القاصر السوري ذو السبعة عشر عاما الذي قتل امرأة ألمانية في الثانية والثمانين من عمرها كانت تساعده كقادم جديد أثار موجة امتعاض كبيرة في ألمانيا وبدا مستغربا كيف لمراهق أن يقتل امرأة في هذه السن رغم مساعدتها له وقد أرجع ذلك المشهد الذاكرة إلى حادثة القاصرين السوريين الذين أحرقو مشردا ألمانيا بائسا في محطة للقطارات بالأمس القريب .
القضية تحتاج إلى دراسة سيكولوجية واسعة لنفسية الأجيال التي نمت مراهقتها في سنوات الحرب هذه حيث تشكل لدينا جيل ممسوخ بكل ما تحمل الكلمة من معان ودلالات .
جيل تربى في عهد تكوينه الشخصي على مشاهد القتل والذبح والقصف والبتر والسرقة واللصوصية و الكره والأحقاد الدينية والطائفية و عدم قبول الآخر والفراغ الذي أحدثه غياب الدولة و استغلال مختلف الجماعات لهذه العقول عبر حشوها بأفكار مسمومة كانت نتيجتها هذا الجيل المتهالك المستعد لإرتكاب أفظع الجرائم أقلها مخالفة القوانين اليومية في الشارع والمواصلات وأكثرها جرائم القتل البشعة وإحراق البشر والممتلكات العامة دون مراعاة لحرمة أو شعور بالذنب .
حقيقة تزداد هذه المعادلة سوءا مع هؤلاء القاصرين في أوروبا و لكي نكون أكثر قربا من المشكلة يجب توضيح الأسباب بدقة شديدة ومعرفة مآلات هذه القضية والحلول إن أمكن ولعل أهم الأسباب تتلخص فيما يلي :
الحرية بعد القيد الشديد
إن هذه الأجيال كانت تعيش في ظل حكومات أو ميليشيات مستبدة شديدة القسوة في التعامل معهم سواء من كان يعيش في ظل النظام السوري أو في ظل كتائب المعارضة التي فاقت النظام أحيانا في التعامل القاسي الذي وصل حد فرض عقوبات على التدخين أو حلق اللحية وكل الأمور الشخصية التي تتعلق بالإنسان ثم رأى المقموع نفسه فجأة في بلد الحريات لينفلت ويخرج كل كبته الذي اختزنه في سنوات الإستبداد مع عدم وجود برنامج أوروبي جاد للتعامل مع هذه الشعوب التي أتت من مناطق الحروب والنزاعات بما حملوه من مشاكل نفسية وعقد وأمراض .
الأفكار الدينية المسمومة .
لا شك أن الجماعات المتطرفة استغلت الفراغ الحاصل بعد الثورة فهبت سريعا لحشو الأدمغة من الأجيال الصاعدة بأفكار تتناسب وايديولوجيتها الجهادية لخلق أكبر عدد من الحاملين لأفكارها التي تقوم أساسا على مبدأ إلغاء الآخر وتأسيس فكرة دين الله المختار أو حتى مذهب الله المختار والفئة الناجية التي فضلها الله على باقي الطوائف وجعل مكانها الجنة وأقصى باقي الفئات والمذاهب والأديان والشعوب والكفار إلى جهنم وبئس المسار حسب مفهومها .
الواقع الدموي اليومي
إن المراهق السوري نشأ ما بين واقع من الموت اليومي سواء كان يعيش في الداخل حيث يصبح جزءا من هذا الواقع ويرى بعينيه القتل والقصف والموت أو يراه عبر الفضائيات والفيديوهات على مواقع التواصل الإجتماعي وبالتالي فقد أصبحت مشاهد الذبح والنحر والبتر خبزه اليومي ما خلق منه شخصية عنيفة غير سوية مستعدة لفعل الإجرام في أي وقت وقد أثبتت الكثير من الدراسات الأمريكية أن مجرد مشاهدة الأطفال والمراهقين لألعاب الفيديو العنيفة تولد لديهم شخصية عنيفة وأن هذا من أسباب انتشار حوادث إطلاق المراهقين الرصاص على زملائهم في المدارس الأمريكية فما بالك إن كانت هذه المشاهد تتعدى مشاهد ألعاب الفيديو وتصبح حالة معاشة لواقع يومي يتكرر منذ سنوات .
