الضحيّة وعقدة -كيس الحاجة-!!!

الضحيّة وعقدة -كيس الحاجة-!!!

وفاء سلطان

نعم، ليست وفاء سلطان ولا غيرها فوق النقد، شرط أن يكون نقدا وليس شتيمة مقنّعة أو محاولة لهتك سمعة!النقد يجب أن ينطلق من رغبة ملحّة وصادقة في تصحيح الخطأ وإيجاد البديل.هو أعلى مراحل الكتابة ولا يستطيع أن يرتقي إلى مستواه إلاّ كاتبا عملاقا تعلم كيف يقرأ قبل أن يتعلم كيف يكتب.
النقد يختلف عن غيره من فنون الكتابة، إنه مهمة تضع صاحبها أمام مسؤولية أكبر بكثير من مسؤولية الكاتب العادي، وتطالبه أن يملك عقلا قادرا على التحليل والمقارنة، ووقتا كافيا للقيام بهما.
عندما يقرأ أحد مقابلة لكاتب، ويريد أن يعقب عليها أو يبدي فيها رأيه، هذا أبسط حق من حقوقه وأنا أول من يحترم ذلك الحق.
لكن لا يحقّ له أن يسمي رأيه نقدا، مالم يلتزم بقواعد النقد كعلم وفن، ومن أبسط تلك القواعد أن يذكر شيئا مما قاله الكاتب كي يبرهن على صحة ما يصدره بحقه من أحكام.
التفريق بين النقد وبين إبداء الرأي لا ينتقص من قيمة أي منهما، ولكنه يرسم حدودا واضحة وضرورية بين علم له أصوله وبين ممارسة حق ليس على صاحبه أن يتلتزم بحرفية تلك الأصول.
تماما كالفرق بين زائر لمعرض صور وبين خبير في فن الرسم.من حق الأول أن يبدي إعجابه أو اشمئزازه من لوحة ما، لكنه لا يملك القدرة على تحليل خطوط وألوان اللوحة وتداخلاتها ومدى انسجامها، كما يفعل من غاص في بحر ذلك الفن؟!
النقد يعكس معرفة وأخلاق وصدق نوايا الناقد.
منذ فترة ترك قارئ تعقيبا على إحدى مقالات الدكتور كامل النجار، وردت فيه عبارة “وفاء سلطان تؤمن بأن المسلمين أفضل من
الإسلام”،فردّ الدكتور النجار على التعقيب بدقة ووضوح وأدب منقطع النظير، بما معناه:(لا أتفق معها، فعندما يمتلك المسلمون الوسائل اللازمة لن يتورعوا لحظة عن تطبيق الإسلام بحذافيره) وطبعا، كتابات السيد النجار تعكس حقيقة الإسلام بالتفصيل، وتعكس مفهوم المسلمين له.
منذ لحظتها وأنا أكرر عبارته ـ بعد أن تخليت عن قناعتي السابقة ـ في كل محفل أتواجد فيه.أنا من أكثر الناس قبولا للنقد عندما يأتي الناقد بالأدلة والبراهين الكافية، ومن أكثر الناس تشربا للفكر الواضح والصادق!
لا أعتقد بأن أحدا في تاريخ العرب قد ارتقى إلى مستوى هذا الفن، عندما يتعلق الأمر بنقد الأعمال الفنيّة للآخرين بموضوعية عقلانية.
لأنه في بيئة قمعية لا يمكن أن يكتسب الإنسان القدرة على النقد بعيدا عن التجريح والإيذاء، إضافة إلى أنه لا يدرّس في أي مرحلة دراسية.
ابنتي لم تتجاوز العشرين بعد، منذ شهرين وهي تعمل على بحث جامعي سيكون موضوع مناظرة بينها وبين طالب آخر.الموضوع
يتعلق بالسن القانوني للحصول على شهادة القيادة.هي تقول: يجب ن يكون في السادسة عشر، والطالب الآخر يقول: يجب أن يكون في الثامنة عشر.شهران وهي تشتغل على هذا البحث، شهران لم تنم خلالهما لمدة يومين نوما طبيعيا، قابلت خلالهما أكثر من عشرين
شخصا من رجال الأعمال والمحامين والعاملين في سلك القضاء والموصلات ورجال البوليس وآباء لمراهقين بين الـ 16 والـ 18، وسجلت آرائهم لتدعم موقفها بالأدلة الكافية.
