مشكلة الفرد وعلاقته بالتاريخ مشكلة من مشاكل الفلسفية تناولها الكاتب الماركسي (جورج بليخانوف 1856 – 1918) تناولا شاملا وعميقا في عدة بحوثه ومؤلفاته، حيث سلط الضوء على إحدى أهم المشاكل الفلسفية الهامة والتي تتعلق بالفرد، والمجتمع، والتاريخ، فهذه المشاكل أفرزت جملة من المعطيات لا يمكن التغاضي عنها بأي شكل من الإشكال؛ بكونها من أهم العوامل المؤثرة على الصعيد الفهم السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، فتناولها تناولا بحثيا علميا عميقا وصل من خلال بحوثه النظرية؛ بأنه لا يمكن تفسيرها في مجال البحث العلمي النظري دون توضيح العوامل المؤثرة عليها عمليا في ميادين الحياة العملية؛ ليستشف بان حجم التأثير عليها لا يكون إلا من خلال تأثير (وسائل الإنتاج) كسبب أعلى للفرد والمجتمع والتاريخ وهي آتية من خلال وجهة نظر المادية الاقتصادية وبتفسير علمي لتاريخ البشري .
فقد ساد لحقبة تاريخية ليست بالقصيرة اتجاه فكري ومفاده بان للفرد دور أساسي محرك للتاريخ؛ الأمر الذي قادهم باعتبار بعض إبطالهم او الشخصيات العظيمة من أصحاب الفكر مجرد ملاحم .
بينما كان هناك ثمة من عارض هذا الاعتقاد معتبرا بان (الفرد) شيء لا قيمة له؛ كقيمة صفر على اليسار، مفسرين ذلك باعتبار إن هناك قوانين معينة تكون (حركة التاريخ) ومسيرتها خاضعة لها وقد عرضوا دلائل عن العوامل الطبيعية؛ كالبيئة الجغرافية والإقليم كمؤثرات التي تخلفها في المجتمع متغاضين النظر عن دور الفرد التاريخي وبأنه هو من يصنع التاريخ .
فجاء (بليخانوف) ليرفض الآراء السابقة لسببين :
أولهما؛ إن الآراء السابقة لا تقدم حلا لهذه المشكلة.
وثانيا؛ لا تقدم فهما علميا للتاريخ.
فـوجهة نظر( بليخانوف) تذهب في تأكيد بان الإفراد ذو الفكر النقاد هم من عوامل حركة التطور؛ بينما قوانين الحركة التي تحكما هو العامل الأخر. فخضوع التاريخ وأحدثه لمبدأ (العلية) يجرنا إلى طرح سؤال عن سبب التطورات التاريخية سواء ما يتم تعبير عنها بإحداث التاريخ أو بالتيارات الفكرية والسياسي والاجتماعية المتعاقبة، فلو أخذنا مثلا المجتمع الأوربي المعاصر لوجدناه يختلف محتواه الفكري والسياسي والاجتماعي عن المجتمعات ذاتها قبل ألف عام، إذا من هنا علينا إن نحلل ونفسر سبب هذا الاختلاف على ضوء معطيات التي تصنع الوجود وتغيره، ولن نصل إلى الحقيقة إلا عندما نتمكن التوليف والجمع أقسام الحقيقة التي يحتويها الموضوع ونقيضه والتي يسميه بليخانوف (أداة الصيرورة التاريخية)، وهذا يتم من أجل حل الخلاف في هذه المسألة.
فمن الضروري لـ(علم التاريخ) أن يأخذ بنظر الاعتبار ليس فقط فاعلية (الرجال العظام) وإنما (مجموع الحياة التاريخية) وفي مقدمتها الضرورات الكامنة وراء الحدث التاريخي، لان كل ما يفعله (الفرد)؛ فإن فعله وعمله سيبقى خاضعا لظروف معينة، وهنا يتساءل (بليخانوف) :
“إذا كان كل ما ينجزه (الفرد) من عمل – عندما يتحقق – يشكل هو أيضا حادثا تاريخيا، فما الذي تمتاز هذه الأحداث التي تتم من تلقاء نفسها…..؟”
يجيب ( بليخانوف):
“أن كل حادث تاريخي- يُؤمن- على وجه التأكيد لبعض الإفراد جني الثمار اليانعة من التطور السابق، كما أنه في الوقت نفسه حلقة في سلسلة الحوادث التي تهيئ ثمار المستقبل”.
ولهذا فان (بليخانوف) يعتقد أن (الشروط التاريخية العامة) أقوى من الأفراد الأقوياء، فـ(الفرد) ما هو إلا أداة بسيطة من أدوات (الصيرورة التاريخية)، التي لا يمكن لنا النظر إلى الأحداث إلا من خلالها، باعتبار (الفرد) أداة من أدوات الضرورة التاريخية ليس إلا، ولا يمكن له ألا إن يكون كذلك، مهما كان صفاته الأخلاقية ووضعه الاجتماعي المنبثق عن هذا الوضع.
