رشيد الخيّون: الإتحاد الاماراتية
حكم الخليفة العباسي الرَّابع هارون الرَّشيد لثلاثة وعشرين عاماً، وهو حفيد خليفة ونجل خليفة وأخو خليفة، وأبٌ لثلاثة خلفاء، وتولاها وعمره تسعة عشر عاماً، ولم يتول قبله خليفة أصغر منه سناً. وسمَّى المؤرخون المتأخرون عصره (170-193هـ) بالذهبي. وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، ولا يحج إلا ومعه مئة فقيه، ويُصلي في كلِّ يوم مئة ركعة (ابن الطَّقطقي، الفخري في الآداب السُّلطانية).
قصَّدنا أخذ الرِّواية مِن «الفخري» فهو يحسب عليه موت الإمام موسى بن جعفر (183) في سجنه ببغداد، وبالتالي غير متهم بموالاة، فالمعروف عن ابن الطقطقي أنه كان متشيعاً. مِن دون أن يغفل الرِّواية التي قرأناها عند الأقدمين: أن «بعض حُساد موسى بن جعفر مِن أقاربه قد وشى بهِ إلى الرَّشيد، وقال: إن الناس يحملون إلى موسى بن جعفر خُمس أموالهم، ويعتقدون إمامته، وإنه على عزم الخروج عليك، وكثر في القول، فوقع ذلك عند الرَّشيد بموقع أَهمه وأقلقه» (المصدر نفسه). أما الخصوم فلم يذكروا للرَّشيد سوى الأضاحيك وجلسات الترف والقتل. هذا والأخبار تشهد أن بغداد كانت في عصره زاهية مُترفة.
هذا عن الرَّشيد وبعض قصة موسى الكاظم معه، أما السَّيد محمد باقر الصَّدر (أُعدم 1980)، الذي خطابه شاهد مقالنا، فعالم دِين طرح فكرة المرجعية الصَّالحة، ولم يتفق معه الذين وضعوا حداً ما بين السياسة والدِّين، بينما هو أرادها صاحبة الولاية السِّياسية، لهذا لا تجد ارتياحاً لدى خلصاء الصَّدر لمثل أولئك المراجع الأساطين، وارتبط باسمه نشاط حزب الدَّعوة، حتى اعتبر بعد إعدامه، بأنه المُوجد والقائد لهذا الحزب، وذلك ما يخالفه أصحاب الدِّراية.
نعم، كان مِن الأوائل الذين انتموا لهذا الحزب ورعاه حتى إعدامه، ويتعجب مَن يستمع لإذاعة إيران وهي تُبشر الصَّدر بالمظاهرات الداعمة في أن يثور داخل العِراق، ثم جوابه بالصوت أيضاً مِن النَّجف، مشيداً بقائد الثورة الإيرانية الخميني. أقول: كيف يريد الرَّجل العمل في السِّياسة بظل جبروت سلطة «البعث»، بينما دولة خارجية تحرضه على الثورة، ويومها كانت إيران معادية والحرب معها على الأبواب! وإذا تجردنا مِن العاطفة نجده لم يُقدر الحالة، أو أن الصَّدر ليس له في السِّياسة والعمل الحزبي، فالسِّياسي لا يسعى إلى الانتحار، ونحر الآخرين بسيف خصمه.
كان باقر الصَّدر نموذجاً في النزاهة والعفة الشَّخصية، هذا ما قرأته عنه، وما كنت أسمعه مِن أحد القريبين لي، وكان مِن خلصائه ويحرص على زيارته في كلِّ نهاية أسبوع، وهو الآخر، عندما أتذكر تصرفاته الانتحارية لا أراه صالحاً للعمل السِّياسي والحزبي، فكان يريد أن يموت مبهوراً بالثورة الإسلامية، حتى أُلقي القبض عليه وأعدم قبل الصَّدر بنحو شهر.
