في مكّة، إلى الضّمير الأخلاقي الغائب في المدينة، من نبيّ وشاعر في مكّة إلى مُشرِّع ومحارب في المدينة.
الدّخول إلى أدغال شخصيّة محمّد النفسيّة تمّ غالبا عبر 6236 آية.
ولست أبالي حين أقتل باحثاً على أيّ جنب كان في العلم مصرعي؛
كما لم يقله أول شهيد في الإسلام خبيب بن عدي الأوسي، القائل:
“ولست أبالي حين أقتل مسلما،
على أي جنب كان في الله مصرعي”.
“تجديدات” نحوية
ضمير الغائب في العربية الكلاسيكية، القرآنية والدنيوية، يتطابق دائماً مع المفرد والجمع مثلاً: “آيات بينات هن أم الكتاب…” ولم يقل هي … يقول المعري: “لو كانت الأرزاق، تجري على الحجى، هلكن إذن من جهلهن البهائم” ولم يقل هلكت… من جهلها. هذا التطابق موجود في لغات العالم القديمة والحديثة، لأنه يتطابق، كما يقول شومسكي، مع السليقة النحوية الموجودة في كل إنسان فطرياً من دون تعلم.
احتراما لهذا القانون اللغوي الفطري والمفيد، ورفعاً لإلتباسات كثيرة، تعيق الفهم أحياناً، في الخلط بين المفرد والجمع، استخدمت غالباً “هن “بدل “هي” و “هم” بدل “هو” في الجمع طبعاً.
نظراً إلى أن افتقار العربية للصوتيات، حولها أحياناً إلى هيروغليفية، فقد قررت عدم الجزم بلم، وعدم الإستغناء عن الصوتيات في أي صيغة نحوية كانت؛ وباختصار، كلما تعارض الإبقاء على الصوتيات، أو ادخال المصطلحات كما هي، معرّبة، بلا ترجمة، مع النحو، ضحيت بالنحو النخبوي العقيم.
يوم تتحرر العربية من كل ما هو عتيق في نحوها، وتتبنى المعجم الغربي للمصطلحات العلمية والتكنولوجية كما هو بلا ترجمة، كما فعلت العبرية والتركية والفارسية؛ عندئذ تُصبح لغة حديثة، قادرة على ترجمة وانتاج العلم،والتكنولوجيا، والفلسفة،والأدب والفن.
حلم لقائي بمحمد
في أواخر السنوات 1970، كنت أتردد بين حين وآخر على دروس الفيلسوف والمحلل النفسي، كاستوياديس. كنت أتدخل باستمرار في مناقشات أعمال طلبته، الذين كانوا يحُضّرون دبلوم مدرسة الدراسات العليا العملية. كانت تدخلاتي تستأثر باهتمامه نظراً لتعدد أعمال موضوعات طلبته. ذات يوم اقترحت عليه الجلوس في مقهى قريب من المعهد. خلال اللقاء سألته، إن كان بالإمكان أن يحللني رحب وحدد لي جلسة أولى، طالت على غير المعتاد. سألني ماذا تكتب؟: بحوثاً أجبت. فعلق: نفسيتك كان يمكن أن تكون مصدراً ثرياً للكتابة الأدبية، الرواية أو الشعر. قلت: الشعر حاولته مراهقاً وتوقفت. أقرأ الرواية، لكن كتابتها لا تغويني، فيبدو أني لست من أحفاد ألف ليلة وليلة. في النهاية قال لي:تحليلك قد يتطلب 5 أو 6 سنوات.سألته عن السعر قال:300 فرنك للجلسة.قلت له:دخلى الشهري 1000 فرنك. اندهش: وكيف تستطيع أن تعيش بهذا المبلغ؟ : كمعظم عمال أجر الحد الأدنى وأأكل أحياناً في مطاعم الفقراء. قال: التحليل المجاني غير مثمر… واصل قرآتك النفسية، وأضاف مبتسماً: بإمكانك عمل تحليل ذاتي؛ فرويد، في النهاية حلل نفسه؛ شخصياً، لست مقتنعاً كثيراً بجدوى ذلك، لأن التحويل، الضروري في العلاج، يغيب فيه. لكن شيء أحسن من لا شيء.
شرعت في تحليلي، عبر تسجيل أحلامي، بمجرد ان أستيقظ.
كنت منذ موت أبي، أحلم أسبوعياً به قادماً نحوي، على حماره الشهير، ووجهه أزرق، كما كان عندما مات مختنقاً، في سن الـ 49 عاماً، بعد اسبوع من دون علاج بمرض مجهول. كلما حاولت أن أسلّم عليه ينعقد لساني، كتعبير عن الشعور الساحق بالذنب، فيمر عليّ من دون أن ينظر إليّ.
في آخر تحليلي الذاتي، اختفى هذا الحلم الكئيب، وفي المقابل حلمت بنبي الإسلام يدخل فجأة في الأستوديو، ويعانقني ويقبلني من فمي كما كان أبي يفعل، وهو يلاعبني، لما كنت طفلاً. اختفى حلم أبي وبعد ذلك عاد في التسعينات، مع أمي بعد موتها، ومسّدا ظهري الموجوع بالإنزلاق الغضروفي…
عادة في التحليل النفسي الناجح يتصالح الإبن مع الأب عبر شخصية محبوبة ترمز للأب: ملك أو رئيس… أنا تصالحت مع أبي ـ وأمي أيضاً ـ في شخص محمد!
قصصت الحلم على كاستورياديس فكان رده: لا أستطيع إلا معاينة ذلك.
كنت أفكر في كتابة هذا الحلم في نهاية هذا البحث. لكن محللة نفسانية اقترحت عليّ أن يكون أول فقرة فيه.
مدخل
“في القرن الـ 20، على فقهاء الإسلام أن ينجزوا مهمة أخرى: عليهم تقليد العمل الذي أنجزته أوربا في القرن الـ 19، بفضل اللاهوت العلمي، ليرفعوا بذلك مستوى الفكر الديني، لجعله متفقاً مع المعرفة التاريخية”.
(المستشرق المجري جولد زيهير)
*****
هدف هذا البحث، القصير، كبير: انتزاع نبي الإسلام من التخاريف وإعادته إلى التاريخ.
عبر القرون، تكونت لنبي الإسلام 3 صور: صورة الرسول المبلغ الأمين لرسالة الله عبر جبريل؛ صورة المفتري، الذي يدعي النبوة، التي حصرتها التوراة في ذرية اسحاق، والحال أنه من ذرية إسماعيل، إذن هو طريد منها؛ صورة الزعيم الماكر الذي أراد الرئاسة وجمع المال؛وهذا ما لخصه المعري:
أفيقوا، أفيقوا يا غُواة فإنما / ديانتكم مكر من القدماء
أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا / وماتوا وبادت سنة اللؤماء
هذه الصور التقليدية الثلاث لمحمد مغلوطة، وأحد أهدافي من هذا البحث هو تصحيحها، على ضوء المعارف النفسية، لتقديم صورته الحقيقية، التي تجعله لا يختلف عن جميع أسلافة وأخلافه من الأنبياء، من أنبياء معبد عشتار، في القرن 7 ق.م.، إلى أنبياء ساحل العاج وافريقيا وأمريكا اللاتينية، في القرن العشرين، مروراً بأنبياء إسرائيل. فهم يشتركون جميعاً في كثير من الخصائص النفسية والأعراض السريرية الأساسية خاصة: “هذيان النبوة”، كما يسميه الطب النفسي.