الغاية من تلك المناظرة أن يصل الجميع إلى قناعة مشتركة، وتكون تلك القناعة أساس لوضع قوانين تخدم الوضع العام.ابنتي ومؤيدوها يؤمنون بأن شهادة القيادة يجب أن تمنح عندما يبلغ الإنسان الـ 16، وهم يبنون حجتهم على أساس أن السن المسموح به للعمل هو الـ 16، فكيف سيصل الشباب إلى عملهم ماداموا لا يقودون سيارة، وخصوصا عندما يتعلق الأمر ببعض الولايات حيث لا يوجد شبكات للنقل الداخلي، وعلى كل إنسان أن يملك سيارة.
أصابني الذهول عندما اطلعت على الأرقام والحقائق التي حصلت عليها، والتي تعكس هذه المشكلة من كل جوانبها.أكبر قوة للأيدي العاملة في أمريكا هي الشباب بين الـ 16 والـ 18، وأكير قوة استهلاكية هي تلك الفئة من الأعمار أيضا.
هل تستطيع أن تتخيل حجم الخسارات التي سيتعرض لها الإقتصادالأمريكي في حال عدم قدرة هؤلاء الشباب للوصول إلى أماكن عملهم وأماكن تسوقهم؟!! أما الطالب الآخر ومؤيدوه فيؤمنون بأن السن القانوي للقيادة يجب أن يكون الـ 18، ويدعمون موقفهم بالتقارير التي تصدر عن الأبحاث الطبية، والتي تؤكد أن دماغ الإنسان بين الـ 16 والـ18 غير قادر على ضبط إشكالات السير، الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من حوادث السير المفجعة.
لكل طرف حجته، ولكن الغاية واحدة وهي الوصول إلى وضع أفضل!
هكذا يكتسب الإنسان في العالم الحرّ قدرته على التحليل والمقارنة، وهكذا يتعلم أصول وأخلاق المناظرة.أما الذين يعتبرون أنفسهم “نقادا” في بلادنا، فلم يرتقوا كثيرا فوق مستوى مشاحنات أم محمد وأم حسين في أزقة الحي، وفشلوا في أن يتجاوزوا الدوافع النفسية الخفية التي تقبع في اللاوعي عندهم، والتي كانت وراء تناولهم لهذا الكاتب أو ذاك.
………………..
تصلني مئات المقالات شهريا، وأقرأ منها ماهو قابل للقراءة ويسمح به وقتي. أتفق مع بعضها وأختلف مع بعضها الآخر، ولكن لم أشأ يوما أن أنصب نفسي ناقدا لكاتب!
لم أفعل ذلك لسبب بسيط، لا أعتقد بأنني أمتلك ناصية هذا الفن ولا أمنح نفسي حق التطفل على علم لا أجيده، رغم اطلاعاتي الواسعة على معظم كتاب ونقاد أمريكا المعروفين.
العربي عموما ـ والمثقف خصوصا ـ لم يتعلم يوما أن يقول “لا أجيد فعل هذا أو ذاك”! هو ـ وعلى رأي المثل الشعبي ـ مسبّع الكارات، وكثير الكارات قليل البارات!
لقد تناولت بعض الكتاب الذين أساؤوا لي شخصيا، ولا أعتبر ردي عليهم نقدا، بقدر ما أعتبره تفنيدا لأكاذيبهم وصدا لإساءتهم، وهذا حقي!
عندما فعلت ذلك ذكرت بالتفصيل ما قالوه وذكرت بالتفصيل موقفي منه، فعلت ذلك إحتراما لمهنة الكتابة التي أزاولها وأقدّسها.
أما عدم ممارستي للنقد ـ بالمعني الحقيقي له ـ واعترافي بعدم امتلاكي لناصيته فيعكس قدرتي على الإعتراف بنواقصي، وهي قدرة لا يملكها إلاّ من يثق بنفسه.
الطفيليات التي تقتات على فتات هذا الفن الجميل وذي الهدف النبيل، قد تنتعش آنيّا على حساب مبدع، لكنها سرعان ما تفطس عندما يستمر هذا المبدع في إبداعه غير آبه بنقيقها!
أكتب مقالة وتختفي من على صفحات الموقع بلمح البصر، لأعود بعد شهرين فأرى عدد زوارها قد تضاعف عدة مرات.
