العلاج بالقرآن لا يعود للتأثير السحري أو الماورائي للفظ هذا الأخير بقدر ما يعود إلى التأثير السيكلوجي له على المريض المؤمن بقدراته السحرية .وهذا ذات ما قد يحدث للمسيحي المريض عند قراءة القسيس لتعاويذ على رأسه . بمعنى أن المسالة لا علاقة لها كما أشرت بالمضمون السحري للفظ أو القدرة الماورائية له على العلاج بقدر ما هي نتاج الإعتقاد المُتوهّم بالمضمون السحري للفظ
يحلو للكثيرين من المؤمنيين بالقدرات السحرية العلاجية للقران الإستدلال بالأثر العلاجي المثبت علميا للموسيقى ، حيث يخلصون إلى أن للكلمات أو الإشارات السمعية قدرات ما ورائية أو سحرية على خلق العلاج وبالتالي و حسب إستنتاجهم يخلصون إلى أن من الممكن تبرير القدرة السحرية للفظ القران على العلاج طالما أن للموسيقى علميا ذات القدرة ،و بالطبع بنظري هؤلاء غير موفقين في الإستدلال من جانبين :
أولا : هم بذلك يجردون القران من قدسيته وتفرده عندما يزعمون أنه يعمل بذات ميكانيزم الموسيقى العلاجي ، ذلك الميكانيزم الذي لا يعبر عن قدرات سحرية أو ما ورائية على العلاج إطلاقا ، وإنما الموسيقى تقوم بشكل مادي أو عصبي بالعلاج ، وهذا ما يقودنا إلى
ثانيا : الموسيقى في علاجها لبعض المرضى لا تمارس سحرا أو أمرا خارقا للطبيعة ، هي بإختصار شديد تقوم على تحفيز ردود أفعال المريض على كافة المستويات. وتقوم على الإتصال بالشخص في سياق تجربة التلقي العصبي للموسيقى و تحفيزالجهازالعصبي المركزي للمساعدة في التحسين السلوكي والمعرفي طويل المدى في الأشخاص الذين يعانون من إختلالات عصبية – بيولوجية ، حيث نلحظ فعالية للموسيقى وأثر واضح في تنشيط إفراز مجموعة من المواد الطبيعية ،التي تتشابه في تركيببها مع المورفين، وهي ماتسمى ب الاندورفينات ومعلوم أن الألم والمتعة والانفعال،وكثيراً من الأمراض لها اتصال بعمل الأندورفينات، والتي إتضح أن الموسيقى تساعد مساعدة جبارةعلى زيادة إفرازها، وبالتالي على علاج الجسم وشفاءه من الأمراض .
فالإعتقاد بقدرة القرآن ـ ألفاظ القرآن ـ على العلاج هو أعتقاد أسطوري قائم على خلل في تصور اللغة ذاتها ، وهذا ما نلمحه في غير الإعتقاد بقدرة لفظ القرآن على الإتيان بأمور خارقة متعددة ، حيث في حياتنا الإجتماعية نجد الناس يخشون من ذكر إسم السرطان فيقولون عنه ( الخبيث ) ، ونجد الموشكين على الإفتراق يختمون حديثهم بالشهادتين حيث يقول الأول : لا إله إلاّ الله ويُكمل الثاني محمد رسول الله ، ناهيك عن أساطير مثل التمائم والحجاب والإيمان بالسحر والعين والحسد ، وسنجد أنّ كلّ تلك الممارسات تستمد مرجعيتها من مفهوم القوة السحرية للغة الناتج عن قدرة اللفظ منطوقاً أومكتوباً لاعلى إستحضارالمعنى في الذهن فقط ،بل على إستحضار الشئ أومنعه على حد تعبير الدكتور نصر حامد أبو زيد .
والحقيقة فإنّ اللغة في علاقتها مع العالم الخارجي كما ذكر المعتزلة هي علاقة مواضعة وإصطلاح وإتفاق وليست علاقة ضرورة كما ذهب لذلك الأشاعرة حيث قالوا إنّ العلاقة بين اللفظ ومعناه علاقة ذاتية جوهرية حسب ما جاء في مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ، فلفظ (ضرب ) لا علاقة له بالحدث الذي بالخارج على نحو ضروري ، فالفعل تمّ حتى ولو لم يصطلح الناس على تسميته بلفظ ( الضرب ) ، أي إنّ اللفظ في المحصلة النهائية مجرد صوت سمعي أو رمز كتابي، وهو بلا معنى إذا لم يكن هنالك دلالة إتفاقية عليه .
