لا حياد في المعارك الأخلاقية الكبرى!

 الشرق

يمتلكني غضب شديد وإحساس بـ”القرف” عندما أسمع البعض يدعو إلى الموضوعية والحياد والنزاهة والمهنية عندما يكون الصراع قائماً بين ظالم ومظلوم، أو بين ضحية وجلاد، أو قاتل ومقتول، أو ثائر وطاغية، أو ذابح ومذبوح، أو جيش مدجج بالسلاح وشعب أعزل، أو بين من يطالب بالحرية والكرامة ومن يدوس الحريات والكرامات.

كم أشعر بالاشمئزاز عندما أقابل شخصاً مازال متردداً في اتخاذ موقف صريح لصالح المظلومين والمذبوحين بحجة أن المسألة مازالت ضبابية، وأنه لم يتأكد بعد من هوية الجاني والمجني عليه. ومن الأكثر إزعاجاً أن تجد بعض الإعلاميين الذين يتشدقون بضرورة التعامل بموضوعية ونزاهة مع الثورات العربية ضد الطغاة والقتلة والجزارين؟ هل من الموضوعية أن تعمل على إبراز وجهة نظر الطواغيت والسفاحين والمجرمين وإعطائهم منبراً كي يتقيأ المتحدثون باسمهم والمدافعون عنهم ترهاتهم وأكاذيبهم وحزعبلاتهم الرخيصة على الناس؟

لا أدري لماذا تثور ثائرة بعض المتشدقين بالحيادية والموضوعية عندما تنحاز بعض وسائل الإعلام لجانب الشعوب الثائرة وقضاياها العادلة ضد الظلم والقهر والفقر والاضطهاد؟ هل يعقل أن نطالب تلك الوسائل بأن تكون حيادية ومهنية في معارك أخلاقية عظيمة، الباطل فيها جلي، والحق أجلى؟ لا أدري لماذا ينزعج البعض من مجرد الوقوف إلى جانب المذبوحين بحجة المهنية والموضوعية والحيادية. لماذا يزايدون حتى على أعتى الديمقراطيات الغربية التي لم تتخذ يوماً موقفاً “ديمقراطياً” من أعدائها؟

متى شاهدتم وسيلة إعلام غربية واحدة تحاول إبراز وجهة نظر الخصوم في أوقات الحروب؟ هل كانت وسائل الإعلام الأمريكية “الديمقراطية” مثلاً تبرز وجهة نظر أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة أثناء الغزو الأمريكي لأفغانستان؟ أم أنها كانت تعمل بشتى الطرق على شيطنته وتشويهه في نظر العالم؟ هل سمحت هيئة الإذاعة البريطانية للنازيين أثناء الحرب العالمية الثانية بالتعبير عن وجهة نظرهم “النازية” في خضم المعارك الدائرة بين قوات الحلفاء والمحور؟ طبعاً لا، ومن حقها. ألم تشاهدوا ما أصبح يعرف لاحقاً في الإعلام الغربي بظاهرة “الصحفيون المرافقون”

‘EMBEDDED JOURNALISTS

”؟ ألم يرافق هؤلاء الصحفيون القوات الغربية في هذا البلد أو ذاك لإبراز وجهة نظرها وحدها دون غيرها وتشويه وجهة نظر الطرف الآخر؟ ألم يكن أولئك الإعلاميون ينظرون إلى الأمور من وجهة نظر محددة لا يمكن أن يحيدوا عنها قيد أنملة، وهم الذين يتشدقون بالديمقراطية وحرية التعبير والتعددية وغيرها من الكليشيهات الديمقراطية الممجوجة؟ طبعاً لا أثني بأي حال من الأحوال على هذه التصرفات الإعلامية القميئة، لكن أسوقها كأمثلة في وجه أولئك الذين يريدون من وسائل الإعلام أن تقف على الحياد في القضايا التي لا تحتاج إلى أخذ ورد، والأسود فيها واضح والأبيض أوضح، كثورات الشعوب العربية ونضالاتها الحالية العظيمة ضد قوى البغي والطغيان المتمثلة بالديكتاتوريات الساقطة والمتساقطة.

من الخطأ الشديد أن يتشدق المرء بالموضوعية والحيادية في مثل هذه الأمور. لا حياد في هذه المعارك، وعلى كل من يمتلك ذرة إنسانية أن يختار الجانب الصحيح فوراً دون أدنى تردد، حتى لو كان إعلامياً، فالإعلام ككل المواقف الإنسانية الأخرى يجب أن يصطف مع الخير ضد الشر دون أدنى تلكؤ أو تعلل بالحياد والنزاهة.

كل من يتحجج بالموضوعية والحيادية والمهنية في المعارك الأخلاقية الكبرى كثورات الشعوب هو في الجانب الخطأ بقصد أو بغير قصد. كم كان مارتن لوثر كنغ مصيباً عندما قال: إن”أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الذين يقفون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة، وأن المصيبة ليست في ظلم الأشرار وإنما في صمت وحياد الأخيار”. كم كان أينشتاين محقاً عندما قال:” لا شك أن الأشرار في العالم يشكلون خطراً، إلا أن الخطر الأعظم يكمن في الأخيار الذين يقفون محايدين حيال ذلك الشر”. ألا يقولون أيضاً إن الساكت عن الحق شيطان أخرس، فكيف من يقف ضده بحجة الحيادية؟ إن الوقوف على الحياد في معركة بين القوي والضعيف هو وقوف مع القوي المتجبر بالنتيجة. كم هي محقة الإعلامية الأمريكية المشهورة كريتسان أمانبور عندما تقول: “في نقطة ما يكون الوقوف على الحياد تواطؤاً مع المعتدي”. ونحن نقول أيضاً إن الوقوف على الحياد في ثورات الشعوب الكبرى ليس حياداً، بل هو موقف سياسي بامتياز يجيّره الطواغيت لصالحهم بحجة أن السكوت علامة الرضا، خاصة أننا نعلم أن الساكت عن الحق شيطان أخرس كما علمتنا ثقافتنا العربية والإسلامية العظيمة.

ما أتفه أولئك الذين يكتبون عن فوائد البطيخ ومضار الشيشة على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي بينما يرون الموت والخراب والدمار من حولهم، بحجة الوقوف على الحياد. الموقف الأخلاقي الحقيقي هو الوقوف مع العدل ضد الظلم الواضح، ومع الحرية ضد الاستبداد البيّن. متى يدرك الواقفون على الحياد أنه لا يوجد قيمة لموقف المحايدين في القضايا الكبرى إلا لصالح الظالمين؟ إنه تواطؤ مقنّع حقير. متى يخجل أتباع “حزب الكنبة” من أنفسهم؟ قال حياد قال!

About فيصل القاسم

صحفي معد ومقدم برامج سوري ال بي بي سي قناة الجزيرة الاتجاه المعاكس
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.