ويكتب الواحد منهم مقالة تبقى دهرا، ثم تختفي إلى الأبد مع رصيد مخجل من الزوار والتعليقات.أكتب وإياهم في موقع يساري ماركسي، يشترك فيه أكثر من ألفيّ كاتب وكاتبة ويأمّه ملايين القراء.
يشعرون بالخجل والإحباط أمام هذا الكم الهائل من الكتاب والقرّاء، فلا يجدون ـ أمام إحباطهم ـ ما يقولونه سوى أن زمرة من “الطبالين” تهلل لوفاء سلطان، وفي ذلك إساءة بالغة لمن يكتب في ذلك الموقع ولمن يقرأه! مادام “الطبالون” فقط هم من يهلل لكتاباتي، يبقى السؤال: لماذا لا تهلل البقية من القرّاء والكتاب لكتاباتهم؟!!
لقد قلت مرارا وتكرارا، وها أنا أكرر قولي: أن العرب لا يقرأون لأنهم لا يجدون ما يقرأونه.الأزمة أزمة كاتب وليست أزمة قارئ، وعدد الزوار والتصويت والتعليقات في موقع “الحوّار المتمدن” يعكس تلك الحقيقة بوضوح يضاهي ضوء الشمس!
يجب على الكاتب أن يتناول تلك الإحصائيات بجدية كي يُدرك أبعاد الوسط الذي يعمل فيه، ولكي يُدرك التأثير الحقيقي الذي تتركه كتاباته على ذلك الوسط.
أعرف تأثير كتاباتي على الذين يعارضونني ويقرأونني في حقيقة الأمر أكثر ممن يؤيدني، أعرف ذلك لأنني أغوص في عمق الوسط الذي أعمل فيه وأرى بالعين المجردة ما يقدرون هم على رؤيته ولكنهم يرفضون الإعتراف به!الأرقام تتحدث، هذا ما أثبته علم الإحصاء، وأنا كعادتي ألتزم بما يثبته العلم في أي مجال.
معرفتي بقوة هذا التأثير وبأهميته هي التي تحفزني لكي أستمر، ومعرفتي بالدوافع النفسية التي تكمن وراء من يتناول كتاباتي تساعدني على المضي قدما فيما عزمت عليه.
…………………………..
لكل كاتب أفق، وكما تميّزه بصماته يميّزه ذلك الأفق.على الناقد أن يتناول مايراه الكاتب ضمن حدود أفقه، لا أن ينهال عليه قدحا لأنه عجز عن أن يرى ماوراء ذلك الأفق!لم أختص يوما في علم الإقتصاد، ولا أعرف الكثير عنه، وهذا ليس عيبا!لم أختص يوما في علم الإجتماع، وقد لا أعرف الكثير عنه، وهذا ليس عيبا!كنت ـ ولم أزل ـ الأجهل في علم السياسة ـ وتلك أحب ميزاتي إلى نفسي!تبحرت في علم النفس، وهو اختصاصي، وكل ما أكتبه لم يخرج يوما عن الأفق الذي حدده لي ذلك الإختصاص.
كل أفق محدود، وأنا أعترف بمحدودية أفقي وأعتز بها لأنها تساعدني على التركيز، وتزيد من مهارتي فيما تخصصت به، وأترك لغيري المجال كي يختص في تسبيع الكارات!
أقول لهم من وحي معرفتي ببواطن النفس ـ على سبيل المثال ـ: كل إنسان هو الإله الذي يعبده، فالإنسان في وعيه وفي حيّز اللاوعي عنده، يسعى ليكون مثله الأعلى، والإله دوما هو المثل الأعلى للإنسان! فيردّون علي بقولهم: ولكن بوستافافو ـ وربكم يعلم من هو هذا
البوستافافو، يذكرونه وكأنه ابن عمهم ـ قال بالألمانية: “إن المتغيرات الميتافيزيكية تفرض على الواقع الديالكتيكي ما يؤثر على منهجية الرؤية التناسقية ”
لا أفهم هلوساتهم ولا أعتقد هم يفهمون! كلهم يجيدون الألمانية والإنكليزية والفرنسية، ناهيك عن الروسية، وكلهم ألفوا كتبا ترجمت لأكثر من عشرين لغة، وكلهم يدخنون السيكار الكوبي، وكلهم خبراء في مذاق الكافيار وتاريخ الفودكا، وكلهم دفعوا ثمن مواقفهم وقضوا سنوات في سجون الحكام!