الذهنية العتيقة، ذهنية التقديس الساذج لنبي الإسلام، السائدة إلى اليوم ،لم تعد ملائمة للذهنية الحديثة النقدية.التقبل الأعمى لكل ما ترويه السيرة من معجزات محمد، ينبغي أن يُخلّي مكانه للإرتياب،للبحث والتنقيب؛ لإكتشاق أن التصديق بهذه المأثورات هو من تأثير الإنبهار الأعمى بها، واستقالة الفكر النقدي أمامها، اللذين يُلغيان كل مسافة نقدية منها. حتى المؤمنون يليق بهم منذ اليوم أن يجددوا أُسس إيمانهم؛الباحث المؤمن عليه أن يفصل بين الباحث والمؤمن فيه. كي لا يطغى الثاني على الأول. هذا الفصل الضروري متواتر جداً عند الباحثين اليهود والمسيحيين المؤمنين، فضلاً عن باحثي الأديان غير التوحيدية. فلماذا يبقى الإسلام متخلفاً عن الأديان الأخرى في هذا المجال؟
لماذا؟ فتش عن العلمانية، التي تغلغلت في الوعي الجمعي حتى للمؤمنين بهذه الأديان، التي أصلحت وكيفت مع متطلبات الحياة والعقل؛لذلك لم يعد يشعر المؤمنون بها، بأنها تتنافى مع عقائدهم الدينية الإنتقائية. قلما يتبنى المثقف، وحتى المتعلم منهم، دينه ككل، ككتلة صماء. بل ينتقي منه ما يلائمه. إنه هو الذي يملك دينه، ويتصرف فيه تصرف المالك في ملكه. في الإسلام، الذي لم يُصلح بعد، العكس!
لهذه الغاية نزّلت بحثي عن محمد التاريخ، من الزاوية النفسية، في مناخ الحقبة التي نعيش. من عقاب الذات الآثم، أن نتقاعس عن دراسة محمد بالمعارف العلمية المتاحة اليوم ،مثلما دُرس أنبياء اليهودية والمسيحية، مثلاً ولازالوا يُدرسون بها. كل بحث جدي، يستمد شرعيته من روح الحقبة وممارساتها وكشوفاتها المعرفية. فلماذا يبقى نبي الإسلام مغبوناً بين الأنبياء؟ لا يحتل إلا مكاناً ثانوياً جداً في الدراسات العلمية، وتقريباً لا شيء في الدراسات النفسية!
استشهدت في: “إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان”، بكتاب أستاذ تاريخ الأديان المقارن بالكوليج دو فرانس، طوماس كرومور في كتابه: “موسى الذي عرفه يهوه وجهاً لوجه”، بأن موسى، مؤسس اليهودية، الذي جاء ذكره في القرآن 136 مرة، شخصية رمزية. كتب كرومير: “قصة ميلاد موسى تشبه عن قرب قصة ميلاد الملك الأسطوري الآشوري، سارجون. الإثنان لا يعرفان أبيهما؛ أمهاتهما أخفتهما أول الأمر ثم ألقتهما في نهر. الإثنان وضعا في صندوق طُلي بالقار. كلاهما عثر عليهما وتبناهما فاعلا خير. هذا التبني شرعن ملكية سارجون وأدخل موسى إلى بلاط فرعون (…) قصة سارجون كتبت على أكثر تقدير في القرن 8 ق. م. تاريخ موسى الأول لا يمكن إذن أن يكون متقدماً عن هذه الحقبة. بالمثل، أصدر البابا، بنوا 16 ،سنة 2007 كتابه “يسوع الناصري”، استعار فيه من الإخصائيين في “مسيح التاريخ” بعض العناصر، اللواتي كفرهم الفاتيكان في القرن الـ 19 بسببها، مثل أن المسيح، لم يلقب نفسه في حياته بـ”المسيح”، اي الممسوح بالزيت المقدس بما هو “المشيح” العبري، أو المهدي المنتظر، الذي بشرت به التوراة؛ ولم يسمي نفسه”سينور”، أي السيد أو الرب؛ ولم يقل أنه”ابن الله”. هذه العناصر القليلة من مسيح التاريخ تقوض اللاهوت الكاثوليكي القرووسطي من أساسه. فكيف سيكون الحال، لو أن بابا آخر يذهب في الشجاعة شوطاً أبعد، متبنياً جميع حقائق البحث عن مسيح التاريخ، من نفي الحبل بلا دنس، والولادة العذرية إلى القيامة؟ صحيح، أن البابا بنوا 16، وقّع كتابه باسمه كأستاذ جامعي باحث، جوزيف راستينجر، ولم يوقعه باسمه كبابا، حتى لا يتحول إلى وثيقة رسمية ملزمة لجميع الكاثوليك. لكن ذلك مجرد احتياط بروتوكولي، لا يغير من جوهر اعترافه. فهل سيتشجع شيخ الأزهر يوماً، ويعترف ببعض عناصر محمد التاريخ، كما هم في هذا الكتاب؟ ربما. ولكن ربما ليس غداً.
من أهداف هذا البحث أيضاً، سد هذا الفراغ الذي أعاق حتى الآن نزع الأسطرة عن النبي الوحيد، محمد، الذي لا شك في وجوده كشخصية تاريخية، عكساً لكبار الأنبياء السابقين، الذين بدأ يتضح أكثر فأكثر، عبر البحث التاريخي والأركيولوجي، منذ كتاب فرويد: موسى والتوحيد، أن بعضهم على الأقل شخصيات رمزية أكثر مما هم شخصيات تاريخية.
ماذا عسى أن تقدم علوم الأديان الحديثة عن محمد؟
رحلة البحث عن محمد التاريخ تهدف إلى العثور، وراء محمد الإفتراضي، كما تقدمه السيرة، على محمد الحقيقي بمقاييس علوم الأديان المعاصرة. طبعاً الرحلة ليست سهلة وليست مأمونة. لكن لا بديل عنها، للعثور على محمد كما عاش في التاريخ، أو على الأقل ـ في بعض جوانبه ـ كما كان يمكن أن يعيش، في مكة والمدينة من سنة 570(؟) إلى 632.
أحياناً تقدم علوم الأديان، عن الأديان ومؤسسيها، حججاً مقنعة، وأحياناً أخرى تقدم لنا فقط شبكة من المؤشرات المتضافرة لترجيح فرضية على أخرى؛ وفي كلا الحالين لا غنى عنها. عدم استخدامها يجعل الباحثين في كل واد يهيمون ويهرفون بما لا يعرفون، مثلما هي الحال اليوم، كثيراً وغالباً، في الكتابات عن فجر الإسلام ونبي الإسلام، التي يكثر تفصيلها ويقل تحصيلها.