العالم السويسري ديسوسيرفي كتابه ( محاضرات في علم اللغة ) ضاغ على نحو ممتاز علاقة اللغة بالواقع الخارجي مستبدلاً كلمة ( لفظ ) بكلمة ( دال ) وكلمة ( معنى ) بكلمة ( مدلول ) حيث إعتبرهما يمثلان جانبي العلامة اللغوية حيث ( اللفظ / الدال ) لا يُعبِّر عن الواقع الخارجي على سبيل المطابقة ، بل يُحيل إلى مفهوم ذهني ( مدلول ) ، فتصورنا للخارج محكوم بإكراهات وقصور حواسنا المُتلقِّية لهُ والتي لا يُشترط أن تنقل الواقع الخارجي إلى أذهاننا بذات النحو الموجود عليه بالحقيقة ، وحتى ( اللفظ / الدال ) ليس هو الصوت الملفوظ أو الرمز المكتوب ، بل هو الصورة السمعية أو بالأدق الأثر النفسي الذي تنقلهُ لنا حواسنا .
إذاً هذا التصور للعالم السوسيري ديسوسير وضع حداً نهائياً لمزاعم سحرية اللغة أو القدرة الخارقة للفظ ، قرآني أو غيره ، فعلاقة اللغة متواضعة جداً بالعالم الخارجي ناهيك عن أن تؤتَى لها القدرة السحرية على تغيير قوانينه ، فاللغة ليست تعبيراً مباشراً عن الواقع إطلاقاً .
ولأوضِّح المسألة على نحو آخر سأنقل هذا المثال الذي أوردته الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه ( التفكير في زمن الكفير ) في سياق مناقشته لتاريخانية القرآن : جملة مات الخليفة الأوّل أبوبكرالصديق، هي جملة تشير إلى واقعة حدثت خارج اللغة، لكن النظر للجملة من خلال قوانيين اللغة يكشف عدم التماثل، الجملة تقول أنّ هنالك فعلاً ( مات ) ، وتقول أنّ الفاعل هو أبوبكر، وهذا ليس صحيحاً على مستوى الواقعة الخارجية،فالخليفة رحمه الله لم يفعل موته،هذه ملاحظة أولى،الملاحظة الثانية أنّ ( الفاعل ) نحوياً هي كلمة ( الخليفة ) وهي تمثل في الواقع الخارجي ( وصفاً ) للشخص وليس الشخص ( الفاعل ) .
التعامل مع لفظ القرآن بوصفه لا يُعطي مفاهيم معرفية بل ويأتي بقدرات سحرية لا يقتصر على المشائخ الذين يدّعون القدرة على العلاج به فحسب ، بل وينسحب على دعاة الإسلام السياسي الذين ينظرون إلى القرآن كترياق سحري صالح لكلِّ زمان ومكان لمعالجة مشاكل المجتمعات السياسية والإجتماعية والإقتصادية بإلفاظه السحرية وكلماته التي لها قدرة خارقة على صياغة الدساتير والنظريات المختلفة ، وفي نهاية الأمر هي رؤية ساذجة قد نجد مبرِّراً لبعض الشيوخ الذين يتبنونها بإعتبار أنّ حصاد تعليمهم شهادة من خلوة أو معهد ديني ، لكن من الصعب أن نجد مبرّراً لخريجي الجامعات الأوروبية أمثال الكوادر القيادية في الحركات الإسلامية التي تُصدِّع رؤوسنا بشعارات ( القرآن دستورنا ) و ( الحل السحري هو الإسلام ) … الخ التي تتبنى مثل تلك الرؤية الأسطورية للفظ القرآن .
هي إذاً دعوة على أحسن الفروض ، أي لو أحسنّا الظّن بالداعين إليها ، تعكس جهل وموروث من بقايا الأساطير القديمة التي كانت تتعامل مع الرموز والألفاظ بخشية وخوف وتعتقد بقدراتها السحرية ، وعلى أسوء الفروض محاولة للمحافظة على مصالح ومواقع إمتياز لا تؤتَى لأصحابها لو أُغلقت هذه الأبواب في وجوههم فهي بمثابة قطعٍ لأرزاقهم وإنتهاكاً لسلطاتهم وتعديٍ على رأس مالهم الرمزي .