أما وفاء سلطان فهي عميلة أمريكية، وتشتغل لحساب الـ إف بي آي والـ سي آي إن، ويعرف كلّ منهم تفاصيل علاقاتها مع اليمين الأمريكي واللوبي الصهيوني.
ليس هذا وحسب، بل هي طائفية لأنها لم تتطرق يوما لنقد النظام الطائفي في سوريا.وقصدهم حرفيا: هي علويّة وبشار الأسد علوي،
والعمى الطائفي يمنعها من أن ترى جرائمه!
يريدون، ومن خلال قدحهم، أن ينتقموا لسنوات عمرهم الضائعة في سجون بشار الأسد، يريدون أن ينتقموا من وفاء سلطان باعتبارها هي الأخرى علويّة وترفض أن تتناول جرائم الأسد(!!!).
هذه هي الدوافع النفسية الخفية، والتي تستقر في اللاوعي عندهم وتدفعهم لتلفيق الأكاذيب والإفتراءات بحقي!
…………………………
من خلال مقابلة واحدة حكم عليّ أرعن بأنني لا أتناول سياسة الأسد، والسؤال: أين هي كتاباتهم التي فضحت سياسة الأسد، كما
فضحها مقالان لي، اختصرت فيهما كل ما يمكن أن يقوله مواطن شريف رزح تحت حكم الطاغية لمدة ثلاثة عقود من عمره؟!!
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=95268
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=96192

لم أكتب ضد بشار الأسد من منطلق سياسي، وإنما من منطلق حبي لوطنٍ مازال يعيش في عمق وجداني.لماذا يريدونني ـ لو غضضنا النظر عن خسة القصد ـ أن أتناول النظام الحاكم في سوريا من منطلق مواقفه الطائفية، ولا يُلام أحد من الكتاب لعدم تناوله النظام الطائفي في أي بلد عربي آخر؟!! لا يوجد حاكم في تاريخ الإسلام إلإ ـ كأي رئيس عصابة في التاريخ ـ وأحاط نفسه بشرذمة من الطواغيت، وهو يختار تلك الشرذمة إما على أساس ديني أو طائفي أو قبلي أو عشائري، فلماذا يكيلون لوفاء سلطان بكيل ولبقية
الكتاب بكيل آخر؟!!
لقد انتقدت الإسلام بضراوة، لكنني لم أتناول يوما أحدا من الخلفاء (غير) الراشدين، ولم أتناول يوما أحد الصحابة، فأنا لا أضرب الأفعى إلاّ على رأسها!عندما يسقط محمد كديكتاتور سيسقط معه كل ديكتاتور في تاريخ الإسلام قديمه وحديثه!
لماذا يريدونني أن أتناول المواقف الطائفية لبشار الأسد، ويزعقون عندما أتناول الحديث المحمدي: اطع الحاكم حتى لو ضربك بالسوط على ظهرك وسرق مالك؟!!هذا الحديث هو الذي أنجب بشار الأسد قبل أن تنجبه طائفته!والبرهان على ذلك، أنه أنجب أيضا صدّام حسين وحسني مبارك والبشير والفهد وآلاف الديكتاتورين الآخرين.
في السعودية يقطعون يدك لو وجدوا فيها إنجيلا، فلماذا لا ينتقدون المواقف الطائفية للعائلة المالكة؟!!في مصر تهدر دماء الأقباط وتخرّب ممتلكاتهم على مرأى من رجال السلطة، فلماذا لا تطالبون الكتاب السنة بتناول الممارسات الطائفية لمبارك؟!!
أمّا البشير فلا داعي لأذكر شيئا عنه، فسمعته “العطرة” شقت الآفاق!!لا أعتقد بأن الشرذمة التي كانت تحيط بصدّام حسين حوت من الشيعة أكثر مما تحوي الشرذمة التي تحيط بالأسد من السنة، فلماذا لا يُطالب كاتب عراقي سني بتناول المواقف الطائفية لصدام؟!!
غريب عجيب هذا الإفلاس الوجداني!!