لماذا فكرت في كتابة هذا البحث عن محمد؟
لأسباب عدة منها مثلاً ، أن ما سأكتبته عنه لم يكتب من قبل على حد علمي، بل لم أقرأ شيئاً عن نبي آخر كُتب عنه بها؛ وأيضاً لأن أمة حية هي امة متعطشة لمعرفة الماضي، ولتحويل الحاضر، لإعطاء معنى للمستقبل. ومنها أيضاً أن فرضيات وحقائق هذا البحث، تركتها أعواما تنضج في رأسي، قبل إقتراحها على الجمهور عشية رحيلي؛ عسى أن تكون خير هدية وداع.
وأيضاً لكسر محرم غليظ: هو هذا الإجماع المريب والمخيف حول شخصية محمد، التي لا يجوز مقاربتها نقدياً، حتى همساً. تماماً كما كان البدائيون يعتبرون الـ”فيتيش”، أو الصنم، هو إلاههم المتجسد الذي لا يرقى إليه الهمس؛ ويحكمون بالموت على كل من يدنسه، بكلمة أو بفعل يشكك في قداسته. كذلك فعل ـ وللأسف مازالوا يفعلون ـ المسلمون بـ”صنميهما” نبي الإسلام وقرآنه، اللذين تنعقد أمامهما الألسن وتنشلّ العقول. هذا البحث هو نداء ملح للنقاش والتفكير فيهما معاً، بعلوم الحداثة. هذا الفعل التاريخي كفيل بفتح الإسلام على حضارة عصره، وأخيراً دمجه فيها، إنهاءاً لمنزلته الهامشية الحالية. لن نخرج من هذه المصيدة، إلا إذا تشجعنا ففتحنا ورشة للتفكير في محمد والقرآن، لكسر تحريم النقاش الحر والمتعارض فيهما. من دون ذلك سنبقى ندور حول أنفسنا،كبغل الطاحون المعصوب العينين، يدور حول نفسه وهو يظن انه يتقدم. وحده، هذا النقاش كفيل بأن يقودنا إلى تشخيص دقيق وعميق لأمراض الإسلام. التشخيص للمرض هو نصف العلاج.
معرفة شخصية محمد النفسية، على ضوء العلوم المعاصرة خاصة علوم النفس، يخدم هذه الغاية: جعْل القرآن لأول مرة قابلاً للفهم فهماً علمياً أي بما هو، في جزء منه، أعراض للأمراض النفسية، التي كابدها نبي الإسلام من المهد إلى اللحد. والحال أنه اليوم بالطلاسم أشبه. هذا وحده كاف ليعطي مبرراً لهذا البحث.
السعادة هي أيضاً لذة الإكتشاف، الذي يتجلى في شعور المرء، بأنه بعد بحث طويل قد وضع قدميه على الطريق، ورفع قليلاً الستار عن شخصية محمد النفسية، التي ظلت حتى الآن لغُزاً. هذا الاكتشاف قد يساهم في تغيير، لا فهم نبي الإسلام، ولا فهم القرآن والحديث، ولا حتى فهم الإسلام بما هو دين. بل قد يساهم أيضاً في تغيير الذهنية الإسلامية الخرافية السائدة، لدفعها إلى مزيد من التعقل، بل والعقلانية الدينية. هذه العقلانية هي نموذج التدين الوحيد الملائم للقرن الـ 21 ،الذي بات نفوراً من اللامعقول ،خاصة الهاذي، مثل اللامعقول الديني. هذه العقلانية ضرورية لفهم مؤسس الإسلام ونصه المؤسس. هذا الفهم العلمي هو الذي يُنير الطريق أمام الممارسة المعقولة ويمهد لظهور العقلانية الدينية، التي لا تقبل من الدين كل ما يتعارض مع قيم الحداثة الكونية، وحقائق العالم الذي نعيش فيه؛ ويسمح أيضاً للمسلم بأن ينظر إلى نصه المؤسس بشكل مختلف؛ وربما أدّى كل ذلك أخيراً ،مع عوامل أخرى تربوية، اقتصادية وسياسية واجتماعية، إلى تهميش التعصب الديني المستشري اليوم في المجتمعات الإسلامية، إستشراء السرطان في الجسد.
ولماذا أكتب هذا البحث؟
للقطيعة مع التفسير العامي، أي تفسير عامة المؤمنين، بمن فيهم قطاع من النخب التقليدية أو ذات الذهنية التقليدية، للنبوة لإدخال التفسير العلمي، الطبي النفسي، لها. مفهوم النبوة العامي بما هو”صوت من الغيب”، حامل لحقائق عابرة للتاريخ، أي صالحة لكل زمان ومكان، لا يستطيع العقل البشري إلا التقيّد بها وإلا ضاع وأضاع! اما مفهوم النبوة العلمي، الطبي النفسي، فهو أن النبوة هي هذيان التأثير، أي هذيانات وهلاووس صادرة عن دماغ بشري مستوجب للعلاج. علماً بأن الشفاء من هذيان النبوة هو اليوم نسبياً في المتناول، خاصة إذا كان في بداية المرض.
هذا الفهم العامي للنبوة ترسخ في وعي، لا جمهور المسلمين فقط، بل وحتى في وعي قطاع واسع من النخب المسلمة. فشكّل، عند الجميع عائقاً دينياً وابستمولوجي مازالا يعيقان الانتقال من الفهم العامي إلى الفهم العلمي للنبوة. يقول فيلسوف العلوم ومؤرخها باشلار: “على الكيميائي [العلمي] أن يحارب في داخله الخيميائي [السحري] ليتغلب على العائق الابستمولوجي”، كذلك على الباحث المسلم أن يحارب في داخله المسلم المؤمن، إيمان العجائز، ليتغلب على العائق الديني، الذي يعيقه عن الوصول إلى التفسير العلمي للظاهرة الدينية، أو على الأقل إلى التسليم به. هذا التفسير العلمي للنبوة سيساعد، إذا عممه التعليم والإعلام والخطاب الديني المستنير، على ترشيد الخطاب الديني، بتنقيته من الهذيان الديني، الذي جعل المسلم غارقاً حتى أذنيه في الفكر السحري، ومنتهكاً صفيقاً لمواثيق حقوق الإنسان؛ وتنقيته من المعجزات والخوارق والقضاء والقدر”المكتوب”، ومن الشريعة وحدودها الدموية والجهاد بما هو”قتل مقدس”، وكل ما يتحدى قوانين العقل وقوانين الطبيعة وقيم حقوق الإنسان الكونية، أي الصالحة لجميع الأمم، لأن الحق في الحياة وفي السلامة الجسدية وفي الحرية وفي الكرامة… حق مقدس لا تفريط فيه لكل إنسان.