أقول هذا كي أوضح الصّورة لما جرى مِن بعد، وكيف أن الضَّحية تُشارك جلادها وتعطيه فرصة اقتناصها. ولأني أعرف عفة ونزاهة الاثنين، أقول: إنهما لو عاشا، إلى هذا الزَّمن، إما أن يتغيرا بتغير الدُّنيا ويرتضيا بما سينظرانه الآن مِن فساد مستشرٍ، ويغضا الطَّرف عن اضطهاد كبار علماء الدِّين بطهران، وفي حياة الخميني وهو رمزهما في الثورة والسُّلطة المرتجاة، فقصة اضطهاد آية الله شريعتمداري (ت 1985) وآية الله محمد طاهر الخاقاني (ت 1985) وغيرهما معروفة، وإما أن يُعلنا البراءة، وبالتالي علامَ سالت الدِّماء؟
هنا نستذكر واحدة مِن مجالس الصَّدر مع الطَّلبة، ولم يكن تنظيم «الدَّعوة» في الحوزات الدَّينية والجامعات قليلاً قياساً بالظُّروف العصيبة، وبالفعل مَن عمل آنذاك وأعدم كان غاية في نكران الذات، وهذا ما ينطبق على أحزاب أُخر كالحزب الشّيوعي العِراقي، وتنظيم البعث المعارض، المعادي للسُّلطة ببغداد، والتنظيمات الأُخر.
كان الصَّدر في خطابه ذاماً للدُّنيا وحاثاً على الموت زهداً، طالباً أن يُربط الشعار بالتطبيق. كان يقصد السُّلطة القائمة والسَّامعين وهم الأمل في الوصول إلى السُّلطة الزَّاهدة بالمال والمؤتمنة على الدِّماء، ولعلَّ أحد المتغالبين على العقارات، والقاطنين في قصور الرَّئاسات الفارهات الآن، كان حاضراً ذلك المجلس! اتخذ الصَّدر زمن الرَّشيد للتعبير عن الحالة شفرةً، وكأنه اعتبر نفسه موسى بن جعفر وصدام حسين (أعدم 2006) الرَّشيد، وبهذا تحدث محذراً الدُّعاة مِن الاستقواء بقبول الدُّنيا عليهم، في ما لو أتتهم مثلما حصل بعد أبريل 2003.
بعد سِماع أكثر مِن تسجيلٍ له، أيقنت أن ذلك الصَّوت الرَّخيم هو صوته؛ نافث مِن صدر متعبٍ قلقٍ، ليس على نفسه إنما على أصحابه، وعلى فكرة رعاها، وكيف يكون صوت مَن كان يرفض إدخال صندوق الثلج إلى داره، وكانت الحقوق مِن الخُمس تأتيه، أو يُحرِّم على طفله شراءَ لعبةٍ؟ وبهذا أراد أن يكون متصالحاً مع نفسه لا منافقاً! فمثله هل سيجعل ولده مسؤولاً يُطارد غيره، إذا ما أقبلت عليه الدُّنيا. أو هل سيولي زوج ابنته ولاية، ويمنع التحقيق معه في شأن حادثة اغتيالٍ؟ هل سيقبل لصاحب عمامة مِن خاصته الاستيلاء على عقار بسعة 16 دونماً مثلاً؟
يقول في مستهل الخطبة: «نحن أولى النَّاس بأن نحذر مِن حُب الدُّنيا، لأننا لا دنيا عندنا كي نحبها، ما هي هذه الدُّنيا التي نحبها؟ ما هي إلا مجموعة مِن الأوهام، لكن دُنيانا أكثر وهماً».
غير أن باقر الصَّدر قال وكأنه مكتشف المستقبل، لذا اعتبر التجربة هي المحك: «نحن نقول بأننا أفضل وأتقى مِن هارون! عجباً، نحن عُرضت علينا دُنيا هارون الرَّشيد فرفضناها حتى نكون أورع مِن هارون الرَّشيد؟ في سبيل هذه الدُّنيا سجن موسى بن جعفر. هل جربنا أن هذه الدُّنيا تأتي بأيدينا حتى لا نسجن موسى بن جعفر»؟!
لهذا قال أحد خُلصاء الصَّدر ومجايليه: «فلا أخشى مَن يُتاجر به صورةً، ولو كان حياً لربَّما سعى مَن سعى مِن الحاضرين إلى التَّخلص منه، لأنه سيمنعهم مِن التجارة بالوطن والدِّين»! أدع المشهد المعيش، في ظل سلطة حزبٍ عدَّ نفسه انتصر على أعداء إسلامه السِّياسي بدم باقر الصَّدر، هو الذي يتكلم. فها هم ينعمون بدنيا هارون ويتركون بغداد خراباً! ولا أزيد: «وفي النَّفسِ ما أعيا العِبارة كشفه/ وما قَصرَ عن تبيانه النَّظمُ والنَّثرُ» (الرَّصافي، رسائل التَّعليقات).