إن الشعب الذي يؤمن بأن عليه أن يطيع حاكمه حتى ولو ضربه على ظهره، لهو شعب عاجز على أن يغيّر ذلك الحاكم، والشعب الذي لا يستطيع أن يغيّر حاكمه لا يستحق غيره!إذن، علينا أن نعيد تأهيل الشعب في محاولة جادة لتغيير حكومته.
…………………….
عندما نقول لهم: لا نفهم ما تكتبون، يردون: نحن نكتب للـ “نخبة”!هذه النخبة أوهمتنا بأن الخلل في الحاكم، وتغاضت عن إعادة تأهيل شعب مهووس بتعاليم متخلفة حتى نخاع عظمه!
منذ الخمسينيات لم تستطع تلك “النخبة” أن تتجاوز ثرثرات المقاهي، وحاولت جاهدة أن تبرمج الجيل الشاب على أنهم مناضلين من الطراز الأول، وعلى أنهم يدفعون ثمن نضالهم سنينا في سجون الديكتاتور،علما بأن الديكتاتور يخاف من صرصور في مطبخه أكثر مما يخاف من أكبر “مثقف” في تلك النخبة! لي صديقة، كان خالها رجلا بسيطا ويجني لقمة عيشه من بسطة لبيع الجوارب في أحد أزقة سوق الحمدية بدمشق.أحد الأيام باع كل الجوارب ولم يبق في حوذته إلا واحدا، فراح يصيح: آخر بيعة…آخر بيعة!بالصدفة الملعونة، حدث ذلك في نفس اليوم الذي كان فيه الشعب السوري “يبايع” الأسد للأبد، بعد أن ملّ من إعادة انتخابه كل سبع سنوات، وكانت اللائحات تملأ شوارع المدن: “بايعناك للأبد يا حافظ الأسد”!وبالصدفة الملعونة أيضا، كانت تمرّ بجواره دوريّة من بصاصيّ الأسد، فألقوا القبض عليه، وساقوه من رقبته كما يساق خاروف إلى مذبحه، وهم يبصقون في وجهه: آخر بيعة….من تقصد يا كلب؟!!
لم تره عائلته إلا بعد عدة سنوات، لم أعد أذكر عددها! يعتبر هذا الإعتداء جريمة بحق الإنسانية بكل مقاييس الأخلاق، جريمة تعكس
ـ بلا شك ـ وحشية الديكتاتور، ولكنها لا تبرهن على أن الضحية مثقف من الطراز الأول!

سنوات السجن التي قضاها بعض أفراد “النخبة”، تعكس إجرام الأسد لكنها لا تعكس ـ بالضرورة ـ مستوى نضالهم الثقافي، وإلا أين إنجازاتهم الثقافية التي تحاول أن تحرر شعبا من هوسه الديني وترفعه إلى مستوى عقلاني؟!!
بائع جوارب، مع احترامي لكل بائعي الأرض، قد يكون أصدق من أصدق مثقف في “نخبة” لم نجنِ من ثرثراتها شيئا!منذ الخمسينيات وهم يثرثرون…..ازداد الهوس الديني وازداد التعصب وازداد الإرهاب، واليوم هم يتصدون لي انتقاما لعمر ضائع وجدوا أنفسهم على مشارفه بخفي حنين!
………………
الأنكح من ذلك، عندما ينطّ مسيحيٌّ من تلك النخبة خارج حدود خندقه “النضالي” ليدافع عن تاريخ الإسلام على حساب وفاء سلطان
باعتبارها طائفية وأُحادية النظرة، فهي لا تتناول الأديان الأخرى وترفض أن تتناول المواقف الطائفية لبشار الأسد!!!
موقفي من المسيحيين والمسيحية يعرفه القاصي والداني، والذين يحاولون أن يدخلوا بين وبينهم سيجدون أنفسهم مهروسين بين المطرقة
والسندان!لقد وقع بعض أفراد الأقليات التي عانت خلال التاريخ الإسلامي من الإضطهاد ضحية عقدة النقص، وضحية عقدة أخرى سأشرحها بالتفصيل لاحقا (وهذا بيت القصيد)!
تتشكل عقدة النقص في سنوات العمر الأولى، إذ يلاحظ الطفل الذي ينتمي إلى الأقلية المضطهدة بأنه يُعامل من قبل المجتمع بطريقة تختلف عن كيف يعامل الطفل الذي ينتمي إلى الأكثرية، ويعجز عقله الغض أن يفسر سرّ ذلك التمييز وتلك المعاملة المهينة.