تأخّر العالم الإسلامي التاريخي، يعود في جزء أساسي منه، إلى هذا الهذيان الديني، الذي غذّى على مر القرون التواكل [فاتاليزم] الاجتماعي والإرهاب الديني ـ السياسي. معيقاً هكذا الوعي الجمعي الإسلامي، بما فيه وعي قطاع من النخب، عن تبني العقلانية في العلوم والقيم، والبرجماتية في الاقتصاد والسياسة. العقلانية والبرجماتية هما اليوم رافعتا التقدم، والاندماج الضروري في العالم الذي نعيش فيه.
أبتغي من هذا البحث، في أرض بكر، فتح منظورات جديدة قد تساعد، من الزاوية النفسية، على فهم ظاهرة النبوة عامة ونبوة محمد خاصة. كما أبتغي أيضاً انقاذ محمد التاريخ من شانئيه، حقداً دينياً أو ايديولوجي عليه، ومن عابديه، طمعاً في شفاعته لهم يوم الحساب. إنقاذ محمد التاريخ من محمد الإيمان، بخطاب معرفي عن محمد، من خلال تحليل القرآن بعلوم النفس بما هو وثيقة طبية، وسيرة ذاتية ووثيقة تاريخية ذات مصداقية عالية.
أتوقع من تقدّم العلوم النفسية، في تشخيص الأمراض العقلية، أن يساعد باحثي الغد، على التمييز شبه الكامل للسيرة الحقيقية لنبي الإسلام، من السيرة التخييلية، التي نسجتها له رغبات المؤمنين وتخييلاتهم الجامحة، الميالة للإرتفاع بالأسلاف إلى مرتبة المثال، بل إلى مصاف الكائنات الفوق ـ طبيعية.لأن ذلك يرضي نرجسيتهم الجمعية الدينية، ويعطيهم خاصة تعويضاً وعزاء عن الذات الفردية والجمعية، المنطرحة أرضاً، منذ سقطوا في الإنحطاط، الذي بدأت بعض البلدان رحلة الخروج منه، مثل تركيا الكمالية، منذ إلغاء الخلافة في 1923، وتونس البورقيبية، منذ إصدار مجلة الأحوال الشخصية في 1956، التي حررت المرأة من رق قانون الأحوال الشخصية الشرعي، كبداية جدية على طريق إصلاح الإسلام.
“كيف ترقى رقيّك الأنبياء / يا سماء ما طوالتها سماء”
(البوصيري)؛
أو
“ولد الهدى فالكائنات ضياء / وفم الزمان الزمان تبسم وثناء
(أحمد شوقي).
وهكذا فالرواية التي تقدمها السيرة، التي يلخصها هذان البيتان أفضل تلخيص، هي في مجملها ميتاتاريخ. الميتاتاريخ تخضع التاريخ لحتمية لا تاريخية، أي للتدخل الرباني في التاريخ، هذا التدخل الإلهي الذي يرفع الأسلاف إلى مصاف الأبطال، إلى أنصاف آلهة، منزهين عن الوقوع في الخطأ والخطيئة. وهذا ما فعلوه بمحمد من المهد إلى اللحد، بل منذ أن كان جنيناً في رحم أمه! هذه الرواية ارتفعت به، من شرطه البشري، إلى مقام المختارين، الذين رصدتهم الأقدار لتحمّل رسالة النبوة، حتى قبل أن يعلن هو نفسه نبياً. فهي إذن أبعد ما تكون عن التاريخ، أي الوقائع التي وقعت فعلاً أو كان يمكن منطقياً ان تقع.
محمد ليس إستثناء لشخصيات تاريخية أخرى؛ بوذا أيضا، كان في بدايته شخصية تاريخية. لكن الميتاتاريخ، التي تتطلبها دائماً النرجسية الجمعية، سرعان ما حولته إلى شخصية أسطورية: عُلوقه في رحم أمه وحمله كانا بمعجزة. وولادته كانت عذرية. كما سيكون علوق وحمل وولادة عيسى بعده بـ 650 عاما! يبدو أن الأسطرة هي قدر كثير من الشخصيات التاريخية، خاصة الأنبياء.
مراجعي، العلمية والدينية، لهذا البحث مبثوثة في ثناياه. لكن المرجع الأول هو القرآن، في قراءة غير مسبوقة، بما هو سيرة ذاتية لنبي الإسلام. وقد استخدمته أيضاً كوثيقة طبية لتشخيص هذياناته وهلوساته وحالاته النفسية. القرآن هو لاشعور محمد، وهو ايضا ضميره الأخلاقي القاسي والخاصي. لا شعور العصابي مغطى بمحدلة الكبت، لذلك يحتاج محلله النفساني إلى أحلامه، لفكّ شفرتها، للوصول عبرها إلى مكونات ومكنون شخصيته النفسية. أما لا شعور الذهاني وضميره الأخلاقي فهما عاريان لا يحتاجان لفك أي رموز مستعصية.
القرآن هو لا شعور محمد، بكل متشابهاته، والتباساته وتناقضاته الوجدانية، وتقلبه من النقيض إلى النقيض، من التسيير إلى التخيير، من الضمير الأخلاقي الجائر في مكة، إلى الضمير الأخلاقي الغائب في المدينة. من نبي وشاعر في مكة إلى مشرع ومحارب في المدينة. لا نستطيع الدخول إلى أدغال الشخصية النفسية المحمدية إلا عبر 6236 آية.
رحلة شاقة وممتعة في آن. الممتع فيها على نحو خاص، هو لذة الإكتشاف. كشف الغطاء عن جذور مآسي حاضرنا في أحافير ماضينا، في طوايا وخبايا تراثنا، في 6236 آية وآلاف الأحاديث “الصحيحة”، تراثنا الذي لم نتشجع حتى الآن على تصفية الحساب معه؛ لم نقطع معه حبل السرة، هذه القطيعه التي هي رمز التحرر من عوائقه الدينية.
كما لا يستطيع الفرد أن يصبح فرداً إلا إذا قطع حبل السرة مع عائلته، المشتقة من عال يعول، أي جار وبغى، وهذا بالنسبة إلي تجربة معاشة، دشنتها بهجرتي من تونس في 10/01/1961، هجرتي التي كانت تاريخ ميلادي الثاني؛ كذلك لا تستطيع أمة أن تصبح أمة حديثة إلا إذا قطعت حبل السرة مع ماضيها المكبّل لإبداعها، وهذا في حالة الأمم الإسلامية حقيقة تفقأ العيون!
من خلال القرآن، بإمكان كل باحث جدير بهذا الاسم، أن يزيح ركام الخرافات، التى راكمتها السيرة والمتكلمون والمفسرون، رداً على نصارى بلاد الشام، منذ القرن 8، الذين عقّدوهم بالسؤال المحرج: كيف يكون محمد نبياً وهو بلا معجزات؟ رداً عصابياً على هذا الإحراج، اختلقوا أطناناً من المعجزات والخوارق، بدأت منذ كان محمد جنيناً في رحم آمنة الوثنية: بل وحتى قبل خلق العالم “أخذ الله قبضة من نوره وقال لها كوني محمد” كما يقول حديث؛ ويوم ميلاده تزلزل عرش كسرى وقيصر و”طلع نجم أحمد”، كبشارة على أن نبياً جديداً قد وُلد؛ ونسبوا لأمه، آمنة، أنها قالت: “(…) لإبني هذا لشأن (…): حملت به، فما حملت حملاً قط أخف منه، فرأيت في النوم، حين حملت به، كانه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام. ثم وقع حين ولدتُه وقوعاً ما يقعه المولود: معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء(…)”(1). هذيان مستوفى الشروط !