الإحساس بالخذلان الدولي
يقنع السوريون أنفسهم بأن العالم تخلى عنهم ولم يقدم حلا حقيقيا لهم بل كان له الدور الأبرز لتزكية هذا الصراع وحماية النظام وعدم القدرة على محاسبته رغم ما ارتكبه من فظاعات من قصف بالكيماوي وبالبراميل المتفجرة وتعذيب حتى الموت بحق المعتقلين على مرأى ومسمع العالم الذي لم تقدم هيئاته الرسمية أي حل يوقف هذه الإنتهاكات ما ولد ردة فعل متشنجة لدى الأجيال الصاعدة تجاه العالم أجمع والذي أحس بأنه المسؤول المباشر عن كل شيئ فبات يتصرف مع العالم بنفس اللامبالاة ومحاولة إيذائه بطريقة ما حتى مع الذين لا ذنب لهم فيما حصل له وهو يدخل تحت خانة التعميم بما أن القاصر ليست لديه الحكمة الكافية لحلحلة الأمور وفق منظور منطقي بل يتصرف بمنطق ردة الفعل حتى لو كان انتقاما ممن لا ذنب له .
توقف التعليم
نظرا لظروف الحرب فقد توقف التعليم في أنحاء كثيرة من البلاد ومع النزوح والإنتقال من دولة إلى أخرى أصبحنا أمام أجيال ضيعت أهم سنين عمرها تائهة دون تعليم وهي السنين التي تتشكل فيها شخصية الإنسان وبالتالي فقد أصبحت دون قدوة ودون مثل أعلى وأصبحت تتلقى ثقافتها من وسائل التواصل الإجتماعي التي تعج بالغث والسمين ومرتعا لسموم الأفكار ومشاهد العنف والتخريب والتدمير .
القضية تتعدى قضية حروب وقتل ومدن دمرت بل إن الآثار النفسية لهذه الحروب المتداخلة التي لا يعرف فيها العدو من الصديق تبدو أشد وطأة من حجر تدمر أو إنسان مات فالنتيجة أننا أمام جيل ممسوخ يحمل كل عقد الدنيا وأمراضها وكان من المفروض أن تكون هذه الأجيال هي التي ستحمل راية الأمل و المستقبل لهذه الشعوب .
الحلول .
قد لا تبدو الحلول معقدة من حيث الفكرة ولكنها تحتاج إرادة وإيمانا بعمق المشكلة فالمسؤولية تقع على عاتق الدول المستضيفة التي يجب عليها إنشاء مراكز متخصصة للتعامل مع القاصرين حصرا يتواجد فيها اختصاصيون نفسيون وخبراء اجتماعيون ومتخصصو إعادة التأهيل ومن ناحية أخرى هناك مسؤولية على السوريين أنفسهم من الأجيال الأكبر سنا عبر إنشاء منظمات مجتمع مدني تعنى بشؤون القاصرين والمتضررين النفسيين من هذه الحرب لخلق جيل أكثر وعيا ومؤهلا للتعامل مستقبلا مع المستجدات في بلاده أو حتى البلد المستضيف ولا ننسى هنا دور الإصلاح الديني الملقى على عاتق المؤسسات الدينية لنزع الأفكار الدينية المشوهة والعنيفة التي علقت في أذهان المراهقين في سنوات الحرب حتى لا نكون أمام أجيال ممسوخة وقنابل موقوتة قد تلجأ في أحسن الأحوال إلى المخدرات وفي أسوء الأحوال إلى القتل والتخريب .