مع الزمن تتشكل لديه قناعة بأن الخلل يعود لسبب فيه وليس في المجتمع نفسه، إذ لا يعقل أن تكون الأكثرية على خطأ وهو على صح!تسلبه تلك القناعة ثقته بنفسه، وتولّد لديه كرها لذاته، وتزداد حدّة مع الزمن لتسيطر لاحقا على جميع سلوكياته.
شاعت الماركسية أكثر ما شاعت بين صفوف الأقليات المسيحية والعلوية والكردية، نظرا لحجم المعاناة التي عاشتها تلك الأقليات.
شاعت بين صفوفهم لأنها حملت لهم أحلاما وردية، وأملوا أن يجدوا لديها مهربا من الإضطهاد الديني والطائفي والعرقي الذي تعرضوا له. وشاعت بينهم أيضا عقدة النقص، إذ كانوا ولا يزالون يعانون من تلك العقدة ومن آثارها المدمّرة بدرجة أو بأخرى!ليس هذا وحسب،
فالإضطهاد في أحيان أخرى يولّد اضطرابا نفسيا آخر لا يقل إيلاما، تشعر من خلاله الضحية بأنها ملزمة بالدفاع عن الجاني حتى الإستماتة!يُطلق على هذا الإضطراب النفسي اسم

Stockholm Syndrome

، أي (عقدة استوكهولم).أول من وضع هذا الإصطلاح كان الطبيب السويدي المختص في الأمراض النفسية وفي علم الجريمة

Nils Bejerotk

، وكان ذلك في عام 1973 عندما قامت مجموعة من اللصوص باقتحام بنك في إحدى مقاطعات مدينة استوكهولم واحتجاز عدة رهائن.صوبوا مسدساتهم إلى رؤوس الضحايا وهددوا باطلاق النار، واستمر ذلك الحصار حوالي اسبوع.نجح البوليس السويدي لاحقا في تحرير الرهائن وألقوا القبض على الجناة.في المحكمة حاول الضحايا بكل ما اؤتيوا من قوة
أن يدافعوا عن الجناة ووصفوهم بالرحماء!من خلال دراسته لتلك الظاهرة الغريبة استطاع الدكتور

Bejerotk

أن يعرّف ذلك الإضطراب النفسي ويضع اسما له.منذ يومها والعلماء يجرون المزيد من البحوث التي تخص تلك العقدة ويضفون معلومات جديدة.بناء على ذلك، تمّ تفسير الكثير من الحوادث الذي وقعت قبل الوصول إلى فهم تلك الظاهرة ودراسة أسبابها، ومن أهم تلك الحوادث حادثة اختطاف السيدة الأمريكية
Mary McElroy

، في عام 1934 والتي صارت قصتها موضوعا للفيلم الشهير

Kansas City.
كان والد ماري حاكم مدينة كنساس عندما اختطفها عدة أشخاص وطالبوه بدفع مبلغ كبير وإلا سيقتلوها.تمكن البوليس من تحريرها لاحقا، وقبضوا على الجناة.أثناء المحاكمة دافعت ماري عنهم ووصفتهم بالرحماء، واعتبرت نفسها مدينة لهم بالحياة، ولكن القاضي لم يأخذ بكلامها وتمّ إعدامهم لاحقا.لم تستطع ماري أن تتحمل الإحساس بالذنب، فقتلت نفسها عام 1940.
………….
أحيانا تتناول الأمثال الشعبية العربية حقائق كثيرة مثبتة في علم النفس، والمثل الشعبي الذي نتداوله في سوريا “القط يحبّ خناقه” يجسد “عقدة استوكهولم” بطريقة رائعة!لقد تفوق من قال هذا المثل لأول مرّة على الطبيب السويدي وسبقه ربّما بقرون!أقترح منذ الآن وصاعدا أن نستخدم إصطلاحا معرّبا وهو “عقدة كيس الحاجة”، نسبة إلى أحد بنود العهدة العمريّة التي برمها عمر بن الخطاب مع اليهود والمسيحين، ذلك البند الذي ينص على أن يعلق كل مسيحي ويهودي كيسا في رقبته عندما يمرّ في السوق، كي يضع المسلم في الكيس حاجاته ويلزمه بنقلها إلى بيته.على ذكر اليهود، أعتقد بأنهم الأقلية الوحيدة في العالم التي استطاعت أن تتحرر كليا ـ إلى حد ما ـ من تلك العقدة، ولذلك هم يبدعون ومستمرون في إبداعهم.