نبي الإسلام لم يتردد في التصريح بأن أمه وأباه وكل أعضاء عائلته، الذين لم يؤمنوا به، في النار. فكيف يكونون قد اكتشفوا باكراً نبوته، أو على الأقل بركته، ومع ذلك فضلوا الكفر على الإيمان والنار على الجنة؟
القرآن وثيقة طبية صادقة عن نفسية نبي الإسلام، أشبه ما يكون باعترافات روسو، كشف فيه حتى لحظات شكوكه المتكررة في إيمانه برسالته، وعن ضيق صدره بالقرآن: “فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك، وضائق به صدرك”(12 هود)؛ بل وحتى نيته في “افتراء “قرآن آخر، على غرار الآيات الشيطانية، طمعاً في استرضاء مثقفي مكة، الذين طالما أحرجوه بسؤال المعجزة، عسى ان يستريح من شقاء العزلة النفسية، التي لا تلطف وقعها الأليم على نفسه الجريحة إلا الهلاووس؛ إذ أن وظيفة الهلاووس هي تطمين المهلوس لتخفيف عزلته وقلقه. لذلك يكون انقطاعها، أي انقطاع الوحي، مصدر شقاء ما بعده شقاء له. إذ تتركه وجهاً لوجه مع عذابه النفسي، ومع العنف النفسي، الذي كان يكابده يومياً، بسبب استهزاء قريش به، كما سجل ذلك بنفسه في القرآن: “إذا رأوك، إن يتخذونك إلا هزوءاً: أهذا الذي بعث الله رسولاً؟”(41 الفرقان)،: “فأغروا به سفهاءهم فكذبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون(…)[ذات مرة] أقبل [محمد] يمشي (…) فلما مر بهم طائفاً بالبيت غمزوه[=عيّروه] ببعض القول. فعرفت [=الراوي] ذلك في وجه رسول الله (ص)”(2).
وهذا ما يعطي اليوم القرآن مصداقية الوثيقة التي لا شك فيها، والصالحة لتكون مرجعاً لمعرفة ما مر به نبي الإسلام من حالات نفسية غالباً مريرة؛ واستهزائهم بأصحابه، الذي ولا شك أثّر في معنوياتهم وأصابهم بالحزن والخوف: “إن الذين أجرموا، كانوا من الذين آمنوا يضحكون؛ وإذا مروا بهم يتغامزون؛ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين؛ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون.”(29،30،31،32،المطففين)؛ أو: “وأذكروا إذ أنتم قليل مسضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس(…)”(26 الأنفال).
القرآن وثيقة تاريخية أيضاً ذات مصداقية عالية؛ فمن بين، مصاحف جامع صنعاء، التي أكتشفت في 1972، إثر تهدم سقف الجامع، عُثر على نسخة تعود إلى سنة 65 هجرية، لا تختلف عن نسخة عثمان المتداولة اليوم. وما يقال عن أن جمع عثمان للقرآن لم يكن نهائياً، بل جمعه بعده عبد الملك، وراجعه للمرة الأخيرة المهدي العباسي، هي فرضية ضعيفة. توجد احتمالية جدية في أن يكون عبد الملك قد جمع المصاحف المتداولة في خلافته،لكن لا ليعيد كتابتها،ولكن لينقطها ويشكلها، نظرأ إلى أن نصر بن حجاج قد اضاف، بأمر من الحجاج، التنقيط والتشكيل، اللذين لم يكونا موجودين في النسخة الأصلية. اما أن يكون المهدي قد راجعة للمرة الأخيرة،فهذا لا تشهد له مخطوطة 65 هجرية. طبعاً توجد شكوك واحتمالات قوية في أن يكون عثمان، الذي حاول تزوير آية”والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله”(34،التوبة)بحذف الواو العاطفة، لولا عتراض أُبي بن كعب، حسب رواية السيوطي في تفسيره،قد تلاعب بحذف ما لا يروق له من المصاحف، التي أحرقها، مثل مصحف أبي نفسه، ومصحف ابن مسعود، ومصحف علي ومصحف ابن عباس.يبدو أن عثمان لم يدخل في الإسلام اقتناعاً به؛أحد مؤشرات ذلك هو تخلفه،بلا عذر، عن أول غزوة مجهولة العواقب: بدر. بل دخل حباً في رقية، بنت محمد التي تزوجها. مصحف ابن عباس، بشهادة الطبري، عند تفسير آية نكاح المتعة: “فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة”(24 النساء)، يقدم رواية أخرى مختلفة للآية، تبيح نكاح المتعة، أي الدعارة الشرعية، التي كانت شائعة في المعابد الوثنية في بابل وآشور وأثينا والهند وفي مكة نفسها. فالكعبة كانت ماخوراً(انظر كتاب الأصنام للكلبي).
يؤكد الطبري أن الآية في مصحف ابن عباس هي”فما استمتعتم به منهن ـ إلى أجل مسمى ـ فأتوهن أجورهن فريضة”؛ لكن الطبري يضيف: لا نستطيع العمل بهذه الآية، لأن مصحف اين عباس لم يصلنا. طبعاً لآن عثمان أحرقه. يروي الطبري عن الإمام علي، الذي قال آسفاً: “لولا أن عمر نهى عنه [= نكاح المتعة] ما زنى إلا شقي”. وبإختصار، يبدو أن قرار، عمر نسخ آية نكاح المتعة، في خلافته، قد تبناه عثمان. بالرغم من كل شيء، سواء بزيادة بعض الآيات أو حذف البعض، يبقى القرآن إذن سيرة ذاتية لمحمد ووثيقة طبية ووثيقة تاريخية ذات مصداقية عالية.
