الشعب السوري قاطبة لا يستطيع أن يرى الماء الذي يسبح فيه

مرّت سمكتان مراهقتان وهما يتمختران من جانب سمكة مسنة، فسألتهما: كيف رأيتما الماء الذي تسبحان فيه اليوم أيتها الشابتين؟ لم يأبها لسؤالها، وتابع سيرهما بدلال، ثم التفت إحداهما إلى الوراء وقالت لزميلتها: ماذا تقصد بالماء هذه المعتوهة؟!
……………….
الشعب السوري قاطبة يمرّ اليوم بمرحلة المراهقة الفكرية، ولذلك لا يستطيع أن يرى الماء الذي يسبح فيه، شأنه في ذلك شأن كل شعوب المنطقة التي تنهل من نفس المستنقع الثقافي!
……..
أقرا على صفحات الميديا الاجتماعية عبارات تحز في قلبي أكثر مما حزّت سكاكين داعش في رقاب الناس (الدولار يتقهقر أمام الليرة السورية….. عاش القائد….عاش ….عاش) أنجرح لا لأن الدولار يتقهقر، إذ لا أحد في أمريكا يعرف الليرة السورية، ولكن أنجرح لأن الكذبة تنطلي بسهولة على شعب صار كله تحت الأنقاض ومازالت المسرحية مستمرة… شعب فقد قدرته على المحاكمة العقلية ليسأل: كيف يتقهقر الدولار وترتفع الليرة السورية وتستمر الأسعار في الارتفاع، وكل شيء مسعّر وفقا للدولار؟ شعب، لم تنجح قيادته ولا ثورته يوما في شيء إلا في إفشاله، ومازال مصرا أن لا يرى الماء الذي يسبح فيه، ممزقا بين معارضة معارصة ـ كما يحلو للبعض أن يسميها ـ وقيادة قوادة ـ كما يحلو للبعض الآخر أن يسميها ـ وجميعهم على حق، فالتعريص والقوادة وجهان لعملة واحدة!!
…………
البارحة سيارة مفخخة أودت بحياة الكثيرين من الأبرياء في مدينة حمص…. لم تأتِ على ذكرها وسيلة إعلام عربية، وكأن الأمر أتفه من أن يُذكر، واليوم يتباكي الشعب السوري بشقيه المعارض والموالي على القدس، ألم أقل لكما أنهما مؤخرتان في سروال واحد؟؟ يبحث كل شق فيهما عمّا يظنه قضية عادلة كي يتخذ منها قميصا لعثمان فيتباكى عليه في محاولة لاثبات نزاهته ووطنيته!!
….
في الخطاب الأول الذي ألقاه حافظ الأسد بعد استيلائه على مقاليد السلطة، قال: سأجعل لكم من فلسطين حمص سوريا! (باعتبار حمص تتوسط سوريا) رغم غضاضة سني يومها صفقت له حتى التهبت كفايّ (كنت حينها أظن نفسي جيفارا سوريا وقبل أن أكتشف بأن جيفارا لم يكن إلا “زهران علوش” كوبا) قالها الأسد ظنا منه أن تلك القضية توحد الشعب السوري حوله أكثر مما تمزقه ثقافة “الثلاث وسبعين فرقة ، وواحدة هي الناجية”
…….
قرابة خمسين عاما ونظامه يحاول أن يرقع خزقا بحجم تاريخ سوريا الاسلامي, بخرق أصغر من فتحة مرحاض في حمص، خزقا شرخ الأمة المحمدية بكاملها، إن كان لمحمد أمة كما ادعى!! تغاضى الأسد عن الأحقاد المتوارثة من جيل إلى جيل وعلى مدى ١٤٠٠ عاما، وتغاضى معها عن المد الاسلامي الذي كان يجتاح المجتمع السوري، ويضرب في عمقه، محاولا أن يبرهن على مصداقيته بادعائه أنه مسلم أكثر من ابن تيمه، وبأنه مخلص أكثر من ياسر عرفات، فهو لم “يصافح” اسرائيليا وسيجعل من فلسطين حمص سوريا، أملا في أن يعتبروه يوما من الصحابة “المبشرين” بالجنة، وليس “نصيريا ماجوسيا” حتى ولو تعلق بحبال الكعبة!
……..
George Barna
مفكر أمريكي اشتهر ببحوثه التي دارت عن علاقة الدين بالثقافة الشائعة، يقول
Every leader has an incomplete set of tools to lead with and must, therefore, know what he can and cannot do.
(كل قائد وصندوق عدته ناقص، لذلك يجب عليه أن يعرف ما يستطيع ـ وما لا يستطيع ـ فعله)
….