ويبقى السؤال: ماهي الظروف التي تتبنى فيها الضحية موقف الدفاع عن الجاني، ولماذا تتبنى ذلك الموقف في تلك الظروف؟
سأحاول شرح وتبسيط الأمر قدر استطاعتي.
لدى الإنسان، أي إنسان، ميل غريزي لأن يقف بجانب من يحمي حياته.هذا الميل الغريزي، كواحد من عدّة ميول غريزية أخرى، يساعد على استمرار الجنس البشري والحفاظ عليه من الإنقراض.عندما يعيش الإنسان حالة رعب شديد يهدد حياته في كل لحظة ( كما لو
وضع أحد فوهة المسدس على صدغه وهدده باطلاق النار)، سيشعر بامتنان شديد لو أن أحدا تدخل وحماه من هذا الخطر، وخلصه من ذاك الشعور المؤلم!!هذا هو السبب الرئيسي الذي يدفع بعض الضحايا للدفاع عن الجناة، لماذا وكيف؟!!
في معظم الحالات يهدد الجاني الضحية، ولكنه في نهاية المطاف لا يقتلها.هنا يختلط الأمر على الضحية، وتتشكل لديها قناعة بأن الجاني قد حافظ على حياتها.تسقط من وعيها الجانب المظلم للجاني، لأنه يضعها تحت ضغوط نفسية هائلة، وتبقي على الجانب المضيء وهو أنه لم يقتلها، لأن ذلك الجانب يخفف من حدة تلك الضغوط.تفسر عدم قتله لها على أنه لطف منه، بل إفراط في
اللطف، ومن باب الإمتنان ورد الجميل تأخذ على عاتقها مهمة الدفاع عن الجاني بكل ما تستطيع!
كم مرّة سمعنا بعض المسيحيين يقولون:(استمرارية وجودنا في البلاد الإسلاميّة تؤكد على التسامح الإسلامي)، محاولين أن يُسقطوا من وعيهم نوعيّة ذلك الإستمرار، وكيف جرّدهم من أبسط حقوق الإنسان.يسمع الواحد منهم شتيمته من على منابر المساجد، ليس هذا وحسب، بل ويعرفون في عمق اللاوعي عندهم بأنهم مهددون في كل لحظة بأنيواجهوا أحد خيارين: الجزية عن يد وهم صاغرين وإلاّ الموت!لكنهم، وطالما لا يدفعون الجزية ولا يُقتلون، ينبري البعض منهم للدفاع المستميت عن الجاني وهو في تلك الحالة الإسلام، متجاهلين أن نوعية الحياة لا تقلّ أهمية عن اسمتراريتها!
لكي لا أظلمهم، وكما أشرت سابقا، تقوم أمنا الطبيعة لغاية في نفسها بتزويدنا بميل غريزي للدفاع عن من يحمي حياتنا، وخصوصا عندما لا نستطيع الدفاع عن نوعيتها.تبرم الضحية في تلك الحالة صفقة مع الجاني: افعل فيني ما شئت، بشرط أن لا تقتلني! وطالما يلتزم الجاني بحدود تلك الصفقة تجد الضحية نفسها ملزمة بالدفاع عنه، وتقديم آيات الشكر والإمتنان له.لنفس السبب، وبعد أن كثرت جرائم القتل ضد المسيحيين في العراق ( لقد تجاوز الجاني في تلك الحالة حدود الصفقة) بدأنا نسمع مزيدا من الأصوات المسيحية التي تندد بالتعاليم الإسلامية وليس فقط بالجناة!
يعتقد العلماء بأن على الأقل 30% من الذين يتعرضون للإضطهاد يتبنون تلك العقدة لاحقا، وينتهون كمدافعين حقيقين عن الشخص الذي مارس عليهم الإضطهاد.ويعتقدون أيضا بأنه كلما ازداد دفاع الضحية عن الجاني كلما دلّ ذلك على حجم الإهانة وعمق الجرح!