أتمنى أن يساهم هذا البحث في وضع اللبنات الأولى، لتدارك النقص الفادح في دراسة شخصية نبي الإسلام النفسية من جميع جوانبها، ولتحليل النبوة تحليلاً طبياً نفسياً. طبعاً فهم النبوة علميا، ليس مضاداً لفهم المؤمنين لها على طريقتهم الخاصة، شرط عدم السقوط في التعصب والعنف الشرعي، والنكوص إلى اللّامعقول الديني المعادي للمجتمع، مثل عداء المرأة، وغير المسلم، وتكفير العقل والعلم، الذي تجاوزته البشرية المتحضرة منذ زمن بعيد: هكذا يصبح محمد التاريخ، أو القريب من الحقيقة التاريخية، في متناول أجيالنا الصاعدة، التي يفيدها كثيراً أن تعرف تاريخها على حقيقته، لتتعامل معه بالعلم، لا بالفانتازم. ليكون لها ينبوعاً لمعرفة تاريخها وتاريخ تشكّل وعيها الجمعي، وليس مجرد ملاذ بائس من بؤس حاضرها وانسداد آفاق مستقبلها. وكما قال الزهاوي:
أإذا كان حاضرنا شقياً / نسود لكون ماضينا سعيدا؟
لأول مرة، على الأقل من الزاوية النفسية، ستكون بين أيدي الباحثين محاولة علمية تحمل نظرة نقدية محايدة للموضوع المدروس، في موضوع بالغ الحساسية مثل نبي الإسلام. وهكذا يمكن أن تقدم للقارئ والباحث قدراً أكبر من المعطيات، ومن المعرفة الموضوعية، بعيداً عن القدح والمدح؛ الموتور دينياً أو فكروياً من محمد والمؤمن، إيمان العجائز الساذج به، لا يريان فيه إلا ما يريدان أن يريا، قبل أي فحص موضوعي: “وعين الرضا عن عيب كليلة / كما أن عين السخط تبدي المساويا”. الأول لا يرى فيه إلا القائد العسكري أو رجل الدولة الماكر، الذي أراد توحيد عرب شبه الجزيرة في دولة عربية، تدين لها الأعراب “وتدفع لها العجم الجزية”، كما يقول حديث موضوع على الأرجح؛ والثاني، المؤمن، لا يرى فيه إلا “الإنسان الكامل”، الذي أعدته العناية الإلهية، لختم النبوة و لتبليغ آخر الرسالات التوحيدية، التي صححت ـ وفي رواية أكثر تطرفاً نرجسياً ـ نسخت الرسالات التوحيدية السابقة لها، أي رمت جميع الأديان، التوحيدية والوثنية، إلى مزبلة التاريخ!
العائق الإبستمولوجي الأول، الذي سأحاول عدم الوقوع فيه هو ادعاء الموضوعية الصارمة، الإدعاء بأن البحث في سيرة محمد موضوعي، لا ظل فيه للتحيز الذاتي اللاشعوري على الأقل، كاذب. الموضوعية غير متحققة بالكامل حتى في العلوم الطبيعية. أما في العلوم الإنسانية فهي صعبة المنال، خاصة في موضوع شائك كالدين. لكن مخاطر التحيز غير القصدي، مهما كانت جدية، لا ينبغي أن تُصيب العقل بالشلل، فيستقيل من مهمة الحفر والبحث الشاقة، مع الاضطلاع بإمكانية الخطأ. ذلك سيكون جريمة في حق المعرفة وفي حق البشرية، المعنية بترشيد الإسلام، عبر تنقيته من ثقافة العنف والتعصب والكراهية؛ وإدخال البشرية كافة فيه. ليس بالتبشير السلمي، فهذا حق من حقوق الإنسان، بل بجهاد الطلب، أي فتح العالم كله لأسلمته!
كل شمعة تضاء في ليل الثقافة العربية، تفتح نافذة فُرص أمام أجيال الغد، التي لها علينا حق أن نترك لها معالم، تساعدها على فهم تاريخها الديني والسياسي، عسى أن يساعدها ذلك على العيش في بلدان تطيب فيها الحياة. النقيض المباشر لهذه البلدان، التي تكتوي فيها اليوم أجيالنا بنار التعصب الديني والفوضى الخلاقة للفوضى الدامية، وفتاوى القتل، أو الإيعاز به.
قارئان سيتأكدان من هذه النظرة، المحايدة لمحمد التاريخ: القارئ الخبير والقارئ النابه. وإليهما كتبت هذا البحث، الذي كشف عن جوانب من الحقيقة: حقيقة نبي الإسلام؛ عسى أن يساعدهما على المضي قُدماً لكشف جوانب أخرى من حقيقة أوسع وأعمق برسم الاكتشاف، سواء في شخصية نبي الإسلام أو في شخصيات خلفائه الراشدين، وخاصة عمر. الذي هو المؤسس الحقيقي للإسلام، مثلما كان بولص هو المؤسس الحقيقي للمسيحية. عمر نشر الإسلام، خارج شبه الجزيرة العربية، بالسيف. أما بولص فقد نشر المسيحية، خارج فلسطين، ببناء الكنائس.
كلمة حق لابد منها في حق المستشرقين، لتفنيد التشنيع بهم الشائع لدى مثقفي الإسلام التقليدي وأقصى اليمين الإسلامي، ورثاء الانغلاق الديني الحنبلي، الذي حرّم منذ 8 قرون تدريس “العلوم اليونانية الدخيلة” عن القرآن والسنة، بما هما شرطان ضروريان وكافيان لفوز المسلم بالسعادة في الدارين! في نظرهم، المستشرقون هم ورثاء “العلوم الدخيلة” المعاصرة، التي يعتبرها أقصى اليمين التقليدي والإسلامي علوماً دخيلة، بل هي في نظره أشد خطراً على الإسلام من العلوم الدخيلة القديمة. المستشرقون عندهم، هم طابور خامس في حرب “الغزو الفكري” على الإسلام. والحال أن المستشرق يقدم خدمة جليلة بدراسته القرآن وصاحب القرآن، على ضوء العلوم الحديثة، خاصة الفيلولوجيا [= علم تاريخي موضوعه دراسة معرفة الحضارات الماضية عبر الوثائق المكتوبة، التي تركتها وقد دُرس بها العهد القديم]،بعيداً عن الهم الجدالي القديم.
وقد ارتكب إدوارد سعيد خطأ تاريخياً فادحاً وربما مغرضاً، عندما اعتبر المستشرقين، عدا قلة منهم جاك بيرك، طابوراً خامساً لجيوش الفتوحات الاستعمارية، مقدماً بذلك خدمة مجانية لأقصى اليمين الإسلامي، الحساس، حتى الرهاب، لمقاربة تاريخ الإسلام بالعلوم الحديثة، التي يحرمها ويجرمها.
الطريقة التاريخية النقدية الإستشراقية، هي التي درسوا بها تراثهم وبعض تراث الإسلام في القرن الـ19 ،والتي أنتجت لاهوت يهودياً ـ مسيحياً مستنيراً .
كان المستشرقون يعملون على ظهور لاهوت إسلامي مستنير، على صورة اللاهوت اليهودي ـ المسيحي المستنير، يرفع من مستوى الفكر الديني الإسلامي، ليتطابق مع معارف العصر العقلانية والعلمية؛ كانوا يطمحون لمساعدة المثقفين المسلمين، على الانتهاء من طريقة التقريض العقيمة، التي يكتب بها المؤمنون للمؤمنين، والتي كانت غالبية المثقفين المسلمين ـ وإلى حد كبير مازالوا ـ يقاربون بها تراثنا الديني بمنطق: ليس في الإمكان أبدع مما كان!