أن إدراك (الفرد) لهذه الحقيقة يلزمه بضرورة (وعي الضرورة) والتي ستقوده لا محال إلى التحرر منها، وهذا يعني الدخول في ملكوت (الحرية)، ومتى ما دخلها؛ عندها سيعيش حياة جديدة لأنه يكون قد أزيح عن كاهله هذا الإكراه، وستصبح فاعليته الحرة تعبيرا حرا واعيا عن (الضرورة)، لأنها ستكون قوة اجتماعية فاعلية وستنفجر، وعندما يدرك فرد (ما)؛ ما هي الضرورة الملازمة لحادث (ما)؛ فإن ذلك سيضاعف من طاقة الشخص الذي يواجه هذا الحادث، فيتجاوب لدرجة التي يعتبر نفسه إحدى القوى التي تحدد وجوده، أما إذا تقاعس (الفرد) و وقف متفرجا غير مباليا وشبك ذراعيه دون إن يبادر بفعل أي شيء فإنه لا محال يبرهن على جهله، لأن استسلامه وعدم الفعل يمثل قوة سلبية، وليست – كما يقول بليخانوف – (الضرورة) هي السبب في ذلك ، وإنما السبب يعود في التربية التي نالها (الفرد) في حياته، فظروف تربيته وثقافته قد تجعله يحمل في نفسه ميلا إلى الابتعاد والكسل والانزواء، بينما يمثل اليقين والإصرار المتزن في قلوب الإفراد الأشداء الفاعلين والواثقين تعبيرا ذاتيا عن (الضرورة الموضوعية)، والتي هي بمثابة ( قوة إيجابية)، وفي هذه الحالة يعطي الإفراد الدليل على شجاعتهم وقدراتهم التي لا تقهر وبذلك يقومون بالأعمال العظيمة المثيرة والمدهشة.
وهذه النظرة من وجهة نظر ( بليخانوف) ما هي إلا امتداد في تفسيره المادي للتاريخ و لدور الفرد الصانع للتاريخ، لان هناك من الإفراد لهم القدرة على التأثير في المجتمع وحتى على مصيره بما يمتلكون من خصائص ومميزات ومواهب، فلو أخذنا تصرف ملك إنكلترا (هنري) – على سبيل المثال وليس الحصر – سنعلم بالدور التاريخي الذي أحدثه تصرف الملك في المجتمع، فما نجم عن حادثة غرام خاصة في حياته الذي عشق (آن بولين)، إذ أدت تلك الحادثة إلى انفصال العائلة المالكة، وبالتالي انكلترا كلها، عن المذهب (الكاثوليكي)، ولكن هذا التأثير بكل ما يملكه هؤلاء الإفراد من هذه المميزات الفردية لن تكن عاملا مؤثرا على طور الاجتماعي إلا بحدود العلاقات الاجتماعية وبحدود التنظيم الاجتماعي الذي يعيش فيه وبالبنية الداخلية للمجتمع وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى، لان (التاريخ) لا يتحقق فعله إلا في شروط محددة اجتماعيا، فثمة عاملان مهمان يجب توفرها ليتمكن (الفرد) الموهوب التمتع بهذه الخصائص ليتمكن التأثير على المجتمع في سياق الإحداث كما يذكرها (بليخانوف) :
أولها، (( أن يستجيب، بفضل مواهبه، أكثر من سواه لحاجات الزمن الاجتماعية، ومن البديهي أن (نابليون بونابرت) لم يكن بمقدوره أن يصبح إمبراطورا فيما لو أوتي بدلا من العبقرية العسكرية عبقرية موسيقية كـ(بتهوفن) .
و ثانيا، ألا يقف النظام الاجتماعي القائم عائقا أمام (الفرد) الحائز على الأهلية التي تستدعيها الفترة الزمنية المعينة، ولو أن النظام القديم استمر خمسا وسبعين سنة أخرى لما زاد اعتبار (نابليون) بعد موته عن كونه لواء مغمورا)).
لنفهم بتوضيح أكثر بان أسباب (الثورة الفرنسية) كانت قائمة على طبيعة (العلاقات الاجتماعية) نفسها وليس على (الخصائص الفردية) التي اتصف بها الأفراد، فالخصائص الشخصية لـ(الفرد) فهي لا تفعل شيئا أكثر من جعل صاحبها أقدر على تحقيق الحاجات الاجتماعية الناشئة أو معارضتها، وهكذا كانت – من الوجهة الاجتماعية – حالة (فرنسا)، أي أنها بحاجة قصوى في نهاية القرن الثامن عشر أن تستبدل المؤسسات السياسية البائدة بمؤسسات أخرى أكثر انسجاما مع نظامها (الاقتصادي) الجديد.
