الإنفتاح في الكنيسة يختلف تماماً عن الإنفتاح في المجتمع.إنه إنفتاح القلب قبل كل شيء.و مفتاح القلب هو محبة الكل.و مفتاح المحبة هو الإرتباط الحقيقي بالمسيح مع سلام النفس و وداعة الروح.
إن جيلنا مميز ببركات متعددة.فهو الجيل الذي عايش ثلاثة آباء بطاركة يستخدمهم روح الله لترميم الثغرات في العمل الرعوى.بالحياة التبتلية و الإرتباط بالفكر السماوي كما في عصر قداسة البابا كيرلس.و بالتعليم الغزير و تنوير العقل الروحي كما في عصر قداسة البابا شنودة و الآن في عهد قداسة البابا تاوضروس جاء فكر الإنفتاح علي الجميع ليكسب الجميع للمسيح.و ربح النفوس يلزمه مهارة الروح القدس و إستجابة الفكر الروحي الذي يقود الكنيسة.
إنغلاق و إنشقاق
و الكلام عن الفكر المنفتح في الكنيسة هو كلام جديد علينا .فكنيستنا طوال تاريخها كانت بسبب الغزو الإسلامي تواجه حرب بقاء و ليس إنتشار.و حين تتعرض أي كنيسة للإفناء يكون تركيز الخدمة فيها علي بقاء الإيمان و صموده و يعين الروح القدس الكنيسة و يحصنها ضد الفناء لكن مثل تلك الظروف لا تسمح للكنيسة بأداء أدوار خارجية سواء كرازية أو تنويرية أو مسكونية.و أمامنا كنيسة العراق و سوريا حالياً نموذجاً لتلك الحالة.فلا لوم علي كنيستنا لتقصيرها في شأن الكرازة و التبشير لكن اللوم أن نبقي مرتكنين لهذه العوائق التاريخية..
لم تكن الظروف التي واجهتها الكنيسة المصرية شراً خالصاً لأن هذا التقوقع الذي فرض علي الكنيسة كان من زاوية أخري حماية إلهية للإيمان من كثرة الإنشقاقات التي حدثت في القرون الوسطي للكنائس المنفتحة علي العالم.هذه الإنشقاقات التي أفرزت الصورة الحالية للإيمان في العالم الغربي.لذلك تلاحظ أن العالم الشرقي ليس فيه نفس هذا المستوي أو الكم من الإنشقاقات كالتي في الكنائس الغربية و ذلك بسبب إنعزال الكنائس الشرقية عن الظروف التي واجهتها بقية كنائس الغرب منذ القرن الخامس الميلادي .
نحن لا نلوم كنائس الغرب لما وصلوا إليه كما لا نلوم كنيستنا فيما قصرت فيه لأن الرب إستخدم الغرب بإنشقاقاته في إنتشار الإيمان و إستخدم الشرق بإنغلاقه في ثبات الإيمان و نقاوته و لا يعنى هذا أن إيماننا هو الكامل و لا يعني أن إيمان الكنائس الغربية هو الكامل لكن لسنا هنا في معرض تفنيد العقائد أو الجدل الذي لا يبنى وحدة بين الكنائس.و أقول وحدة بين الكنائس و ليس وحدة الكنائس و الفرق عظيم. فالوحدة بين الكنائس هو خلق نقاط مشتركة و الإنطلاق منها إلي مستويات أعظم في الوحدة.فالبداية هي نقاط وحدة بين الكنائس و الهدف الأسمي هو وحدة الكنائس الكاملة كجسد واحد للمسيح.
إذن علينا أن ننظر لبعضنا البعض كأعضاء مكملين في الجسد الواحد.لأننا بدون أخوتنا من جميع الطوائف التي تؤمن بالمسيح و لاهوته لن نصبح جسد كامل للمسيح.
الكنيسة تنفتح كلها و تنغلق كلها.
لا تستطيع سفينة أن تبحر إن لم يكن لها ميناء وصول تستخدم كل أدواتها و طاقتها لتصل إليه.لا يمكن أن تسمح للقوى المتناقضة أن تقودها إن عزمت الوصول إلي الإتحاد المنشود. و هذه أصعب خطوة في إنفتاح الكنيسة.أن تضبط البوصلة علي إتجاه الوحدة و اْن توحد الجهود لتصب جميعها في نفس الإتجاه.و لو تحققت وحدة الرأي و القلب و الهدف فإن الأعاجيب سوف تصحب المؤمنين ليلاً و نهاراً حتي تكون الآيات هي القاعدة و ليست الإستثناء تماماً كما عاش الشعب في البرية تحت رعاية الرب بالسحابة و العمود و بإستخدام موسي النبي كراع حين كانت الرؤيا للجميع دون أن يظن أحد أنه يعيش مشهداً سماوياً فوق الطبيعة .حين كان الخبز النازل من السماء يومياً أمراً معتاداً يكاد لا يلفت نظر الشعب لعظمة الأعجوبة.هكذا ستكون كنيسة المسيح إن إستطاعت بمعونة الروح القدس أن تنصهر في فكر واحد رأى واحد و قلب واحد.