الطريقة الإستشراقية التاريخية النقدية، أثرت في النخب الثقافية العربية والإسلامية في القرن الـ 20 ، الذين حاولوا، بنجاح متفاوت، انتاج لاهوت إسلامي مستنير ورؤية لتاريخ الإسلام مختلفة عن الرؤية التقريضية التقليدية العقيمة؛ مثلاً طبق طه حسين، باحتشام أحياناً، هذه الطريقة التاريخية النقدية خاصة في كتابيه: في الشعر الجاهلي والفتنة الكبرى؛ وطبقها منصور فهمي في رسالته الجامعية عن المرأة: “أحوال المرأة في الإسلام”؛ وطبقها أحمد أمين في ثلاثيته: فجر ، وظهر، وضحى الإسلام؛ وطبقها الدوري في دراساته عن تاريخ الإسلام وفي كتابه “علم التاريخ”(3)؛ وطبقها لويس عوض في إسهاماته المتعددة وخاصة كتابه “فقه اللغة” الذي منعه الأزهر، وكتابه عن الأساطير الشعبية الهلالية؛ وطبقها هشام جعيط: في الفتنة الكبرى…
ستكون ترجمة ما كتبه المستشرقون، وما قد يكتبونه عن القرآن وعن محمد وعن الإسلام إسهاماً أساسياً، في فهم القرآن ومحمد والإسلام فهماً تاريخياً، يقطع مع التمجيد الورع (بكسر الراء) السائد في الكتابة، عن هذه الموضوعات، اليوم، والذي يكثر غثّه ويقل سمينه.
لولا أمثال نولدكه، وبلاشير، واط، رودينسون، لكي أكتفي بأشهر الكلاسكيين، لبقي القرآن ونبيه لُغزاً. بالرغم من أنه مازالت توجد 3 كتب، بالألمانية عن محمد تعود إلى القرن 19، لم تترجم بعد؛ لولا الدراسات السياسية والسسيولوجية، الغربية المعاصرة، لظاهرة الإسلام السياسي، وخاصة لأقصى يمينه، لما استطاعت غالبية النخب، في ارض الإسلام ، مقاربة الظاهرة وتحليلها. تحليلات أمثال جيل كيبال وجان بييار فيليو، وغيرهما من الخبراء الأوربيين والأنجلو سكسانيين، تشكل مصدراً ثميناً لفهم الظاهرة الإسلاموية في كثير من جوانبها. والحال أن بعض ما كتب عنها بالعربية لا يستحق حتى عناء القراءة.
وكيف ننسى عشرات الأسماء الأخرى، التي ألقت إضاءات علمية ثمينة على الإسلام وتاريخه وشخصياته؛ وفضلاً عن ذلك كوّنوا أجيالاً من الجامعيين المستنيرين في ارض الإسلام. من هؤلاء المعلمين الكبار أذكر، عفو الخاطر، جولد زيهير، الذي حلل تفاسير القرآن بالمفاهيم العلمية الحديثة، وبلاشير، الذي قدم أول ـ وللآسف ـ آخر ترجمة فيلولوجية للقرآن، وماسنيون، أهم وأول من عرّف الإسلام الصوفي بكتابه “صلب الحلاج”، فضلاً عن اضاءاته الأخرى التي سلطها على الفن الإسلامي والمنطق الإسلامي والنحو العربي؛ وجيب، قد يكون أول من أكتشف عجز المثقف العربي عن الكتابة بالمفاهيم العقلانية، الوحيدة المنتجة للعقلانية الفلسفية والعلمية وللأخلاق النفعية. لكنه فسر ذلك بخاصية الفكر السامي التذريري، أي العاجز عن السانتاز. لكنه في نظري عائد بالأحرى إلى تأثير القرآن الذي يغيب فيه الرابط المنطقي بين السور والآيات. فضلاً عن رمزية الله، الفعال لما يريد،كيف يريد ومتى يريد. سلاحه الوحيد هو الفكر السحري: “إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون”(82 ياسن)، أي إرغام الواقع على إعطاء نتائج مخالفة لقوانينه. هذا المناخ الديني مضاد للتطور العلمي؛ وآدم ميتز، الذي حلل في كتابه “الإمبراطورية العربية”، كيف أعاق الاستهلاك الترفي التبذيري للخلفاء مراكمة رأس المال وظهور اقتصاد منتج، وهنري كوربان، الذي حلل الفكر الشيعي على ضوء العلوم الحديثة، ولاووست، الذي قدم بتحليله لابن تيمية نموذجاً للدراسة الحديثة للشخصيات الإسلامية وكلود كاهان، الذي كان أول من حلل الأزمة المالية التي أدت إلى سقوط الخلافة الأموية، ولوي جارودي، الذي فسر كيف أن الفلاسفة العرب كانوا متكلمين، أكثر مما كانوا فلاسفة، والصديق جاك برك، الذي، فضلاً عن إسهاماته الثمينة الأخرى، قدم أول ترجمة أدبية للقرآن، مع مقدمة تحليلية، تقريضية إلى حد ما، إذ رأى في ورود فعل “يعقل”40 مرة في القرآن دليلاً على حثه على استخدام العقل، وتناسى مجاملة على الأرجح، كل الفكر الغيبي والسحري المبثوث في معظم آياته. لكنه قدّم في مدخله التحليلي ملاحظات فقهية وسسيولوجية وتاريخية مهمة؛ (4) وشوراكي، الذي قدم ترجمة طريفة للقرآن أعادت مصطلحاته الدينية إلى أصلها التوراتي، وفان إس، الذي نفضَ نقدياً الغبار على مكاسب العقلانية الاعتزالية وثغراتها، وبرنارد لويس، الذي قدم مقاربة نقدية ثرية للإسلام والناطقين المعاصرين باسمه، جدير بكل مسلم، ناضج لتقبل النقد بصدر رحب وممارسة النقد الذاتي بشجاعة، أن يستفيد منها للإفلات من مصيدة النرجسية الدينية المنغلقة على نفسها، والتي أدخلت الإسلام في الانحطاط، والتي مازالت تلحق بصورة الإسلام، في مرآة الرأي العام العالمي، وبمصالح المسلمين أذى بليغاً.
هدف هذا البحث ليس مسح طاولة الماضي لكتابة تاريخ بِكر. فعل صبياني! الحضارة مسار تراكمي ثقافي مديد.بدأ منذ بدأ أجدادنا القرود، بعد أن انتصبوا على ارجلهم، محررين هكذا قوائمهم الأمامية ومحولينها إلى أيدي، ستتفرغ شيئاً فشيئاً إلى العمل اليدوي، إلى نحت الصوان. ونعرف من تاريخ التطور ان العمل اليدوي والفكر الرمزي[=الفكر السحري، ثم الفكر الأسطوري ثم الفكر الديني]، هما اللذين حولا القرد إلى إنسان. منذ بدأ يصنع أدوات الصوان إلى أن انتهى، على مسار التطور اللانهائي، إلى صنع الكمبيوتر. الطور الأخير من تطور القرد إلى بشر بدأ، يوم شرع القرد ـ البشر يعبد موتاه، أي يدفنهم تحضيراً لإنتقالهم إلى عالم آخر، كما تؤكد الإنثروبولوجيا.