ومن هنا فان تفسير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بـ(الأفكار والآراء)، فان (الأفكار والآراء) هي وليدة هذه الأوضاع؛ أي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادي، فإننا لا محال سندور في (دائرة مغلقة)، ولكي نخرج من هذه الحلقة التي سار فيه المفسرون المثاليون للتاريخ جميعا، فان (بليخانوف( في هذا الصدد قال: ((.. بان (هيغل) وجد نفسه يقع في ذات (الحلقة المفرغة)، التي وقع فيها علماء الاجتماع والمؤرخين في فرنسا لأنهم كانوا يفسرون الوضع الاجتماعي، بحالة الأفكار وحالة الأفكار بالوضع الاجتماعي، وما دامت هذه المسألة بلا حل، كان العلم لا ينفك عن الدوران في (حلقة مفرغة)، بإعلانه أن (ب) سبب (أ)، مع تعيينه (أ) كسبب لـ(ب)..))، إما تفسير (الماركسية) ومنهم (بليخانوف)؛ فأنهم يتجهون بالتفسير والتعليل على مبد (العلية)، بان نتخطى أراء وأفكار (الفرد) وعلاقاته الاجتماعية بمختلف أشكالها باعتبارها ظواهر اجتماعية تحدث وتتطور حسب الظروف المحيطة وأحداثها، ومن هنا فإنها بحاجة إلى تفسير وتعليل، وهذا ما يقودنا البحث عن سر (التاريخ) خارج نطاق الطبيعة التي يمارسها (الفرد) ولا يمكن تفسير هذا النطاق من البحث الا بـ(القوى الإنتاج)، لان الإحداث لا تحدث ولا تخضع للـ(مصادفة) إلا وفق مبد (العلية)، فان نطاق تفسر (التاريخ) ولكي نجتاز مجال البحث من دائرته المغلقة، لا يتم إلا من خلال (وسائل الإنتاج) كسبب أعلى للمجتمع والتاريخ .
لان الوجود الذي يشمل كل ما يحيط حولنا هو (الوجود المادي)، وحوله تُبنى العلاقات، والأفكار، والطبقات، والدولة، لنفهم بان (الوجود المادي) هو الإنتاج الاجتماعي، بمعنى انه (وسيلة الإنتاج وقوى الإنتاج وقوى العمل) يتصاعد دورهم إلى علاقات الإنتاج والطبقات والدولة والإيديولوجية، وهو الأساس في أي تحليل – حسب وجه نظر الماركسية – وعدا ذلك فان أمره يتجه نحو المنظور مثالي، فـ(ماركس) يقول بالنص” في الإنتاج لا يؤثر الإفراد في الطبيعة فقط، بل يؤثر كذلك بعضهم في بعض أنهم لا ينتجون ما لم يتعاونوا في مشكل معين وما لم يتبادلوا بينهم نشاطاتهم، وفي سبيل الإنتاج، يدخلون في علاقات وارتباطات معينة فيما بينهم ولا يوطد تأثيرهم في الطبيعة – أي الإنتاج – إلا في حدود هذه العلاقات والارتباطات الاجتماعية “، إن الإفراد يعيشون حياة اجتماعية؛ وكل ما يحققونه من تفوق ورقي في المجال الثقافي والحضاري يكون بفضل (المجتمع) ولا يمكن بأي حال من الأحوال إن نفهم الإنسانية خارج المجتمع؛ لان جوهر الإنسان مكامنه تكمن في مجموع العلاقات الاجتماعية في زمن معين من (تاريخه)، والتي تبنى أساسا على مجموع علاقات (الإنتاج)، وهذه العلاقات تتخذ صفتها من الشكل (ملكية وسائل الإنتاج) ووضع (الطبقات) و(العلاقات الاجتماعية) أثناء عملية الإنتاج وأشكال توزيع الثروات، وهذا البناء هو الذي يرسم صورة علاقات الإفراد بـ(الطبيعة) والعلاقات التي تربطهم خلال (عملية الإنتاج) ، والتي من خلال هذه العلاقات يتم تطوير الإنتاج وهذا التطور هو أساس في تطور المجتمع، وهذه هي أهمية (التركيبة الاقتصادية – الاجتماعية) في تطور المجتمع، وبطبيعة الحال فان أي تغير بين (علاقة الإنتاج) مع (قوى الإنتاج) سلبا أو إيجابا يعكس على الفرد والمجتمع؛ وهي التي تلقي النظرة البسيط إلى تاريخ التطور الاجتماعي، لأننا بكل وضوح يمكن لنا ملاحظة (أدوات الإنتاج) في كل مرحلة من مراحل التطور تفرض أسلوبا جديدا للحياة والمجتمع؛ لان عبر هذه المراحل تتطور خبرة الإفراد وقدراتهم ومعرفتهم ومهاراتهم وهو من الأسباب الرئيسية للتطور الاجتماعي والمجتمع بأسره، ومن هنا يبرز دور وأهمية دراسة التاريخ وفق علاقة (الاقتصادية – الاجتماعية) باعتبارهما مكامن مقننه عبر المراحل لعملية تطور الوعي في المجتمع؛ والذي أساسا يبنى وفق احتياجاته؛ وما تؤدي من تغيرات (بنيوية) تفرض وجها جديدا للثقافة وللحضارة؛ وهذا ما يجعل من قوى (الاقتصادي) واحدا من العوامل المهمة المحركة في تاريخ التطور الإنساني منذ أول تأسيس اجتماعي، لذلك يبرز دور(العامل الاقتصادي) سلبا أو إيجابا على المجتمع وقدرته في التأثير بما حولها.