أتساءل اليوم: ماهو صندوق العدة الذي اعتمد عليه الأسد ليجعل من فلسطين حمص سوريأ؟ هل كان معامل الأسلحة التي يملكها والتي تنافس ترسانة الأسلحة الاسرائيلية؟؟ أم هو معاهدة الصداقة مع الروس؟؟؟ أم هو وحدة شعبه الذي تربطه أواصر “أخوة” لا تخلخلها قوة أخرى؟؟ أم كان يدرك أنه سيقود شعبه باتجاه حرب مجنونة وغير متكافئة جعلت حمص فلسطين سوريا؟؟؟
…..
كنت أراقب مؤخرا مقابلة مع رئيس البنك الروسي المركزي، سأله مقدم البرنامج: لماذا سمحتم لأمريكا أن تجتاح العراق؟ فرد بدون تردد: دفعوا لنا اربع مليارات مقابل ذلك، ملياران على شكل مواد غذائية وسلع وملياران نقدا! ما الذي جعل روسيا تتخلى عن العراق ويمنعها أن تتخلى عن الأسد عندما تتلقى دفعة غذاء أخرى؟؟ لا يثق بمعدة خاوية، أزمن جوعها، إلا كل أحمق ارعن، فالجوع كافر!
…………..
اليوم لا تعنيني قضية القدس، ولم تكن تعنيني يوما! فهي ليست قضيتي ولا استطيع أن أتبناها أمام قضية أحق مني بها، قضية خمس وعشرين مليون سوري، المرتاح فيهم مرهق حتى الانهيار! ليست القدس قضيتي أمام قضية أقدس عندي وأكثر إلحاحا…. قضية أكثر من نصف مليون سوري قضوا نحبهم، وأكثر من أربعة ملايين يلقون أنفسهم بالبحار هربا من جنون الحرب، والباقي يعيشون فوق ركام عمراني وبشري وأخلاقي رهيب أكثر من الموت!
…..
(كل مدينة برقاب أهلها تناط) لنا مدننا العائمة على خراب، ولهم قدسهم. لست هنا لأقوض من عدالة قضيتهم، والأمر أقل ما يعنيني. لكنني هنا لأفضح قيادة منافقة رعناء، زعمت أنها ستجعل من فلسطين حمص سوريا فجعلت من حمصنا فلسطين سوريا!
ولأفضح شعبا فقد بصره وبصيرته ولم يعد يرى الماء الذي يسبح فيه! ليت السوريين اليوم ينعمون في مدنهم (فقط فقط فقط) بنفس المستوى الذي ينعم به الفلسطينيون الذين يعيشون في القدس المحتلة. هل رأيتم أحدا منهم يلقي نفسه في البحار هربا من ظلم اسرائيل؟؟؟؟
…………….
العين لا تواجه المخرز! لكن الطغاة يقلعون عيون شعوبهم ليحموا بها عروشهم…. في اجتماع لنا مع وزير الدفاع مصطفى طلاس يوم كنا طلابا في الجامعة، قال في سياق خطبة عصماء: (اسرائيل تهستر عندما تخسر جنديا، أما نحن فلدينا رجال لا يأبهون الموت) طبعا، من السهل أن يتبرع سيادته من جيب غيره. لو اعتبر ابنه نواف من هؤلاء “الرجال ” الذين قصدهم لعدّ للعشرة قبل أن يضحي بهم. بينما المسؤولون في اسرائيل لا يميزون بين أبنائهم وأي من أبناء شعبهم، فكل حياة من أفراد شعبهم مقدسة، ولذلك يهسترون عندما يخسرون حياة، أما نحن فنرقص تحت نعوشهم ونزغرد، ونوهم أنفسنا أنهم قتلوا في سبيل الله وهم أحياء عند ربهم يرزقون!!!! قادة اسرائيل هم القادة الحقيقون، أما أنتم فعصابة لا تقيم للحياة وزنا، ولا تلتزم بخلق أكثر من ربع مليون من هؤلاء الرجال فقدوا حياتهم عبثا، بينما أولاد طلاس يقامرون في كازينوهات اوروبا، تدعمهم البلايين التي سروقها، وينتظرون أول فرصة لينقضوا على ما تبقى من جيفة الوطن!
………..
لن تخرج سوريا من رمادها إلا بمعجزة تحمل لها قائدا يعرف تماما ما يوجد وما ينقص في صندوق عدته، وبالتالي يعرف ما يستطيع ـ وما لا يستطيع ـ فعله، فالقائد الناجح يعرف حدّه ويقف عنده! ليس هذا وحسب، بل يبدع ضمن تلك الحدود!
…………
حمص ودمشق وحلب وادلب وكسب هي حدودنا، وليست القدس. الأجدر بتحرير القدس خالد مشعل وزبانيته والدواعش الذين يدورون في فلكه بشرط أن لا يتصدقوا من جيوب غيرهم فلقد تصدقنا بما فيه الكفاية!!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.