لذلك أتفهم موقف بعض المسيحيين من الإسلام ودفاعهم المستميت عن الجاني، ولكن أرفض بشدة أن يقدموني كبش فداء على
مائدته!
………………………………
هل هناك إنسان سوري لا يعرف المثل الذي نكرره “الكردي جحش”؟هل هناك نسان سوري لا يعرف اللقب الذي نطلقه على المسيحي “عبّاد الخشبة؟في أواخر السبعينيات كنت طالبة في كلية الطب بجامعة حلب.في أحد أيام آب اللهّاب انقطعت الكهرباء في مشفى حلب الجامعي، بينماكنت وثلاثة من زميلاتي نأخذ المصعد في طريقنا إلى الطابق العلوي.كان الجو حارا للغاية، وبدأنا نرتعد خوفا من الموت خنقا.قلت، في محاولة للتخفيف من حدّة الأمر: غدا صباحا ستفيق مدينة حلب على أوراق نعي تملأ الحيطان “أربع طبيبات قضين شهيدات في ساحة العلم”!فردت إحداهن على الفور: ثلاث، العلويون لا تنطبق عليهم الشهادة!كذلك، كنت يوما أشتغل مدرسة لمادة العلوم الطبيعية في إعدادية الأم بمدينة حلب. جلسنا نحن المدرسات في غرفة الإدارة نتبادل أطراف الحديث أثناء فترة الإستراحة، وإذ بي أسمع إحداهن تقول لأخرى: هي علوية، والعلويات عرضهن رخيص.في هذا الجو الموبوء بالقهر لم أكن الإستثناء، وعانيت كما عانى غيري.كان الإحساس بالذل والمهانة يزيدني انبطاحا أمام الجاني، ويزيدني رغبة في الدفاع عنه!لكنني أشكر الظروف التي ساعدتني على أن أتحرر من عقدة “كيس الحاجة” سنينا قبل أن أسعى لتحرير غيري.
منذ فترة ليست طويلة، وبالصدفة المطلقة، فتحت رابطا الكترونيا فوجدت فيه مقابلة مع ابن أخ الموسيقار الكبير فريد الأطرش.
كلنا نعلم بأن فريد الأطرش هو أحد أبناء الطائفة الدرزيّة، وكلنا نعرف أن للدروز ديانة خاصة بهم ومستقلة عن الإسلام، وكلنا نعرف بأن تلك الطائفة قد عانت كما عانى غيرها من الأقليات.المهم، في النهاية شكر المذيع ضيفه وكان على وشك أن ينهي اللقاء،
عندما طلب منه ابن أخ الموسيقار السماح له بكلمة أخيرة، ثم قال بدون مقدمة ولا سابق انذار:(أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله)وجدت نفسي أضرب رأسي وأصرخ: ياحرام……يا حرام….ياحرام!لم يقلها من باب إشهار إسلامه، وإنما من باب التودد لمذيع ولجمهوره من الأكثرية.إنها عقدة “كيس الحاجة”….إنها علاقة القط بخناقه!
قد يحتج عليّ أحدهم بقوله: ولكن كل إنسان سواء ينتمي للأكثرية أو للأقلية يتعرض خلال حياته للتجريح!هذا صحيح، ولكن عندما
يوصم الإنسان بدينه أو طائفته أو عرقه أو على أساس أية هوية لم يخترها لنفسه، وخصوصا عندما لا يستطيع أمام الأكثرية أن يفند وصمه، يكون الجرح أعمق وأشدّ ألما!
………………………………………
أخيرا وليس آخرا، لجمهوري من الـ “طبالين” (كما يصفهم بعض السفهاء)، أقول:النقطة الدائمة علاّمة، وقطرة المطر الواهنة تستطيع ـ لو استمرت ـ أن تحفر شقا في الصخر الصلد.أرجوكم استمروا…..ارحموا عقدهم ولا تأبهوا لنقيقهم!إذا كنا نحن الطبالين، فهم الطبل
الذي نقرع عليه، وسنظل ـ بلا هوادة ـ نقرع على جماجمهم المتكلسة حتى نفتحها ونثبت حقيقتهم المجوّفة.أكاد أرى بذرة صغيرة تنبت في صحراء العقل العربي…فامطروا…واقرعوا…ولا تدعوا سفيها يخلط عليكم الأمر بين قرع المطر وقرع الطبول!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.