يصعب كثيرا التصديق بأن التحول الأخير في الموقف التركي من داعش، ومن التعامل الميداني مع الأزمة السورية هو فقط وليد عملية سوروج الإرهابية، التي تبنتها داعش واستهدفت حفلا نظمه ناشطو اتحاد الجمعيات الشبابية الاشتراكية الكردية جنوب تركيا. الدلالات غزيرة.
فالهجوم داعشي، والمسرح تركي والهدف أكراد كانوا يتهيؤون للمشاركة في حملة إعادة بناء بلدة كوباني الكردية السورية، بعد انتصارهم على داعش. أما التوقيت فهو في أعقاب الإعلان عن التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران ودول مجموعة الخمسة زائد واحد، ولاحقا تبني مجلس الأمن لهذا الاتفاق عبر القرار الأممي 2231.
هذا بعض من رمزيات التحول في الموقف التركي الذي تجاوز الرد على عملية إرهابية، إلى الدخول في مرحلة إستراتيجية جديدة في العلاقة مع الأزمة السورية، ومع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة داعش، وهو ما عبرت عنه موافقة أنقرة على السماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية جنوبي البلاد في شن غارات على داعش في سوريا.
وعليه، لو لم تكن سوروج لكانت غيرها. فتركيا تعرف أن الإقليم دخل مرحلة جديدة بعد الاتفاق تستوجب الانخراط المباشر في ترسيم حدود النفوذ فيه، لا سيما في ظل إمساك إيران بأوراق أكثر انسجاما وتماسكا مما يملكه خصومها من السنة، أتراكا وعربا.
في مقابل محور إيران الشيعية في الإقليم الذي يضم ميليشيات فاعلة، في لبنان والعراق واليمن وسوريا، بما فيها نظام الأسد، ويقودها الحرس الثوري، ضمن إستراتيجية تنسيق دقيق مع واشنطن، تحت عنوان مكافحة الإرهاب لاسيما في العراق، يبدو المحور السني كثير التشظي.
فهناك، إذا صح التعبير، محور النظام الرسمي العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية. وهو محور تعتريه خروقات كثيرة نتيجة تفاوت مستوى التعبئة تجاه طهران، كما كشف استقبال عواصم خليجية لوزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف، والمقصود منه توجيه رسائل ضمنية للسعودية أنها لا تملك مفاتيح أبواب دول مجلس التعاون. كما تعتريه خروقات أخرى بنتيجة تنامي الصدام بين الإخوان المسلمين ومصر بالتحديد مع ما يعنيه ذلك من مزيد من تشظي الطاقة السنية العربية، واستنزافها في معارك تشيح الانتباه عن إيران.
وهناك محور داعش الذي، فاجأ كثيرين بمدى ديمومته وقبوله للحياة، وقدرته على تهديد كيانات إضافية، وإمكانية استحواذه على أجزاء منها لاسيما سيناء المصرية، وليبيا، وربما الأردن.
وهناك المحور التركي الإخواني الذي تشير انعطافته الأخيرة إلى مستوى وحجم التخبط الإستراتيجي التركي الذي انتقل من سياسة غض النظر عن داعش، إلى الانخراط الجدي في محاربته ضمن التحالف الذي دأب على انتقاده والتشكيك فيه.
تتداخل هذه المحاور الثلاثة وتتصارع فيما بينها بقدر ما تتصارع مع إيران. فتركيا التي تعرف أنها بأمس الحاجة الإستراتيجية للموازنة مع طهران، مع بعد الاتفاق، وتنسق مع السعودية في سوريا للإطاحة ببشار الأسد، تبدو في تنافس مع المملكة، أيضا، في ملف إعادة ترميم ورقة الإخوان المسلمين.
لطالما استخدمت تركيا الإخوان في لعبة إدارة نفوذها في الإقليم لا سيما مع الربيع العربي. ووصل هذا الاستخدام ذروته عند تسلم الإخوان للحكم في مصر يوم 24 يونيو 2012. في حين كانت ذروة التصادم العربي التركي، وتحديدا الخليجي التركي، وأكثر تحديدا السعودي الإماراتي التركي في دعم كل من الرياض وأبوظبي الإطاحة بمحمد مرسي في تظاهرة 30 يونيو الشهيرة بعد عام على انتخابه.
تغيير الزمن. المفارقة اليوم أن أنقرة والرياض تتنافسان على الإمساك بورقة الإخوان، التي لمست المملكة أهميتها في إعادة تكوين السلطة في اليمن، ولاحقا في سوريا. ومن ملامح التنافس زيارة خالد مشعل للرياض، واستقبال الملك سلمان بن عبدالعزيز له. فعلى الرغم من التقليل الرسمي العلني للمحتوى السياسي للزيارة، على لسان وزير الخارجية السعودية عادل الجبير، إلا أن الجبير بدا وكأنه يساير المصريين الذين استنفرتهم زيارة مشعل. ليس بغير دلالة أن تصريح الجبير جاء في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره المصري سامح شكري!
غير أن السعودية في مزاج آخر، فهي تسعى عن حق وحكمة ونباهة إستراتيجية للإمساك بكل أوراق المشهد السياسي العربي، ولن تتساهل مع تركيا في قضم نفوذ، من باب التعاون، كانت فشلت في قضمه من باب الخصومة.
فالإخوان، مكون عربي وإسلامي، ولا يجوز تركه نهبا للأيدي الإيرانية والتركية، إذا ما توفرت فرص وضمانات وشخصيات تبدد القلق المشروع من النفس الانقلابي الإخواني. لا تخفى مرارة التجربة معهم على أحد، من الانقلاب على اتفاق مكة عام 2007، وصولا إلى زرع خلايا انقلابية في الإمارات العربية المتحدة، مرورا طبعا بالعقلية الاستئثارية في حكم مصر بعد الثورة ومحاولات أخونة الدولة المصرية. رغم ذلك لا يجوز استسهال الحرب الأهلية العربية مع الإخوان لما ستشرعه من نوافذ وأبواب لرياح الاستثمار الإستراتيجي الإيراني والتركي.
التحول التركي حيال سوريا يوفر فرصة للعرب بلا شك لإنهاء المأساة السورية، لكنه أيضا إشارة إلى أن تركيا تتهيأ للبحث عن حصتها في مواجهة إيران أيضا، وما تقوله السعودية أن ذلك ليس على حساب استقرار الهويات والدول الوطنية العربية.
وليس من باب المبالغة أو الشطط في التحليل توقع أن تدخل إسرائيل إلى المشهد بمغامرة في لبنان أو سوريا، كي تضمن مقعدا لها على طاولة الحل في المنطقة.
إيران أمس، تركيا اليوم، وربما غدا إسرائيل. الجواب السعودي الحازم؛ العرب ليسوا تركة الاتفاق النووي.
*نقلاً عن “العرب” البريطانية