الكنيسة تنفتح ككل.ليس البابا وحده المطالب بالإنفتاح و لا الآباء الأساقفة وحدهم أو الكهنة هم المسئولين.الإنفتاح علي الجميع مهمة الجميع خداماً و شعباً .قيادة و مسئولين علي جميع المستويات .لن يمكن للبابا وحده أن يفعل شيئاً إلا إذا خضنا معه خطوة بخطوة فكر الإنفتاح الذي يحصننا فيه الروح القدس فلا نتهاون في الإيمان بل نتفهم محبة الرب و عمله في الجميع ونخضع لضرورة التقارب بين الكل. ليس تهاوناً في أرثوذكسيتنا بل نقبل الحوار علي كل المستويات ليس في القمة وحدها.ساعتها لو قادتنا المحبة المخلصة في هذا الحوار سنصل بغير شك إلي تقارب أفضل و تعايش أكثر قرباً من وصايا الإنجيل الحى.
خطوات الإنفتاح في الكنيسة الإرثوذكسية
1- نبدأ برفض الفكر السلبي الذي يسلب منا محبة الأخوة.مثل فكر رفض الآخر و الحكم المسبق عليه.فالحوار بين الكنائس يثمر محبة و تقارب و تفاهم مشترك ما كان سيوجد لولا أننا سمعنا بعضنا البعض. كل التفاهمات التي نجحت بدأت بسماع بعضنا البعض بقلب ممتلئ محبة.فنحن لا نجري حوار في الإيمانيات بمنطق من يكسب و من يخسر و لا بمنطق من يملك الحقيقة وحده بل بحكمة الروح القدس و الإنجيل بمحبة خالصة للمسيح و لبعضنا البعض.لهذا فالكف عن رفض الآخر هو الخطوة البدائية للتقارب.و عندى ثقة شخصية أن الإستماع للآخرين بقلب منفتح سيقود كثيرين لقبول ما يرفضه الآن من تفسيرات و عقيدة ليس عن إضرار بل عن إقتناع و محبة.القلب و الفكر المنفتح سيعالج جروح ما كان يصح أن تكون بين الأحباء. رفض الآخر يتوقف حين تتوقف الأحكام المسبقة.ليس في المسيحية تكفير. و لا أتكلم هنا عن من لا يؤمن بالثالوث وبالمسيح كلمة الله المتجسد فهذا قال الكتاب عنه أن من لا يؤمن به يدن .
– أما المسيح الحلو له المجد فإنه لم يعط أحداً سلطة إستبعاد الآخر( من السماء) مهما تذرع بآيات و أقوال.فالرب وحده قابل الزناة و اللصوص الذين طلبوه وهم و نحن سارقوا ملكوت محبته. هو صاحب الحق فيمن يدخل ملكوته.بهذا الفكر نستطيع أن نخطو خطوة صغيرة للغاية في مجال إعادة أواصر المحبة و تنقية الفكر العام للكل.
– للشعب القبطي عذراً في تنشئته علي رفض الطوائف لسبب تاريخي و ليس مسيحي. بعض التعليم الذي إنتشر في القرن التاسع عشر و منتصف القرن العشرين قدم صورة مغالطة عن الطوائف جعل الرأي العام يكرهها لأنه مزج بينها وبين المستعمر الذي إحتلنا في ذاك الوقت , و لكراهيتنا للمستعمر صرنا نكره الطوائف وقتئذ, و لم يفصل تعليم البعض في ذلك الوقت بين الرأي السياسي في الطوائف و الرأي المسيحي في الطوائف.
ليس هذا الأمر جديد .فيونان النبي بدافع من الحس الوطني رفض في بادئ الأمر أن ينادي علي نينوى عاصمة المملكة الأشورية التي دمرت إسرائيل قبل ذلك بثمانين سنة. لكن الله عالج الأمر و أعاد يونان إلي الفكر الروحى الذي به ربح يونان و ربح الرب شعباً لم يكن يعرف شماله من يمينه.فالسماء لا تدار بالوطنية التي يختلف فيها الناس بل بالروح القدس. إن كل الطوائف في مصر مصرية خالصة.و جميعها أرثوذكسية الأصل .لا توجد في مصر عائلة كلها طائفية بل توجد عائلات مشتركة العقائد.فنحن هنا نتكلم عن عائلة المسيح الواحدة.
– هذا التأصيل مهم جداً لتفسير خوفنا من بعضنا البعض و ريبتنا التي بها ننظر لبعضنا البعض.نحن نحتاج إلي البدء من منطلق مسيحي للتقارب كأخوة في مسيح واحد. لتتظر لبعضنا البعض من خلال المسيح .كمؤمنين بإنجيل واحد .و من هذه الأرضية نتعامل و بالمحبة نتغير و نتفاهم و نتواصل حتي يجذبنا الروح القدس إلي إيمان الكنيسة الأولي غير المنقسمة.نعم مختلفون لكن غير متضادين.إنه تعدد بغير عداوة. ليتنا نرفض الصورة السياسية التي قدمتها الدولة عن الطوائف و نعود لتعليم الإنجيل الذي يعط حكمة التعامل مع المختلفين .و بالحب ننصح بعضنا البعض و يتسع صدرنا لإحتمال الخلاف دون تكفير أو تخوين.