مطلوبي، من استعادة نبي الإسلام من الأسطورة إلى التاريخ، هو تدشين تصورات جديدة لتاريخ الإسلام، تحرر عقولنا ومخيلاتنا من الرق النفسي لأساطير الماضي، بتحليلها علمياً، لفهمها بما هي أساطير مؤسسة، جديرة بالاحترام الواجب للأساطير المؤسسة، ولكن ليست حقائق تاريخية أو أوامر ونواهي إلاهية؛ إذا إلتزمنا بها، رغم تناقضها مع متطلبات عصرنا، فزنا في الدارين، أو على الأقل في الدار الآخرة، وإذا خالفناها، لأن حقائق العالم الذي نعيش فيه تفرض ذلك، بؤنا بالخسران المبين في الدارين، أو على الأقل في الدار الآخرة، التي هي خير وأبقى: أما الدار الدنيا “فمتاع الغرور”!
من حق “المسلم الحزين”، كما سماه حسين أحمد أمين، أن يُنهي حداده طامحاً، كمعظم معاصريه، في أن يكون سعيداً هنا والآن؛ وأن يتصرف بحرية في جسده لتحريره من ملكية الله ـ ألم يفتى[للتذكير لا أجزم بلم لحاجة العربية إلى الحروف الصوتية الفقيرة فيها] الشيخ الشعراوي بحرمة نقل الكلى من شخص إلى آخر، لأن جسده ليس ملكاً له بل ملك لله؟ وملكية ظلال الله على الأرض: العائلة والمجتمع التقليديين والدولة الدينية؛ وأن يعترف له هذا الثالوث المخيف بحقه في تقرير مصيره في حياته اليومية، وبجميع حقوقه التي اعترفت له بها وثائق حقوق الإنسان؛ وبحقه في انتقاء ما شاء من دينه وطرح ما لا يرضيه منه؛ وبحقه في تعليم ينمّي فكره النقدي ويعلمه التجديد العلمي والتكنولوجي، الذي لا مستقبل لأمة معاصرة من دونه، بصرف النظر عن محرمات دينه المتقادمة.
احترام الماضي؟ نعم. لكن شرط ألا يكون عائقاً لبناء الحاضر وتحضير المستقبل؛ التراث يجب أن نجعل منه، كما تتطلب منا الحداثة وعلومها، رأس مال رمزي برسم البحث والاكتشاف. نتأوّله تأويلات شتى تخدم حاضرنا بتكييفها مع العقلانية الدينية، وننسخ منه كل ما يشكل عائقاً، دينياً أو ذهنياً، يمنعنا من أن نكون معاصرين لمعاصرينا، لا أن نحوله إلى قيد على عقولنا، أي إلى عقيدة جامدة يحكم بها الأموات من وراء قبورهم حياة الأحياء،كما تريد القراءة الحرفية له!
يجب، مرة وإلى الأبد، أن نكّف عن كوننا كائنات تراثية لنصبح، من الآن فصاعداً، كائنات لها تراث، تحررت من رقه النفسي، فغدت قادرة على دراسته و تدريسه بعلوم عصرها لتعرفه على حقيقته التاريخية، وتتعرّف خاصة على استمرارية عوائقه الدينية والذهنية في ممارستنا الدينية والدنيوية. هذه الممارسات التي جعلتنا، لا أفراداً مبدعين لأنماط حياتنا، بل قروداً مقلدين لأسلافنا، منبتّين من حاضرنا وصماً وعمياناً عن مستقبلنا هنا والآن، الذي يجب أن نضحي به على مذبح مستقبلنا بعد الموت! كأنما كُتب على المسلمين وحدهم، أن يدخلوا الجنة جياعاً وجهلة وأميين، لأنهم أساساً مازالوا يتناسلون كالأرانب؛ مثلاً مصر تضاعف سكانها 4 مرات في 60 عاماً بدلاً من 4 مرات كل قرنين، وتضاعف معهم، بذات النسبة، الأمية، والمرض والفقر وسوء التعليم والجنوح والإرهاب وسوء صناعة القرار…
نكابد، وستكابد الأجيال التي لم تُولد بعد هذه الكوارث، لأن آية قرآنية تحرم علينا وعليهم، اعتماداً على القراءة الحرفية العقيمة لها، تحديد النسل: “ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق”(23 الإسراء). منع الحمل أو التخلص منه بالوسائل العلمية، لا علاقة له بوأد البنات أو بقتل الأطفال خشية الفقر!
عندما قرر جمال عبد الناصر في بداية الستينات، في لحظة صحوة وعي نادرة، تحديد النسل، تقليداً للحبيب بورقيبة على الأرجح، الذي حدده منذ 1961.تصدى له شيخ الأزهر، شلتوت، بسلاح ضارب: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقكم وإياهم “! وهكذا طُويت صفحة إصلاح ديموغرافي مهم وملح معاً تتجرع مصر اليوم عواقبه الوخيمة!
نحن اليوم وجهاً لوجه أمام مشاكل مستقبلنا. فإما أن نحجب وجوهنا حتى لا ترى المخاطر الماثلة أمامنا. وإما أن نتشجع ونسمي هذه المخاطر بأسمائها، عسى أن نجد حلولاً لهن. بعد وقوفنا أماهن عاجزين طوال قرنين. لأننا جبنا أمام فتح ورشة نقاشهن الحر والمتعارض. لماذا؟ لأن السؤال في ثقافتنا الدينية محرم. لماذا أيضاً؟ لأننا تعودنا على مر القرون مهادنة الواقع بدلاً من مجابهته، ومجاملة الجمهور بدلاً من مصادمته لتوعيته وتنويره، والمحافظة على استمرارية الماضي بدلاً من القطيعة معه. دفعتنا البارانويا الجمعية، إلى اتهام “المؤامرات”الخارجية بالمسؤولية عن جبننا، عن صناعة قرار شجاع، سياسي، اقتصادي وديني؛ يكشف لنا أن مآسينا منا وإلينا، ولا أحد مسؤول عنها سوانا: وكما قال المتنبي:
نعيب زماننا والعيب فينا / وما لزماننا عيب سوانا!
حسبنا الآن أن نفتح ورشة نقاش هذه المآسي في المدرسة، في الجامعة، في الجامع وفي جميع منابر الإعلام… عسى أن نصل أخيراً إلى قرار صحي: يجعل من كل شيء علماً وتكنولوجيا، ومؤسسات ديمقراطية وقيماً إنسانية بدلاً “من كل شيء دين” السائد اليوم! الإسلام يحتاج إلى إصلاحات استراتيجية وليس إلى نصف إصلاح؛ يحتاج إلى ثورة ثقافية برسم التدشين: تخرج المسلمين من انحطاطهم الأخلاقي، المتجسد في تطبيق الحدود الشرعية الدموية، أو المطالبة بتطبيقها، تجعلهم يتبنون القيم الأساسية لحقوق الإنسان، والقانون الوضعي المشتق منها، وتخرج المسلمين من انحطاطهم الاقتصادي، وتدخلهم إلى الحضارة الصناع