2- من الرائع أن تبحث الكنائس في حواراتها نقاط الخلاف لتتقارب.لكن ما المانع أيضاً أن تتفق علي صلوات مشتركة تضع لها نصوصاً (لا تتعارض مع العقيدة) لصنع أرضية مشتركة من التعليم.مثلاً ماذا لو وحدنا صلاة الجناز… و في هذا ستفرد مقالاً مستقلاً سيرد علي كثير من المخاوف من توحيد صلاة الجناز.
ستكون صلاة الجناز (مثلاً) نموذج لصلاة ليس عليها خلاف يصليها الجميع في كل مكان و تشترك فيها الكنائس معاً حيث أن معظم الشعب الآن يختلط في عائلاته أفراداً من طوائف متعددة و يحضر الصلاة خداماً و كهنة من طوائف متعددة فلو إتفقنا علي نص مشترك يضعه قادة الكنائس نكون قد صنعنا أرضية مشتركة إيجابية تسهم في التخلص من رواسب تاريخية سلبية كثيرة. و ليجمعنا الموت إن لم تجمعنا الحياة.
3-البحث الأكاديمي القبطي يمر بمحنة شديدة.فلا يوجد بمصر معاهد أكاديمية بالمعني العلمي.بل يوجد مدارس تقليدية تلقينية تخرج لنا شخصيات قادرة علي حفظ المعلومات دون بحثها أو تأصيلها أو توثيقها.و كل محاولات الإصلاح لمعاهدنا القبطية كانت معتمدة علي وجهات نظر فردية تعيش و تموت مع الشخص الذي تبناها.
إن تبنى سياسة إحياء البحث الأكاديمي القبطي هو أحد روافد الإنفتاح.فهو الذي سيصنع كوادر مؤهلة لتصحيح كل ما يلزم في تراثنا و تعليمنا وطقوسنا و أيضاً تعليم الكنائس الأخري التي تحترم البحوث العلمية و تأخذ بها.فلنبدأ في كنيستنا بالبعثات العلمية و نضع لكل مبعوث مهمة خاصة ينفذها للكنيسة داخل خطة جامعة. حتي حين يعود هؤلاء يكونون للكنيسة اللبنة الأولي في تأسيس معهد قبطي عالمي بالمعايير العلمية.أما أن يبقي التعليم اسيراً للتلقين (و الكلام هنا ليس عن التقليد) فإننا بذلك نفقد القدرة علي التواصل مع الآخرين و نضيف لغير القادرين علي الإنفتاح أجيالاً و أجيالا.
4- حيث لم تعد مجامع مسكونية بعد فإن المجامع المسكونية في عصرنا هذا ستصبح شعبية.. و هي حالة صحية كانت سائدة وقت إتحاد الكنائس في القرون الأربعة الأولي .فعندما عقد مجمع نيقية يصف القديس إغريغوريوس اللاهوتي(329-389) مدينة نيقية قائلاً :المدينة ملأى بالمناقشات في الساحات العامة كما في الأسواق.عند تقاطع الطرق و في الأزقة الفرعية بياعو العتيق ( أي الروبابيكيا) و الصيارفة و البقالون الكل يتناقشون في حماس فلو طلبت من أحد أن يصرف لك مالاً تراه يتفلسف حول المولود و غير المولود (الرأيين في ولادة المسيح هل هو مولود أم مخلوق) و لو أردت أن تعرف سعر الرغيف سيقول لك أن -الآب أعظم من الإبن- (كان هذا رأي آريوس و أتباعه) و لو سألت هل حمامي جاهز سيجيبك الخادم بأن الإبن مخلوق من العدم (تابع لبدعة آريوس).كان هذا ما يحدث في مجامع البسطاء بجوار مجمع نيقية.
و إنتشار المعلومات و إنفتاح التواصل سيجعل المجامع الحقيقية هي التي بين البسطاء و الشعب و أما الحوارات الرسمية فهي بالتأكيد ستتأثر بهذا التواصل مع ترشيده قدر الإمكان.لذلك لنصنع في تعليم أطفالنا و فتياننا فكراً قادراً علي الحوار.ليس مهاجماً لغيره بل متصلاً به لكي نضمن للمجامع الشعبية نجاحاً في طريق الوحدة.
هؤلاء هم الذين سيحفظون الإيمان.فالكنيسة من هنا لا يصح أن تتعامل مع الشعب كقطيع يساق و لا يعتد بفكره بل كرعية فيها النجباء و المبدعين و العارفين .و عندنا قديسون علمانيين فاقوا البابوات و الأساقفة في أجيالهم.فإنتبهوا للشعب لأن الإيمان الصحيح و الفكر الصحيح ليس حكراً علي القادة .فالشعب هو البطل الذي حارب آريوس و كشف هرطقته .الشعب هو الذي يستشهد بالآلاف و بالملايين حباً في المسيح.الشعب هو الذي ينكوي أيضاً بالخلافات و يتصارع.فلنبذر في أولادنا محبة الغير من أجل المسيح . و للموضوع بقية